من أشهر المستشرقين في العصر الحديث، المستشرق المجري إيغناس غولد زيهر، الشهير بـ”غولدتسيهر”، فهو شخصية مختلفة عن كثير من المستشرقين الذين تمت دراسة حياتهم وعطائهم، وقد ظل لفترة يتم الحديث عنه من خلال كتبه التي نشرت وترجمت للعربية، وهي بحسب صدورها تاريخيا باللغة الألمانية أو الإنجليزية:
- الظاهرية.. مذهبهم وتاريخهم، نشر سنة 1884.
- العقيدة والشريعة في الإسلام، نشر سنة 1910.
- مذاهب التفسير الإسلامي، نشر سنة 1920.
وقد نُشر كتاباه الأخيران مترجمين إلى العربية قبل كتابه الأول، ونشر كتابه عن الظاهرية مترجما للعربية سنة 2021، وله كتب أخرى لكنها لم تترجم بعد.
ومنذ ترجمة كتابيه الأخيرين، والنقاش والجدل حول الكتابين وصاحبهما مستمر، بين مؤيد لفكر الرجل، وناقد له، أو مهاجم بشدة، مشككا في مقصده ونواياه، شأن نظرة الكثيرين للمدارس الاستشراقية.
يوميات لا تنشر إلا بعد وفاته
مما نشر مؤخرا لغولدتسيهر، يومياته، وهي أشبه بمذكراته الشخصية، ولم تكتب بشكل اليوميات المعروف اصطلاحيا، فهو لم يبدأ بكتابتها إلا بعد بلوغه الأربعين، وقد أوصى بعدم نشرها إلا بعد وفاته، وتركها أمانة لدى ابنه، وقام ابنه بنشرها بعد وفاته بسنوات.
فقد كتبها للمقربين منه، حيث قال في بداياتها: “أبدأ اليوم كتابة خلاصة لسيرة حياتي، وفقا لما دونته من كتابات قديمة، ولما أتذكره. وقد كتبت هذا لزوجتي وأبنائي، وكل أصدقائي المقربين، على أن تبقى هذه الروايات بعيدة عن الآخرين ما دمت حيا. وإذا ما عرفها أحد -وسيكون هذا مصادفة غير متوقعة- فإنني ألتمس منه كلمة شرف ألا يذيع ما في الورقات التالية، وأن يحتفظ بسرية وجودها”.
تمثل يوميات غولدتسيهر مصدرا مهما للمعلومات عنه، سواء عن رحلته العلمية، أو عن موقفه من شخصيات التقاها في العالم الإسلامي، أو تقييمه لمدارس دينية كالأزهر ودار العلوم، وكذلك للحالة الدينية في العالم الإسلامي الذي زار منه سوريا، ومصر، وفلسطين، وقارن بين حال هذه البلدان من حيث التغريب، والتأثر بالنموذج الغربي، وأي المجتمعات كان أكثر تحفظا، ومقارنته ذلك على مستوى النخبة، وعلى مستوى العامة.
بعد انضمامه للأزهر، كان يختلط بطلبته وقتا طويلا، حتى ألفوه وأحبوه سريعا، وقد أشاد بذلك، وببساطة طلبة الأزهر، وحبهم لكل طالب علم، حتى لو كان أجنبيا غير مسلم
شعاره في الحياة نصان من التوراة والقرآن
لسنا هنا بغرض التعرّض ليومياته كلها، بل نتناول هنا رحلته في طلب العلم في مصر، وتحديدا في الأزهر، ثم نعرض بعد ذلك للتناقض الملحوظ بين موقفه من الإسلام في كتبه التي نشرها وكتبها، وبين يومياته التي هي آخر ما أودعه ابنه للنشر بعد وفاته.
أول ما يفاجئك في يوميات غولدتسيهر، هذه الفقرة التي تقف أمامها طويلا، إذ يقول:
“لقد كانت حياتي منذ صباي يتحكم فيها شعاران:
- الأول: قول نبوي مأثور انطبع في نفسي يوم تعميدي: أيها الإنسان بلغك ما هو الحق، وما يطلبه هوى منك، وهو ليس إلا أن تتبع العدل، وأن ترحم غيرك، وأن تخشع أمام ربك.
- الثاني: آية من آيات القرآن الكريم: “فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون” (يوسف: 18)”.
زيارتان مهمتان لمصر
كانت زيارة مصر لطلب العلم، وبخاصة في الأزهر الشريف، أمنية كبرى لغولدتسيهر، يتمنى أن تتحقق، وقد تحققت بالفعل؛ فزار مصر مرتين: المرة الأولى سنة 1874، ومكث فيها أربعة أشهر، واضطر للرجوع إلى وطنه حيث مرض أبوه ثم توفي. وزارها مرة أخرى سنة 1896، وقد قارن في يومياته بين الزيارتين، من حيث مستوى التعليم في الأزهر، وقد زار في زيارته الثانية دار العلوم.
أمنية الدراسة في الأزهر تتحقق
كانت أمنية غولدتسيهر الكبرى أن يدرس في الأزهر الشريف، وواجهته عقبة أنه ليس مسلما، وأن دراسة غير المسلمين بالأزهر أمر نادر لم يحدث من قبل، فاصطحبه أحد المسؤولين في وزارة المعارف إلى وزير المعارف مصطفى رياض باشا، باعتباره رجلا أوروبيا عجيبا في ثقافته وسعة اطلاعه، وقد أراد وزير المعارف أن يحدثه بالفرنسية، فرفض غولدتسيهر، ورجاه أن يحدثه بلغته العربية، وأعجب بشخصيته، ودعاه لزيارته أسبوعيا. وعرض عليه رياض باشا أن يساعده في أي خدمة يطلبها، فطلب غولدتسيهر أن يساعده في أن يدرس بالأزهر، فأجابه بأن الأمر صعب.
وقال غولدتسيهر: “فبين لي الباشا صعوبة تحقيق ذلك، وأنه لم يدرس شخص غير مسلم بالأزهر، ولكنني لم أقتنع، وأعلنت أنني لا أطلب شيئا غير ذلك، وأنه يمكنه أن يعتبرني مسلما كما قال لي لحبي الشديد لدراسة الإسلام، فقال: ولكن المفتي لن يقبل ذلك، لا أستطيع أن أفرض عليه قبولك. فقلت: اكتب لي توصية بذلك، وسأذهب برجائي القبول”، وبالفعل كتب رياض باشا رسالة توصية للمفتي.
لقاء في منزل العباسي المهدي المفتي شيخ الأزهر
ذهب غولدتسيهر برسالة توصية من رياض باشا، وذهب إلى سراي المفتي العباسي المهدي، وكان جد المفتي مسيحيا وأسلم. يقول غولدتسيهر: “ولما دخلت القاعة وجدت المفتي يترأس جماعة من العلماء، يتناقش معهم في مشكلة تتصل بتوزيع الميراث، فاستمعت للحوار بانتباه وهدوء، حتى انتبه الشيخ الكبير لوجودي، فسألني إن كنت الرجل الذي يوصي به صديقه الوزير؟ وسألني بأي دين أدين. فقلت له: أنا مَن مَنَّ عليه رياض باشا بفضله. اسمي إيغناس المجري، ولدت بين أهل الكتاب، وربيت على الإيمان بالتوحيد”، وكنت قد أعددت هذه الإجابة قبل دخولي القاعة. وسألني المفتي إن كنت فهمت شيئا من محادثتهم عن التشريع الإسلامي، فأخرجت من حقيبتي جداول توزيع الميراث بمقتضى قانون الإرث، فظهرت علامات الدهشة والتعجب على وجوه العلماء الذين يتحلقون في الجلسة.
ثم سأله المفتي عن ضمير المؤمن بالتوحيد، وعما إذا كان غولدتسيهر يريد أن يسخر مما يحدث بالمسجد، وما يقال به. فأكد له إيمانه بالتوحيد، وأنه منذ صباه يحلم بأن يأخذ عن المشايخ، ويتلقى العلم عليهم، وتكلم الشيوخ الحاضرون بما يعين غولدتسيهر على طلبه.
خطاب من شيخ الأزهر يمكنه من الدراسة
اقتنع الشيخ العباسي المهدي بأن يعين الطالب المجري على الدراسة في الأزهر، فكتب هذا المرسوم، ممهورا باسمه ومنصبه:
“إلى شيوخ الجامع الأزهر وطلابه وسدنته.
تقدّم إلينا بخطاب توصية حارة من صديقنا العظيم رياض باشا الطالب المجري إيجناس، وهو من أهل الكتاب، يفصح عن شوقه إلى أن يعمق معارفه عن الإسلام برعاية الشيوخ العلماء بالجامع الأزهر، وقد وهبه الله برحمته معارف كثيرة عن علومنا، وهو يحن إلى أن يخوض البحر الذي تذوق قطرات مالحة منه، وقد أقسم لي أن حنينه هذا لم يدفعه إليه مجرد المعيشة بينكم. وقد أعلن أنه بعيد عن أي رغبة في السخرية منكم. وإنها لمشيئة الله أن يجاور هذا الشاب جامعنا الأزهر، ولا راد لمشيئة الله. وإنني أضع إيجناس في حمايتي طالما يستحق ذلك، وسيقدم نفسه أولا للشيخ الأشموني”.
العلوم التي تلقاها غولدتسيهر في الأزهر
بحكم أنه أصبح مجاورا في الأزهر، فقد تلقى عدة علوم، تحدث عنها، وعن استفادته الكبرى منها، فدرس على الشيخ الأشموني علوم الحديث، وكان شيخا مسنا قارب المئة عام، وتلقى منه أصول الفقه الحنفي والمالكي، وقد احتضنه أحد شيوخ شمال أفريقيا -واسمه الشيخ محفوظ- وقد أثنى عليه كثيرا في يومياته، وكذلك الشيخ السقا، وكانوا أشهر علماء مصر آنذاك كما يقول، واستمع لشيوخ آخرين.
بل كتب يقول عما تعلمه في الأزهر: “كنت مسرورا للغاية، لأنني تعلمت كثيرا، وتبينت أن ما تعلمته من دروس، وحصّلته منها سوف يكفيني أكثر من خمسة عشر عاما رغم العقبات التي سألقاها مستقبلا”.
جدوله اليومي في القاهرة
ملأ غولدتسيهر يومه بالأعمال، منذ الصباح الباكر، وحتى يخلد إلى النوم. فقد كان يستيقظ عند أذان الفجر، ثم يخرج بعد ذلك، ويتجول في القاهرة، ويمضي أكثر من ساعتين يوميا في دار الكتب المصرية حاليا، التي كانت تسمى آنذاك: دار الكتب الخديوية، وأهداه بعض وجهاء مصر عددا من الكتب، واشترى عددا آخر، سواء له، أو للجامعة عند عودته، مما مثل له ثروة هائلة من الكتب، ظلت مصدرا ومرجعا لكتاباته طوال حياته فيما بعد.
طاف شوارع القاهرة، يختلط بالباعة والناس، ويلتقط منهم اللغة العامية المصرية، وبخاصة لغة أهل القاهرة، وقد استمع إلى أغاني الشباب، وكتب عن ذلك مقالا نشر بمجلة المستشرقين الألمان.
وبعد انضمامه للأزهر، كان يختلط بطلبته وقتا طويلا، حتى ألفوه وأحبوه سريعا، وقد أشاد بذلك، وببساطة طلبة الأزهر، وحبهم لكل طالب علم، حتى لو كان أجنبيا غير مسلم. وفي الليل يذهب لزيارة البيوت المفتوحة للنقاش من وجهاء مصر، من أهل السياسة أو الثقافة أو الأدب.
المجاورة وصلاة الجمعة بالزي الأزهري
ظل غولدتسيهر أربعة أشهر بالأزهر، يحرص على حضور الدروس، وعلى الوفاء بما وعد به، من حسن نيته من طلبه للعلم، وأنه لا ينوي شرا، أو كتابة ما يسيء للمسلمين، أو مساجدهم، وظل فخورا في يومياته، بأنه “مجاور” في الأزهر، وهو ما يعرف في عرفنا بالطالب، وقد ارتدى الجبة والعمامة الأزهرية، وجلس بين طلبته جاثيا على ركبتيه، يطلب العلم.
بل خاض تجربة غريبة نُصح بألا يكررها، وهي ذهابه لصلاة الجمعة، وقد ارتدى الزي الأزهري والعمامة. ويقول عن رغبته في ذلك: “كانت لدي رغبة عارمة في أن أشارك الشيوخ في صلاة الجمعة، وإن كنت لم أُدع لذلك، لأنني غير مسلم، مع أنني كنت أرغب صادقا في أن أنحني مع آلاف المؤمنين، وأن أركع وأسجد أمام الله، وأنادي: الله أكبر، بل أن أعفر وجهي في التراب مع المصلين، بين يدي الواحد القهار، ومن ثم صممت على أن أؤدي صلاة الجمعة مع المسلمين”.
بعد عودته من صلاة الجمعة، جاءه خبر مرض أبيه مرضا شديدا، فاضطر للعودة إلى وطنه، وبذلك انتهت زيارته الأولى لمصر، وكانت زيارة لطلب العلم في الأزهر، أما الزيارة الثانية فكانت في فبراير/شباط 1896، وكانت لأيام، وزار فيها أيضا مبنى دار العلوم، ثم عاد إلى جامعته.
قارن غولدتسيهر في يومياته بين دفء الشرق المسلم، ومعاملته الحانية له كغريب يدرس الإسلام، وبين جفاء بني وطنه وملته معه، بل ظلت رحلته لدمشق والقاهرة موضع اعتزاز دائم طوال حياته، كما دوّن في يومياته، بل رأى أن لها الفضل الأكبر عليه في دراساته، من خلال المعايشة للناس، وتعلمه للعربية الفصحى والعامية، أو المكتبة الضخمة التي عاد بها من القاهرة، والشخصيات التي تعرف عليها، سواء السياسية أو الدينية أو العامة.
لكن من المفيد جدا الوقوف على مقارناته، وتأملاته للواقع الإسلامي من خلال عاصمتين كبريين: دمشق والقاهرة، وصراع الثقافة والحضارة والتغريب في العاصمتين، وكذلك تقييمه للشخصيات الدينية والسياسية التي التقاها، فقد التقى بجمال الدين الأفغاني، وآخرين، بل جالس سياسيين وطنيين كثرا، وجلى من خلال يومياته نظرته ومقارناته لهذه الأوضاع، وهو ما نفرده بمقال قادم إن شاء الله.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.