من الرومانسية للتاريخية ثم الواقعية.. كيف اخترقت الرواية الأردنية المحظورات وكشفت المستور واهتمت بالمهمشين؟ | ثقافة


عمّان – إذا كانت الرواية تتجاوز أكثر الأجناس الأدبية منزلة وسبقا واحتواءا للتاريخ وقدرة على كشف المستور أو المسكوت عنه، فأين يقع المنجز الإبداعي الأردني؟ وما دوره في رصد ما عايشه المجتمع من تقلبات سياسية وفكرية واجتماعية واقتصادية؟ وهل كان صوته عاليا أم خافتا مرتجفا؟

هناك ما يشبه الإجماع على أن الرواية الأردنية التي انطلقت في الثلاثينيات -وفق روائيين- حملت هموم المواطن وشخّصتها بمصداقية وصوت مرتفع ودون خوف أو تردد وحققت بفضل الرواد الأوائل والمجايلة مكانة مرموقة في المشهد العربي ونال عدد من مبدعيها جوائز عربية مرموقة.

الرواية تتميز بجسارتها

وفي هذا الشأن يقول الدكتور محمد عبيد الله الناقد وعميد كلية الآداب في جامعة فيلادلفيا إن الرواية تتميز بجسارتها في قراءة الواقع والتاريخ من خلال إمكاناتها التخييلية الممتدة، التي تسمح بعدة مستويات من علاقة النص الأدبي بالواقع فهي قادرة في مستوى أول على وصف الواقع وتحليله تحليلا معمقا لا يقف عند العناصر الظاهرة والمكشوفة وحدها، وفي هذا المستوى فإنها تعرفنا بالواقع المحيط بنا والواقع الذي نعيشه، ذلك أنها ذات مقدرة كاشفة ومستبصرة.

كما تمتلك -والحديث للناقد عبيد الله- مقدرة نقدية تجعلها قادرة على نقد الواقع وكشف عيوبه واضطرابه، وتستعين بإمكاناتها الأسلوبية واللغوية ومقدرتها على توظيف السخرية والمفارقة ونحو ذلك من أساليب. وتستطيع الروايات العظيمة أن تقدم تشريحا نقديا مصحوبا بعالم بديل للواقع عماده التخييل الروائي وإمكاناته الممتدة.

اجتهادات متقدمة على المجتمع

وقال عبيد الله للجزيرة نت إن الروايات الأردنية قدمت اجتهادات كثيرة في قراءة الواقع ونقده وتحليله، ويمكن القول إن الكتابة الروائية بما هي إنتاج لأفراد متميزين تبدو متقدمة على المجتمع الأردني وبناه التقليدية بوجه عام، ولذلك فلا نستغرب بعض الحوادث أو ردات فعل على بعض الروايات مثل حادثة “رواية ميرا” لقاسم توفيق وغيرها، إذ تبدو الرواية في واد والمجتمع أو بعض ممثليه في واد آخر، دون إدراك طبيعة الرواية التي تعيش على الحرية وتتبنى منظورا جريئا في مواجهة عيوب الواقع وأكاذيب المجتمع.

كما تتيح الرواية كذلك فرصة إبداعية ممتازة للاهتمام بالقطاع المهمش اجتماعيا وسياسيا، ويمكن هنا أن نستذكر بعض الروايات المبكرة لجمال ناجي ومؤنس الرزاز وإلياس فركوح وإبراهيم نصر الله وسميحة خريس وهاشم غرايبة، وصولا إلى تجارب أحدث عند جلال برجس وهزاع البراري وعبد السلام صالح وغيرهم، فمعظم كتابات هؤلاء تميزت بمنظورها النقدي وقدرتها على تقديم تاريخ مواز للتاريخ الرسمي.

الرواية والمنظور الحر

ووفق عبيد الله فإن الرواية بطبيعتها الكاشفة قادرة على تقديم ما هو متوار وما هو مهمش، فالمتن غالبا ما يكون من صنع السلطة وأذرعها الثقافية، وغالبا ما يكون متنا مزيفا أو منحازا أو موجها، أما الصورة الأكثر قوة ودقة ومصداقية فيمكن أن نطلبها في الرواية رغم ما فيها من تخييل قد يعده بعضنا معارضا أو منافيا لفكرة الدقة التاريخية والواقعية، وربما ليس المهم أن تكون دقيقا بمقدار أهمية أن تكون حرا ومستقلا وقادرا على الحفاظ على مسافة أمان مع دعاوى التاريخ المكرس والواقع المزيف.

وأكد في ختام حديثه على أن الرواية الحقيقية هي التي تتبنى منظورا حرا مستقلا لا يجامل ولا يحابي ولا يزيف، فالرواية منذ “دون كيخوته” لسيربانتس تحتاج إلى أبطال ساخرين يستعملون التهكم سبيلا لإغاظة الواقع الجاد وكشف عيوبه وعيوب أبطاله غير الحقيقيين.

انعكاس للواقع

ويرى الروائي قاسم توفيق أنه من الطبيعي أن يكون هناك فاصل بين الرواية التاريخية التي تكتب لأغراض وأهداف توثيقية وسياسية ونفعية في كثير من الأحيان وبين الرواية التي تؤطر أساسا بالصورة الجمالية للواقعية وليس بالضرورة أن نشرح أن الجمالية تعني مجال الأحداث والأشياء فقد تكتب رواية عن قبح وكوارث وبشاعات ولكن يفترض في نصها أن يكون جماليا وفنيا لكي تتميز من حيث الشكل عن النص التأريخي .

وقال توفيق للجزيرة نت إن الرواية انعكاس للواقع لكن برؤية فكرية يمتلكها الراوي وينقلها وفق نظرته الفلسفية والوجودية للأحداث وهذا ما يميز الرواية ولا يجعلها تأريخا بل يصنع منها عالما جديدا ومختلفا عن العالم الحقيقي الذي أخذه الراوي منه وهنا تكمن قيمة الرواية في فلسفة ووعي المؤلف.

ومن جانب آخر، يرى قاسم أن الرواية التاريخية “الرسمية” تخلو من مسألة مهمة جدا تجعلها مؤثرة؛ هي الجانب النفسي الذي يخرجه الكاتب من شخوص فردية وأحداث ضيقة وصغيرة من تشكلها الجمعي الكامل لتوضيح الحالة، فلا يذكر التاريخ الحالة النفسية التي يعاني منها أشخاص يختبؤون من قصف قنابل الطائرات “لكن الروائي يتحدث عن هذه النفوس وحالات الفزع وانعكاساتها على تشكيلهم في تلك اللحظة من الخوف وطلب النجاة وكذلك السؤال لماذا نحن هنا تحت القصف”.

ووفق قاسم فالرواية التاريخية تؤرخ للحالة وهذا التأريخ ينطبق على كل من عاش الخامس من يونيو/حزيران 1967 “لكن في رواية ” ليلة واحدة تكفي” حاولت سبر شخصية الناس من خلال شخصيتين هما “وجدان وذيب” وإخراج كل مكنوناتهما التي كانت متوارية أساسا في داخلهما إلى أن نبهتها أصوات الطائرات والقصف وإعلان الحرب فعادت لهما حياتهما بتفاصيلها الصغيرة والدقيقة منذ بداية وعيهما، وهذا أمر لا يمكن أن تجده في أية رواية رسمية”.

وكما جاء في “ليلة واحدة تكفي” التي وصلت للقائمة الطويلة في جائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها للعام 2023 “هل من المعقول أن تقف أمة بكاملها على عتبة يوم واحد من تاريخها لا تبارحه لأكثر من نصف قرن؟”.

ويذكر قاسم توفيق أن هناك في الأدب الروسي خلال الحرب العالمية الثانية حدث يحكي عن طفلة تكتب مذكراتها؛ إذ تذكر في اليوم الأول “قتل أبي” والثاني “قتل جدي”، ويقول “هذه القصة التي تتحدث عن داخل الصبية وفزعها من الحرب تعادل كتابا في تأريخ المعارك وهو الجانب الذي أراه مهما ولا يمكن أن يكون ضمن الروايات الرسمية”.

“الرسمية” والجوانب النفسية

ومن وجهة نظر قاسم توفيق فالحب أساسا نقيض الإحساس بالوحدة والخوف، فلم يعد أمام “وجدان وذيب” ملجأ سوى أن يتقربا عندما يجدا أن هناك أشياء كثيرة تجمعهما فلا بد أن يتطور ليصبح حبا وخاصة أنه لا يوجد هناك فوارق ولا مؤثرات تحاول كسر هذا الحب لو أنهما على دين مختلف أو قبائل مختلفة متنازعة، فكل هذا سوف يغيب لأن كل واحد منهما لم يبق لديه تلك الليلة سوى الآخر “هي حالة جدل يعيشها كل واحد منهما مع نفسه وفي بحثه عمّا تبقى له فلا يجد سوى الآخر الذي أمامه”.

ويرى قاسم أن الرواية الرسمية لا تتعرض للجوانب النفسية التي يعيشها الأشخاص بل تأخذ الشكل العام للمجتمعات فعندما نقول “إن هنيبال اجتاز جبال الألب، تحول التاريخ لشخصية هانيبال، في حين لو كتبت الرواية غير تأريخية لكتب الروائي عن الجنود والطباخين والفيلة التي استخدمت لاجتياز الجبال ولما عاد هانيبال الشخصية الرئيسة في الحدث، كما أن هتلر لم يشارك في غزو العالم، بل إن جنوده وأرتاله هم الذين اجتازوا العالم”.

جرأة وكشف المسكوت عنه

وفي حديثها للجزيرة نت قالت الناقدة الدكتورة دلال عنبتاوي “لقد عبّرت الرواية العربية في بداياتها عن المجتمع بكافة تفاصيله مقتدية بالرواية الرومانسية الغربية وانتقالا للتاريخية، ثم أخذت الاقتراب من الواقعية والتعبير عن الواقع مع بعض التحلل من التابوهات الثلاثة”.

ولعل أول “تابوه” ابتعدت عنه الروايات العربية هو الدين ثم السياسة وظل يتسلل إلى محتواها الجنس بإشارات خفيفة وتحت أغطية عدة، فأصبحت الروايات تقترب من تابو الجنس بصفته محظورا كبيرا، إلا أنها عبّرت عنه ضمن إطار التعبير عن علاقة المرأة بالرجل.

ونوهت الناقدة برواية الراحلة ليلى الأطرش “مرافىء الوهم” التي تحدثت بكل جرأة عن العلاقات الشائكة خارج مؤسسة الزواج والمفاصل الصعبة التي تعتري علاقة الرجل بالمرأة، وكذلك قاسم توفيق في روايته “حكاية اسمها الحب” وهما -وفق الناقدة- روائيان متميزان عبّرا بكل جرأة عن تلك العلاقة أحيانا بالوصف الجريء الذي يعريها ويكشف تفاصيلها.

والرواية الأردنية وفق عنبتاوي سعت كذلك للكشف عن المستور من خلال الحديث عن الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة سواء أكان سياسيا أو اقتصاديا، مشيرة إلى رواية الروائي قاسم توفيق “فرومان” التي فضح من خلالها الخلل في المجتمع.

وختمت الدكتورة عنبتاوي حديثها بالقول “في الحقيقة يمكنني القول وبكل صراحة إن الرواية الأردنية أصبحت تسعى للخوض في المحظورات دون تردد أو خوف وكشف المستور وفضحه لتصبح أكثر قربا من المجتمع وتعريته والكشف عن تواطؤ المجتمع والابتعاد عن الجبن والخوف مما ينتظر الروائي”.

مواصفات الرواية الحقيقية

وترى شذى محمد فاعور الدارسة لأعمال الدكتور وليد سيف أن النزاهة والموضوعية هما المعيار العلمي لنجاح أي عمل روائي، وتضيف “من وجهة نظري فإن الرواية الرسمية (التأريخ) تقدم مغلفة بورق سوليفان لخدمة خطاب أو تبرير موقف أو قضية معينة أو تلميع شخصيات أو تجاوز لمرحلة يراد إغفالها أو شطبها من التاريخ”.

وتواصل حديثها بالقول إن الرواية الحقيقية هي التي تغوص في أحداث تاريخية وتكشف المسكوت عنه بعد أن تخضع لمبضع المراجعة ومحاكمة محطاتها بعين ناقد خبير وليس المسوق لها، خدمة لأغراض سياسية أو شخصية.

وفي ردها على سؤال للجزيرة نت، قالت شذى فاعور إن الدكتور وليد سيف يتمتع بعلمية ونزاهة في تقديم رواية تاريخية، فأعماله خالية من الحشو التاريخي وتجميل بعض شخصياتها أو انتقاء مواقف خدمة لجهة ما، بل يجمع تفاصيل قراءاته لشخصيات تاريخية مدعمة بتواريخ حقيقية استقاها من مصادر متنوعة ويخضعها لمراجعة علمية خدمة للحقيقة وحق جمهوره في تصحيح ما عرفه من معلومات غير مكتملة عن روايات تاريخية وهذا ربما لا يكون متوفرا في “التأريخ”.

وإذا عدنا، والحديث لشذى فاعور، إلى دراما “ربيع قرطبة” أو “التغريبة” على سبيل المثال لا الحصر نلمس مصداقية وموضوعية في الطرح وفق التناسق الزمني دون القفز عن حدث على حساب حدث آخر؛ فهناك ثورة 1936 والنزوح ومعاناة الشعب الفلسطيني.

Previous post مجالس علمية لمعاونة مديرى كليات أكاديمية الشرطة بالمسائل المتخصصة
Next post طرق حماية الأطفال من ضربة الشمس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *