القدس المحتلة- يحمل التسعيني محمد عزوني من بلدة كفار سابا المهجرة في منطقة المثلث المتاخمة لحدود 4 يونيو/حزيران 1967 راية العودة، بعد أن حطت به وبعائلته فصول التشريد والتهجير خلال النكبة في بلدة جلجولية المطلة على مسقط رأسه الذي يتوق إلى العودة له.
يستذكر عزوني جيدا الحياة في فلسطين ما قبل النكبة، فالذكريات توثق حياة نشطة منفتحة على العالم مزدهرة بالزراعة وتعجّ بالصناعات الحرفية، وتنشط بالفن والثقافة، كانت شريانا تجاريا وثقافيا وأدبيا، جمعت بين حضارات المشرق والمغرب، وكانت حلقة الوصول والتواصل والقلب النابض للوطن العربي.
عمل عزوني في الفلاحة وزراعة الأرض والتجارة في المحاصيل الزراعية، حيث كانت تجارة نشطة رابحة تدرّ دخلا وفيرا، وكثيرا ما كان يتوقف في تجارته مع والدته في الطريق إلى ميناء يافا في القرى والبلدات التي شكلت عصب الحياة في فلسطين.
حياة فلسطين
“لم تخنّي الذاكرة”، كذلك يقول عزوني الذي يصر على المشاركة في مسيرات العودة للقرى المهجرة وإحياء ذكرى النكبة، “هكذا عشنا في فلسطين.. فجأة أتت مشاهد التهجير والتشريد القسري تحت قوة النار والمجازر التي نفذتها العصابات الصهيونية بحق فلسطين وشعبها”.
وعلى عكس الصورة التي روّجت لها الحركة الصهيونية من أن فلسطين كان قاحلة وبلا حياة، يقول عزوني للجزيرة نت “لقد عشنا حياة زاخرة ومتنوعة وعامرة بالأرض والزراعة والثقافة والفن والتعليم والتجارة والنشاطات السياسية والاجتماعية، وأتت النكبة وما حملت من مجازر لتغتال حياة فلسطين”.
ويستعيد عزوني مشاهد التهجير والتشريد، قائلا “لم تكن هناك حرب بالمفهوم التقليدي بين جيوش، كانت مجازر نفذتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين في قراهم ومدنهم، مجازر لتصفية الوجود الفلسطيني والاستيلاء على الأرض لإقامة وطن قومي لليهود على أنقاض الشعب الفلسطيني”.
فقد عزوني أرضه، لكنه لم يفقد ذاكرته التي تزخر بحياة فلسطين، حيث بدا راسخا وشامخا في تنقله بين القرى المهجرة ورؤية الجيل الفلسطيني الشاب الذي كسر حاجز الخوف وتخطى الرعب والهلع، وما عادت تخيفه مشاهد المجازر، قائلا “جرح النكبة ما زال مفتوحا.. لكن بهذا الجيل الفلسطيني الشاب باتت العودة حتمية وأقرب من أي وقت مضى”.
لنا عودة
تحت عنوان “لنا عودة”، يحلم اللاجئون من فلسطينيي 48 بالعودة إلى قراهم المهجرة والمدمرة، فهناك نحو نصف مليون لاجئ داخل الوطن، تحرمهم إسرائيل من العودة إلى قراهم التي يبلغ عددها 530 بلدة، والتي وظفت أراضيها لتهويد المكان وطمس الهوية الفلسطينية بالمشاريع الاستيطانية.
وأظهرت بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم بلغ نحو 14.3 مليون نسمة بنهاية عام 2022، نصفهم يعيشون في الشتات والنصف الآخر في فلسطين التاريخية، بينهم نحو مليونين يعيشون داخل أراضي عام 1948 (الخط الأخضر).
عادت مشاهد العودة التي تزينها الأعلام الفلسطينية إلى مسيرات إحياء ذكرى النكبة لتحمل فيضا من المشاعر، وسردت الذكريات عن القرى المهجرة واسترجاع الروايات عن الحياة في فلسطين ما قبل النكبة، حيث قطنها نحو مليون فلسطيني في أكثر من 1300 قرية وبلدة.
تجديد العهد
أحمد مطر من بلدة نحلف في الجليل الأعلى شمال فلسطين، يتوق إلى لمّ شمل عائلته من طرف ولدته التي شردت خلال النكبة إلى لبنان، ويعمل بوصية أمه التي عاشت حسرة النكبة وتوفيت لاجئة بالوطن، بالإبقاء على التواصل مع البلدات المهجرة وإحياء ذكرى النكبة حتى تحقيق حلم العودة.
وإلى حين لمّ شمل عائلته التي تعيش في مخيمات اللجوء في لبنان، دأب مطر على اصطحاب ولديه شحادة وورد في تنقله في المهجر والمشاركة في إحياء مسيرات العودة إلى القرى والبلدات المهجرة، وذلك سعيا منه لتوريث أولاده راية العودة والثبات على الحق بالحرية والاستقلال وعودة اللاجئين.
قدم مطر إلى بلدة اللجون المهجرة قضاء أم الفحم لإحياء ذكرى النكبة، قائلا إن “العودة حتمية، فلا الكبار فرطوا وتنازلوا، ولا الصغار نسوا، فإحياء ذكرى النكبة تجديد للعهد لدى اللاجئين لتحقيق حلم العودة”.
ذاكرة شعب
إلى بلدة اللجون المهجرة التي تعدّ بوابة الوادي ومفتاح المرج لعودة اللاجئين، تعود بذكرياتها اللاجئة داخل الوطن ختام جبيلي برفقة صديقتها خالدية أبو جبل عام 1948، ولم تخفيا مشاعر الغضب، قائلة إنه “لأمر قاهر ومستفز حين يُسلب بلدك ويُهوّد وتُطمس معالمه، هذا قمة القهر.. لكن يبقى الأمل بالعودة نابض في قلوبنا”.
وعلى الرغم من الاستيطان وتهويد المكان، وطمس المعالم والآثار ومحاولات تشويه الهوية الفلسطينية، فإن ختام جبيلي ترى أن “العودة باتت حتمية وواقعية أكثر من أي وقت مضى، فراوية النكبة توارثتها الأجيال عن الآباء والأجداد، لكن حلم العودة جسّده النشء الفلسطيني بإحياء مسيرات العودة في الوطن المهجر”.
ورغم حسرة النكبة، تعيش المرأتان مشاعر جياشة ومتأججة بحلم العودة، وتقول جبيلي إن “انطلاق مسيرات العودة 26، للقرى والبلدات المهجرة وإحياء فعاليات الذكرى الـ75 للنكبة، تترسخ في ذاكرة شعب يأبى النسيان، ويصر على تعزيز الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني”.
تعزيز الصمود
لم تقتصر مشاعر اللاجئة جبيلي، المهجرة من بلدة المجيدل المدمرة والتي تسكن اليوم في بلدة طرعان قضاء الناصرة، على الروايات التي سمعتها وعاشتها مع والديها عن حياة سكان القرية ما قبل النكبة، حيث ماتا وهما يحلمان بالعودة إلى مسقط رأسهما.
وسردت جبيلي -في حديثها للجزيرة- مرارة التهجير القسري وفصول النكبة التي يعيشها فلسطينيو 48 والمهجرون بالداخل على وجه الخصوص، حيث تحرم جبيلي التي تقترب من العقد السادس من العمر أسوة بغيرها من مئات آلاف المهجرين داخل الوطن من العودة لبلداتهم المدمرة التي لا تبعد عنهم سوى مرمى حجر.
تفصل بضعة كيلومترات بين جبيلي التي استقرت مع عائلاتها في بلدة طرعان ومسقط رأس عائلاتها في بلدة المجيدل المهجرة، لكن بين ذلك تشق طريقا طويلا من الذكريات تمتد إلى 75 عاما من مشاهد النكبة والحسرة ومشاعر الأسى والتهجير داخل الوطن، مع خوض معركة التحدي وتعزيز الصمود والبقاء حتى تحقيق العودة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.