يكرهونه ﻷنه يفضحهم.. هل ينتصر “فينيسيوس جونيور” على إسبانيا؟


من أين نبدأ؟ ربما من ليلة 21 مارس/آذار 2022، حين نجح “أداما تراوري” في إيقاف انطلاقة “فينيسيوس جونيور”، فما كان من زميله في صفوف البلوغرانا، “إيريك غارسيا”، سوى أن هتف مشجعا: “أحسنت يا أداما”(1). أمر عادي، أليس كذلك؟! ما لم يكن عاديا هو ما فعله “غارسيا” بعد ذلك مباشرة.

 

التفت المدافع الإسباني نحو “فينيسيوس”، ووجه بضع كلمات أخرى، هذه المرة بهدف السخرية والتوبيخ وليس التشجيع: “أما أنت، فسأمنحك بالون دور الموسم القادم، بالون دور ستكون من نصيبك، حسنا؟”(2). بالطبع هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتلاعب فيها أحدهم بأعصاب خصمه داخل الملعب، إلا أن سخرية “غارسيا” من فكرة فوز “فينيسيوس” بالكرة الذهبية، وكأنها حلم يستحيل التحقق في إسبانيا، تتجاوز مجرد المناوشات الكلامية إلى التساؤل الجاد عن العائق الذي يحول بين اللاعب البرازيلي وبين الجائزة؟ لماذا لا نجد اسمه رفقة “هالاند” و”مبابي” ضمن المرشحين الأبرز؟ هل تنقصه المهارة، أو ربما الفاعلية، أم أن هناك أمرا آخر لا نلتفت إليه بالقدر الكافي بالرغم من شدة وضوحه؟

 

أكبر من مجرد إيريك غارسيا

لم تبدُ أمارات الغضب على وجه “فينيسيوس” بعد ذلك التوبيخ، ليس لأنه يتمتع بقدرة فائقة على ضبط النفس والتحكم في انفعالاته، على العكس من السهل جدا استنزافه في هذا النوع من المعارك. الفكرة هي أن سخرية “إيريك” لم تكن أسوأ ما يتعرض له داخل إسبانيا، بل إنها لا تعد شيئا يذكر إذا قارنتها بوقائع أخرى من التنمر والتعنيف والاغتيال المعنوي الذي يواجهه الجناح البرازيلي.

 

ربما تظن أن تعبير “الاغتيال المعنوي” يحمل قدرا من المبالغة، لكن “جوناثان ليو”، محرر الغارديان الشهير، ذهب أبعد من ذلك، وكتب أن “فينيسيوس جونيور” يتعرض هذا الموسم لنوع من “المطاردة الحقيقية”(3). لا يعرف “ليو” متى أصبح العداء لـ”فينيسيوس” بهذا الشكل، ما يعرفه هو أن بعض جمهور مايوركا استهدفه بأصوات القردة، قبل أن يكرر جانب من مشجعي أوساسونا الأمر، والذين لم يكتفوا بفداحة الفعل، فاستغلوا دقيقة الصمت على ضحايا زلزال تركيا وسوريا ليمارسوا العنصرية بوقاحة منقطعة النظير، كان ذلك بعدما علّق أنصار أتلتيكو مدريد دمية سوداء ترتدي قميص جونيور على مشنقة بالقرب من مقر تدريبات الميرنغي(4).

 

بالمناسبة، لم تكن هذه المرة الوحيدة التي يستخدم فيها جزء من جمهور الأتليتي مثل تلك الأساليب، فخلال الموسم نفسه تورط الآلاف منهم بفضيحة عنصرية، قد لا تتخيل أنها تقع في دولة أوروبية. كان ذلك حين غنوا نصا: “فينيسيوس أيها القرد”، خارج أسوار ملعب واندا ميتروبوليتانو، وقبيل الديربي العاصمي في سبتمبر/أيلول 2022(5). لم يكن مجرد الغناء بتلك الصورة كافيا ليشفي غليل أحدهم، فقرر الصعود على كتف زميله، بينما تعلو البسمة وجهه، وهو يحمل في يده دمية قرد(6). ربما تسأل نفسك الآن: ماذا فعل الأمن حيال تلك المهزلة؟! والإجابة أنه كان ينظم دخول كل هؤلاء إلى المدرج، ليواصلوا نوبة السب والتنمر العنصري.

 

لم يكن ما ارتكبه أنصار الأتليتي استثناء، خصوصا حين تضعه جنبا إلى جنب مع السلوك المشين لبعض جمهور ريال بلد الوليد، حين استغلوا مرور “فينيسيوس” بجانب مدرجهم، فدوّت أصوات القرود. في تلك الأثناء، كان الميرنغي يسجل هدفه الثاني الذي أنهى المباراة، فما كان من اللاعب البرازيلي، الذي يتجرع الإهانة المباشرة، إلا أن احتفل وكأنه ينتقم لنفسه، وبمجرد انتهائه من الاحتفال، كان الموز قد ألقي عليه من المدرجات(7). تُرى، ماذا كان يشعر في تلك اللحظة؟!

 

هذا هو السؤال الذي طرحه “جو برينان”، محرر مجلة “فور فور تو (Fourfourtwo)”، بعدما واجه صاحبنا نفس المضايقات البشعة في ملعب كامب نو في مارس/آذار الماضي. لم تكن هذه المرة الأولى، ولا الثانية، ولا حتى الثالثة، بل هي الثامنة خلال هذا الموسم. تصوّر أن ريال مدريد كان قد خاض 12 مباراة بالليغا خارج دياره، تعرض “فينيسيوس” في ثمانية منها إلى هذا المستوى من العداء(8).

 

المؤسف أنها لم تعد ثمانية، بعد تلك الهتافات التي ظلت تدوي من مدرجات فالنسيا في الواقعة الأشهر مؤخرا، ونجح أصحابها، ليس في تشتيت ذهن “فينيسيوس” وحسب، بل وكسر كبريائه، بعدما فشل في حبس دموعه، وكان على وشك مغادرة ملعب ميستايا، وربما إسبانيا كلها. كان في ذلك المشهد الحزين إجابة سؤال “جو برينان”.

 

وسط هذا المناخ السام، يبدو توبيخ “إيريك غارسيا” نقطة في بحر قاتم السواد، خصوصا حين يصدر عن لاعب متواضع المستوى، لا يضمن مركزا أساسيا في فريقه، ناهيك أصلا بالتحكم في اسم الفائز بالبالون دور. المشكلة أن هناك من هو أكثر نفوذا من “إيريك غارسيا” ويغض الطرف عن هذا الجحيم الذي يعيشه “جونيور” داخل إسبانيا، بل ويتورط فيه بنفسه.

 

نكتة اسمها “لا ليغا”

Vinicius Paixao de Oliveira Junior, Vinicius Jr, of Real Madrid during La Liga match between Valencia CF and Real Madrid at Mestalla Stadium on May 21 3, 2023.
كان على الليغا اتخاذ مسار أكثر ردعا إن أرادت حقا أن تواجه العنصرية، لكنها تكتفي فقط بتمرير تلك الوقائع المخزية إلى الاتحاد الإسباني وللمدعي العام، تم تنفض يديها عن الأمر تماما. (شترستوك)

هل تعرف شخصا يدعى “بيارا بوار”؟ إنه المدير التنفيذي لمنظمة “Fare”، التي تستهدف مناهضة التمييز في الكرة الأوروبية، وقد سألته شبكة “CNN” الإخبارية عما يفعله المسؤولون الإسبان حيال ما يواجهه “فينيسيوس”، فأجاب بحسم قاطع: إنهم يحاولون غسل أيديهم من تلك الفظائع(9).

 

ربما قصد “بوار” الإشارة إلى تغاضي المدعي العام لمدريد عما حدث خارج ملعب واندا ميتروبوليتانو، إذ لم يرَ الرجل في كل ما اقترفه العنصريون من جمهور الأتليتي إلا استخدام هتافات “غير محترمة” لبضع ثوان، قبيل مباراة تتسم بمستوى عالٍ من الندية والحدّة(10). “فينيسيوس أيها القرد” مجرد هتاف غير محترم؟! ماذا عن استخدام دمية قرد أسود تحمل اسم إنسان؟! إذا كان هذا هو ما ستنتجه كرة قدم عالية التنافسية، فلتذهب تلك الكرة بتنافسيتها إلى الجحيم.

 

وعلى قدر الغرابة التي يحملها تبرير مدعي مدريد، فإن نظيره في برشلونة سبق أن أتى بما هو أغرب. كان ذلك بعدما أغلق التحقيق حول الإساءات العنصرية التي شهدها ملعب كامب نو في أكتوبر/تشرين الأول 2021، متحججا بعدم القدرة على تحديد هوية من يشبّه “فينيسيوس” بالقردة(11). هذه الحجّة استفزت “استيبان إيبارا”، رئيس حركة مناهضة التعصب الإسبانية، لدرجة تصريحه بأن أرشفة ما دار من أحداث عنصرية في كتالونيا قد أصابها خلل لا يصدق(12). والحق أن الأمر برمّته لا يُصدَّق، كيف يعجز القائمون على ملعب يتميز بكل تلك الإمكانات والخصائص التقنية والأمنية عن مثل تلك المهمة؟ نحن هنا نتحدث عن كامب نو، الذي يعد ملعبا استثنائيا حتى بالمعايير الأوروبية، وليس عن ملعب خماسي يؤجّر في عطلة نهاية الأسبوع.

 

أما المدعي العام في مايوركا فلم يجد مفرا بعد ما فعلته شركة “DAZN” الإعلامية، إذ نشرت عبر حساباتها مقاطع توثق السب العنصري لـ”جونيور”. كان ذلك دليلا دامغا دفعه لتحريك التحقيق، قبل أن تصدر المحكمة الوطنية الرياضية في إسبانيا حكما بتغريم مشجع وحيد ما قيمته 4 آلاف يورو، وحرمانه من دخول الملاعب لمدة عام. مشجع واحد؟! فعلا؟! حسنا، لا بأس، لعله يكون عبرة لمن أفلت من العقاب. بحثنا قليلا عن حكم المحكمة، قبل أن نُصدم عندما وجدنا أن العقوبة لم تدخل حيز التنفيذ حتى كتابة تلك السطور، وربما لن يتغير أي شيء مستقبلا(13). أردنا أن نتأكد من هزيمة العنصرية، ولو في هيئة عقوبة يتيمة، لكن يبدو أنها عصيّة عن الهزيمة.

 

هكذا ترسخ في وجدان جزء لا بأس به من الجمهور الإسباني بأن العنصرية سلاح مشروع، ولا يوجد فارق جوهري بين السخرية من لون بشرة الخصم، والسخرية من إهداره لركلة جزاء مثلا، ما دام أن كليهما يؤدي الغرض من تشتيت انتباهه وتدمير عزيمته. هذه هي النتيجة الطبيعية لغياب العقوبة والردع.

 

فكّر في ذلك قليلا: ماذا لو أقر مسؤولو الليغا عقوبة رياضية حقيقية ضد المدانين من جمهور كامب نو قبل عامين؟ ماذا لو لم يتوانَ المدعي العام عن تقديم العنصريين للعدالة؟ هل كنا لنرى اليوم تلك المشاهد العصية على الفهم؟ هل كان سيهتف آلاف الناس في المدرج الجنوبي دون توقف: “قرد، قرد، قرد، إلخ” قبل المباراة وبعدها وخلالها، ثم يعودون إلى منازلهم سالمين غانمين وكأنهم لم يرتكبوا أي إساءة؟!

 

المضحك هو أن إدارة الليغا تسلم كتيّبا لكل مشجع قبل بدء الموسم، تحثه على التحلي بالقيم الحميدة، وتجنب غيرها. كما تسلم كتيّبا آخر لكل لاعب لتشجعه على احترام الجميع، والإبلاغ عن أي واقعة عنصرية يشهدها(14). هل ظن مسؤولو الليغا أن مثل ذلك الكتيّب سيمنع أولتراس أتلتيكو مدريد من تعليق مشنقة لـ”فينيسيوس”؟ أم ربما نفذت النسخ قبل أن تصل فالنسيا؟! ماذا عن العنصريين من جمهور بلد الوليد؟! أتُراهم لا يجيدون القراءة باللغة الإسبانية فلم يفهموا ما في الكتيّب؟! كان على الليغا اتخاذ مسار أكثر ردعا إن أرادت حقا أن تواجه العنصرية، لكنها تكتفي فقط بتمرير تلك الوقائع المخزية إلى الاتحاد الإسباني وللمدعي العام، تم تنفض يديها عن الأمر تماما بعدما قامت بدورها على أتم وجه في توزيع الكتيبات.

 

لماذا لا يخرس روبرتو كارلوس؟

الكارثة هي أن كل تلك الوقائع العنصرية ليست جديدة، ولا مبتكرة من خيال جيل جديد من الجمهور الإسباني، بل إنهم يفعلون ما فعله أسلافهم قبل سنوات من الآن. ربما اختلفت السبل، لكن لا يزال جوهر التمييز كامنا في تلك الأفعال، ولا يزال العجز الذي يرقى إلى التواطؤ والتستر هو ما يجنيه الضحايا من إدارة الليغا والمسؤولين الإسبان، وهو ما يزيد موقفهم خزيا على خزي.

 

بالتأكيد لم يبدأ الأمر مع “فينيسيوس”، لا بد أنك تعرف ما تعرض له “داني ألفيش”، وكذلك ما وقع مع “نيمار” و”مارسيلو”، وقبل كل هؤلاء كان مشهد “صامويل إيتو” وهو يغادر الملعب بعد ما فعله أنصار ريال سرقسطة، لكن هل لديك فكرة عما حدث عام 2004 داخل معسكر المنتخب الإسباني؟

 

في واحدة من الحصص التدريبية، وجّه المدرب العجوز “لويس أراغونيس” حديثه نحو الموهبة الشابة “خوسيه أنطونيو ريس” قائلا: “أريدك أن تثبت لذلك الخراء الأسود أنك أفضل منه. لا تتراجع، عليك أن تثبت له ذلك، أثبت ذلك لأجلي، أريدك أن تؤمن أنك أفضل من هذا الأسود”(15). التقِط نفسا عميقا، وحاول تخمين اسم اللاعب الذي يقصده “أراغونيس”. هل انتهيت؟ إنه “تييري هنري”، هدّاف الدوري الإنجليزي الفذ، وأحد أفضل لاعبي العالم في هذا التوقيت. يلقب الإسبانيون “أراغونيس” برجل هورتاليزا الحكيم، وقد صمموا له تمثالا بعد وفاته. فقط تصوّر أن هذا هو سلوك رجل يتصف بالحكمة وحسن التصرف، فما بالك بغيره؟!

Kamen, GERMANY: Spanish coach Luis Aragones (R) gestures as he speaks with midfielder Jose Antonio Reyes during a training session in Kamen, 25 June 2006. Spain will play their next match of the 2006 Football World Cup against France 27 June. AFP PHOTO / PIERRE-PHILIPPE MARCOU (Photo credit should read PIERRE-PHILIPPE MARCOU/AFP via Getty Images)
المدرب “لويس أراغونيس” واللاعب “خوسيه أنطونيو ريس”. (غيتي)

لم يخضع “أراغونيس”، عذرا، “الرجل الحكيم”، لأي مساءلة جنائية، كان عليه فقط أن يدفع 3 آلاف يورو قيمة الغرامة المالية التي أقرها الاتحاد الإسباني. حين وصلت تلك الأخبار لـ”هنري”، وصف الأمر بالسخافة الشديدة، فكيف تكون تلك العقوبة المضحكة هي الجزاء الكافي لمن يتلفظ بذلك؟ هل تريد السلطات الإسبانية وقف العنصرية بمثل تلك الأحكام؟ بدا الغضب الممزوج بالحيرة واضحا في تصريحات “تييري”، ولا بد أن هذا الغضب تضاعف بعدما اعترض زميله الإسباني “مانويل ألمونيا” على فكرة توقيع العقوبة من الأساس، مهما كانت هزيلة أو رمزية، إذ لم يرَ في ما بدر من “أراغونيس” أي مشكلة، وهنا تحديدا تكمن المشكلة(16).

 

بعد عدّة أشهر، وقف “أراغونيس” في ملعب سانتياجو برنابيو، ومن خلفه عشرات الآلاف من الجمهور الإسباني الذي يصدر أصوات القرود كلما وصلت الكرة إلى “أشلي كول” و”سول كامبل” و”شون رايت فيليبس”. كانت مباراة ودية، لذلك لم يفهم لاعبو المنتخب الإنجليزي ما الذي يدور حولهم، ما الدافع وراء كل تلك الكراهية. اتهم “كول” المدرب الإسباني بأنه من بدأ كل ذلك، خصوصا بعدما رفض “أراغونيس” إدانة تلك الأفعال العنصرية، بل كان ينظر بغضب شديد نحو “أشلي”(17). أما زميله “فيليبس”، فانتظر توقيع العقوبة التي يستحقها المذنبون، وما إن عرف أنها اقتصرت على غرامة قدرها 45 ألف يورو يتحملها الاتحاد الإسباني، حتى سخر قائلا إنها أشبه بصفعة لطيفة على يد مجرم(18).

 

تلك الصدمة نفسها ظهرت على وجه “روبرتو كارلوس”، خلال أول كلاسيكو خاضه في كامب نو عام 1997. لاحقته أصوات القرود، وأحاطته لافتات تشبّهه بالشمبانزي والمكاك في أرجاء الملعب، قبل أن يكتشف أن أحدهم قرر تشويه سيارته، فخدش عليها كلمة “قرد”(19). كان “كارلوس” قد انتقل إلى الميرنغي قادما من إنتر ميلان، حيث العنصرية لا تغيب في إيطاليا، إلا أنه لم يعهد هذا المستوى من الحدة، خصوصا بدون أي عداوة شخصية بينه وبين الجمهور الكتالوني. دفعه ذلك للخروج للإعلام، والإشارة إلى ذلك الهجوم الوحشي، الذي يتواطأ الجميع على السكوت عنه.

8 Jun 1997: A portrait of Roberto Carlos of Brazil before Le Tournoir match against France in Lyon, France. \ Mandatory Credit: Ben Radford /Allsport
روبرتو كارلوس. (غيتي)

في الواقع، لم يسكت الجميع، بل جاءه الرد من أحد لاعبي برشلونة قائلا إن ذلك الرجل، يقصد “كارلوس”، يتحدث أكثر من اللازم، إنه لا يعرف شيئا، ولم يتأقلم بعدُ على تلك الأجواء، عليه أن يكف عن الكلام ولا يصدع رؤوسنا حتى يعتاد على كل ذلك. هل تعرف اسم ذلك اللاعب؟ استعد لتلك المفاجأة، إنه “بيب غوارديولا”، الرجل الذي يتشدق بالكلام عن حقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية، ويعلق تلك الشارة الصفراء أعلى صدره تضامنا مع السجناء السياسيين، استكثر على “روبرتو كارلوس” مجرد الشكوى(20).

 

إن كان “ألمونيا” لا يرى أن هناك مشكلة، وإن كان “غوارديولا” يرمي باللائمة على الضحية، تُرى ما هو تعريف السلوك العنصري بالنسبة إلى الإسبان؟ أليس كل هذا السباب والتشبيهات والسخرية من لون الإنسان ومظهره كافيا؟! متى إذن يصبح المرء ضحية التمييز العرقي؟! حين يُقتل وتُحرق جثته وينكل بأطفاله مثلا؟!

 

مستعمر بدرجة قاطع طريق

كان شابا مصريا يدعى “خالد أحمد يوسف” قد وصل لتوّه إلى إسبانيا، وذهب رفقة أصدقائه لحضور مباراة إنجلترا الودية، ليكون شاهدا على ما تعرض له رفاق “أشلي كول” في البرنابيو. يعمل “خالد” كاتبا ومخرجا، وله اهتمامات بمساحات التماس بين الرياضة والسياسة والاجتماع. حين حاول فريق عمل “ميدان” التواصل معه، رحب بالفكرة للغاية. كنا نطمع في أن يحكي لنا ما حدث هناك، لكنه منحنا ما هو أهم وأعمق من ذلك، فله جزيل الشكر على استقباله وسعة صدره.

 

خالد: “كانت المباراة الأولى التي أحضرها في إسبانيا، وكانت تجربة مرعبة جدا، لدرجة أنني لم أصدق في أول الأمر. 50 ألفا يصدرون صوت القرود، بشكل جماعي، وفي نفس اللحظة. لم يصدر الصوت من جهة واحدة، بل جاء من جهات مختلفة، سواء الدرجة الثالثة أو الثانية أو حتى المقصورة. مدرجات كاملة تدوي بحدّة شديدة ودون توقف. شعرت بضيق تنفس، وكأن الأكسجين ينسحب من الملعب.

 

حين سألت صديقي الإسباني: ما الذي يحدث؟ قال لي: لا عليك، إنهم بعض الحمقى. شعرت أنه يشير إلى 5 أفراد مثلا، وليس 50 ألفا اتفقوا على ذلك السلوك العنصري. بمجرد عودتي إلى المنزل، شرعت في متابعة نشرات الأخبار، وقراءة تغطية الصحافة الإسبانية للمباراة، ولم أجد سوى الصمت والتستر الكاملين، باستثناء صحيفة وحيدة”.

 

لم يكن ذلك أغرب ما اكتشفه “خالد”، لأنه عرف أن ما وقع لم يكن فعلا عفويا فحسب، بل تم هندسته وإعداده مسبقا. كان ذلك بواسطة مجموعة من المنظمات اليمينية المتطرفة، في مقدمتها حركة “الفخر القومي”، التي لا تهتم كثيرا ﻷمر كرة القدم، لكنها استغلت الفرصة لكي تعبر عن انحيازها. الآن لا يبدو أن الأمر يقتصر على التسامح مع الجمهور صاحب المزاج العنصري، بل استخدام مدرجات كرة القدم لتكون حاضنة لتوجهات حركات ومنظمات عنصرية. تذكر جيدا أن هذا لا يتم في حقبة الجنرال “فرانكو”، ولا في وقت الحرب الأهلية، بل في عام 2004. لماذا تتغلغل العنصرية إلى ذلك الحد في إسبانيا؟

 

رد ضيفنا قائلا: “هناك عوامل جغرافية وتاريخية قد تفسر السبب. من الناحية الجغرافية، إسبانيا هي أقرب دول أوروبا للقارة الإفريقية. خلق هذا شعورا أوروبيا أن إسبانيا ليس بلدا أوروبيا بما فيه الكفاية، وهو ما جعل الإسبان يسعون دائما للتمايز عن إفريقيا، والتأكيد على أوروبيتهم كأنهم نمساويون أو إسكندنافيون مثلا.

 

لو نظرت إلى الأمر من الناحية العسكرية فستجد أن الحملات الاستعمارية لإسبانيا تتسم بالسطحية الشديدة. في إفريقيا، احتل الإسبان دولة وحيدة هي غينيا الاستوائية، لكنهم لم يؤسسوا أي عمق ثقافي وسياسي داخل القارة. الأمر نفسه في تعامل إسبانيا مع أميركا اللاتينية، بالرغم من اللغة المشتركة، فإن الهمّ الوحيد للإسبان كان الحصول على المواد الخام، وهكذا لم يقدموا أنفسهم إلا بوصفهم لصوصا وقطّاع طرق.

 

هل تذكر مباراة إسبانيا وباراغواي في ربع نهائي مونديال 2010؟ سوف تندهش حين تعرف أن مضمون إحدى الحملات الدعائية قبيل المباراة كان: سنهزم باراغواي، كما قمنا بمص دمائهم في السابق. تحتاج الدول الاستعمارية لنوع من الفخر، وهذا هو ما يتفاخر به الإسبانيون، وحتى يكون مبررا فلا بد أن يستحق الآخر المُستعمَر كل هذا النبذ والعنف والاستغلال.

 

أضِف لذلك حقيقة أن إسبانيا هي البلد الوحيد في أوروبا الغربية الذي تم فتحه بالكامل من العرب والمسلمين، لذلك ينظر الأوروبيون له بنوع من الضعف، وهو ما يفسر الرغبة الجامحة في الانتقام الدموي التي أصابت الإسبانيين لاحقا. بسبب كل هذه العوامل الجغرافية والتاريخية، تبدو هناك عقدة في اللاوعي الإسباني، وشعور كامن بأنهم في آخر الصف الأوروبي، لذلك يسعون دائما للتمايز والتعالي على الآخر، خصوصا على القارة الإفريقية”.

 

يخبرنا “خالد” أن المجتمع الإسباني تأخر كثيرا في مواجهة أزمة العنصرية، بل حاول التغافل عنها كما أراد صديقه أن يتغافل عن تلك الأصوات التي يصدرها الألوف من الناس، وإخراس ضحايا ذلك التمييز كما فعل “غوارديولا”. هذا ما تسبب في الفشل بإيجاد إجابات حاسمة عن الأسئلة التي واجهتها بقية المجتمعات الأوروبية في الثمانينات والتسعينات. ففي الوقت الذي كان المنتخب الألماني يضم لاعبين من أصحاب البشرة السمراء، كان وجود إفريقي يحمل ملامح سمراء في شوارع مدريد أمرا شديد الندرة. في ظل هذا السياق المأزوم، ينبغي النظر إلى التفاعل مع حالة “فينيسيوس”، الذي يستعد لأن يكون نجم إسبانيا الأول لسنوات قادمة.

 

عنصرية على الشاشة

لا بد أنك تعرف الشرينغيتو، ذلك البرنامج التلفزيوني الشهير الذي يتابعه ما يزيد عن 3 ملايين شخص عبر تويتر، وتنتشر مقاطع مسلية لضيوفه وهم يتجادلون حول أفضلية ريال مدريد وبرشلونة. في سبتمبر/أيلول 2022، ظهر على شاشة البرنامج رجل يدعى “بيدرو برافو”، يشغل منصب رئيس رابطة وكلاء اللاعبين الإسبانية، ليعلق على الرقصات التي يؤديها “فينيسيوس” بعد تسجيل أهدافه قائلا: “عليك أن تحترم الخصوم. إن أردت أن ترقص فلتذهب إلى سامبودرومو في البرازيل، أما في إسبانيا فتوقف عن التصرف مثل القرد”(21).

 

دعك من إقحام أحدهم أنفه في شكل احتفال لاعب ما، ودعك أيضا من ظنه إسبانيا عزبة ورثها عن أبيه، فيطرد منها من يشاء ويسمح بالإقامة على أراضيها لمن يشاء أيضا. أرجوك أن تقرأ ما قاله مرة أخرى وتتصوّر أن ملايين الناس شاهدوا وسمعوا تلك التصريحات العنصرية عبر التلفاز وعلى يوتيوب ومن خلال مواقع الصحف والوكالات الإعلامية.

 

هل خضع هذا الرجل للتحقيق ثم ألقي به في السجن؟ هل جُرد من منصبه ومُنع من الظهور على الشاشة للأبد؟ إجابة كل تلك الأسئلة هي: لا، إنه يسير حرا طليقا في شوارع مدريد، يؤدي وظيفته ويحصل على عمولاته من إتمام الصفقات، ولا يزال يغرد على تويتر دون مشكلة. كل ما احتاج أن يفعله هو أن يعتذر فقط، ويدّعي بأن ما حدث هو مجرد سوء تفاهم، ﻷنه لم يقصد المعنى الحرفي، ومن ثم ليس هناك إهانة عنصرية(22). أبتلك السهولة يبرّأ العنصريون ساحتهم؟! نعم، بتلك السهولة.

 

لم تكن هذه الحالة الوحيدة التي يسمح فيها الإعلام بخطاب الكراهية. قبل مواجهة ريال مدريد مع مايوركا، تحدث المدافع “بابلو مافيو” لأحد محطات الراديو قائلا إن هناك مشكلة ما تكمن في “فينيسيوس”، وليس في الآخرين(23). أما زميله “أنطونيو رايلو” فقد صرح لشبكة “DAZN” أنه لو أحب تقديم قدوة لأبنائه، فسيختار “كريم بنزيما” أو “لوكا مودريتش”، لكنه لن يسمح أبدا بأن يكون “فينيسيوس” هو القدوة(24). مرة أخرى، سكت الجميع، ولم يدافع عن اللاعب البرازيلي سوى مدربه “كارلو أنشيلوتي”، حين رد بكلمات حزينة: لا توجد مشكلة في “فينيسيوس”، يحبه أحفادي كما يحبه الصغار. لدي أربعة أحفاد، جميعهم يمتلكون قميص “فينيسيوس”، ولا يريدون قميص أي لاعب آخر(25).

 

خلال مباراة مايوركا، لم يعدم “مافيو” و”رايلو” وسيلة لاستفزاز صاحبنا، لدرجة أن الأول طارده في الملعب وهو يؤدي إيماءات البكاء في وجهه، ماذا فعل الإعلام الإسباني حيال ذلك؟ ركّز على ردود أفعال “جونيور”، بدلا من تسليط الضوء بالقدر الكافي على سلوكيات ثنائي مايوركا. لم تكن هذه التغطية الإعلامية استثناء، بل كانت القاعدة. هنا يتفق “ديرموت كوريغان”، مراسل موقع “ذي أثلتيك (The Athletic)” في مدريد مع المحرر “جوناثان ليو” على انحياز الصحافة الإسبانية ضد “فينيسيوس”، وتعمد إظهاره في صورة اللاعب الأرعن سيئ السلوك عديم الاحترام(26).

https://www.youtube.com/watch?v=82osBqO9AHI

 

في المقابل، لا يبدو أن الصحافة تحتفي بنجاحاته الفردية بالشكل الكافي. أسهم “فينيسيوس”، رفقة “بنزيما”، في تسجيل 100 هدف الموسم السابق، وكان حجر أساس في تتويج الميرينغي ببطولتي الدوري ودوري الأبطال في موسم واحد، وهو ما لم يتحقق سوى مرتين فقط خلال 64 عاما كاملة، بعدما سجل في نهائي دوري الأبطال من هجمة ريال مدريد الوحيدة على مرمى ليفربول(27)، وقد عادل رقم الأسطورة “كريستيانو رونالدو” في المساهمة بهدف خلال 11 مباراة متتالية بدوري الأبطال(28). كل تلك النجاحات لا تنال ربع التغطية الإعلامية لردود أفعاله على المضايقات والهتافات العنصرية.

 

الحقيقة أن الإعلام لا يريد حتى أن تكون له ردّة فعل. سنخبرك حالا بشيء لا يكاد يُصدق، هل تذكر واقعة برنامج الشرينغيتو؟ نعم، هي تلك التي تخص “بيدرو برافو”، المهم أن “جونيور” أراد أن ينشر مقطعا يرد فيه على العنصريين، مصمما على الاستمرار في الاحتفال بطريقته. يدّعي الصحفي الإسباني “إيناكي أنغولو” أن إدارة الشرينغيتو أرسلت تهديدا حقيقيا للاعب البرازيلي، مضمونه ما يلي: “لو قمت بنشر المقطع، فسنقوم بتدميرك في برنامجنا”.

 

طبعا خرج “جوزيب بيدرول”، مؤسس البرنامج، لينفي كل تلك الادعاءات، ويؤكد أنهم سيلاحقون “أنغولو” قضائيا، غير أن هذا الأخير استمر على موقفه، وأعلن أنه يمتلك دلائل حقيقية. في نهاية الأمر، كان “فينيسيوس” شجاعا بما يكفي حتى ينشر المقطع، وشجاعا بما يكفي ليستمر في الاحتفال على طريقته(29).

 

كان ضيفنا، “خالد يوسف”، يستمع لشكوكنا حول تورط الإعلام الإسباني في أزمة العنصرية ضد “جونيور”، وقد رُسمت الابتسامة على وجهه، قبل أن يقول: “أغلب ما يحدث الآن ليس جديدا. كنت أشاهد كثيرا من البرامج الرياضية في إسبانيا، ولمست الانحياز ضد ماركوس سينا، وروبرتو كارلوس، وكذلك رويستن درينثي. الآن فقط يتكرر مع فينيسيوس”. لا تخلو إجابات “خالد” من المفاجآت عن الواقع المخيف للمجتمع الإسباني.

 

لماذا فينيسيوس؟ ﻷنه يفضحهم

لا ينتهي الانحياز ضد “فينيسيوس” خلف شاشات التلفاز فقط، بل يمتد أيضا إلى شاشات الفار. على الأقل هذا هو الرأي الذي يتبناه “بين غراوندز”، الكاتب في شبكة “Sky Sports”، بعدما لاحظ كم العنف البدني الموجه ضد صاحبنا من مدافعي الليغا، دون حماية وردع كافٍ من التحكيم(30). يتجلى هذا العنف بوضوح من خلال إحصائيات الموسم، إذ يأتي الجناح البرازيلي على رأس قائمة من تعرضوا لتدخلات من الخصم في الدوريات الخمسة الكبرى، وصلت لنحو 84 خطأ خلال جولات الليغا، أي بمعدل يساوي 2.8 خطأ في المباراة الواحدة. ورغم كل تلك الأخطاء، فإن العنف مستمر(31)، لماذا؟ ببساطة لأن الحكم يتراخى في إخراج الكروت من جيبه ما دام أن من يتعرض للضرب هو “فينيسيوس”. يكفي معرفة أنه تعرض للإعاقة 10 مرات في مباراة مايوركا، أكثر من أي لاعب آخر خلال مباراة واحدة، لكن الحكم لم يرفع الإنذار سوى في الدقيقة 61.

 

مرة أخرى، أحببنا معرفة رأي ضيفنا في هذا الادعاء. ومرة أخرى، يرسم ضيفنا ابتسامة جديدة، وهو ما يعني مفاجأة جديدة أيضا، رد “خالد” على سؤالنا بسؤال آخر: “ريال مدريد واجه ليفربول أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أليس كذلك؟ كانت المواجهات بأدوار إقصائية، بل وفي نهائي دوري أبطال نفسه. هل لمست تلك الدرجة من العنف والإيذاء البدني من مدافعي ليفربول كما يحدث ضده في الليغا؟”، لم يحتج السؤال إلى إجابة.

 

“فينيسيوس” ليس اللاعب الوحيد الأسمر في صفوف ريال مدريد، هناك “ميليتاو” و”ميندي” و”كامافينغا” و”تشاوميني” و”رودريغو غويش”، بالإضافة إلى 200 لاعب آخر في الفرق الإسبانية، فلماذا هو من يعيش هذا الكابوس؟! لماذا عليه أن يعاني من العنف الشفهي والبدني؟ لماذا يسمع السباب والشتائم العنصرية؟ ولماذا عليه أن يسكت على كل ذلك؟ كانت الإجابة التي ذهب إليها الكاتب “بين غراوندز” هي لأنه غير إسباني، ولا يوافق معايير الوسامة الغربية(32). ولو كان شعره أصفر اللون، وعيونه خضراء، لتحوّل هذا الكابوس إلى حلم في ظل العروض الرائعة التي يقدمها. يبدو ذلك رأيا ذا وجاهة، لكن “خالد يوسف” كان لديه تفسير أكثر عمقا.

 

خالد: “لماذا فينيسيوس؟ سؤال مهم جدا، والإجابة هي لأن ردّة فعله على العنصرية غير مسبوقة.

 

المجتمع الإسباني لا يقبل سوى من يعتنق ثقافته، فيأكل ويتحدث ويرقص ويحتفل كما يفعل الإسبان. أي خرق لتلك الثقافة، خصوصا حين يتعلق الأمر بالافتخار والاحتفال بثقافة أخرى، يعد أمرا غير مقبول، تحت تبرير أنه “سلوك مستفز” للوجدان الإسباني.

 

في نهاية حقبة رونالدو دي ليما مع ريال مدريد، كان يحتفل رفقة روبينيو وروبرتو كارلوس وجوليو بابتيستا برقصة من الثقافة البرازيلية تدعى “Cockroach” أو الصرصور. ردّة الفعل على ذلك الاحتفال كانت الإدانة، خصوصا من الصحافة التي ظلت تتساءل: كيف تقومون بمثل هذا السلوك الاستفزازي؟! تخيّل أنه حتى بعض الأصوات التقدمية شعرت بشيء من الضيق جراء ذلك الاحتفال!

 

يعاني المجتمع الإسباني كلما أبدى الآخر اعتزازا بثقافته، خصوصا حين يكون ذلك في نشاط تنافسي مثل كرة القدم. المضحك هو أنهم يبدؤون في لعب دور الضحية تحت فكرة سخيفة مضمونها هو أننا سمحنا لهذا الأسود أو اللاتيني بالإقامة بيننا، وحصل على الشهرة والمال هنا، ثم هو يجرؤ على التفاخر بهويته وثقافته بعد أن يسجل في شباكنا، يا له من جاحد!

 

فينيسيوس جونيور من جيل مختلف عن داني ألفيش ورونالدينهو وروبرتو كارلوس، يفكر بطريقة مختلفة، ولم يرضخ لتلك الثقافة المفروضة، بل ولا يتوانى عن الاشتباك والاحتجاج ضدها، وهذا ما يثير جنون الإسبان”.

 

من هنا إذن يمكن تفسير كل شيء، “فينيسيوس” لم يروّض بعد، بل لا يزال يسجل الأهداف، ثم يهم بالرقص والضحك. يمارس حقه البديهي في الافتخار بهويته علنا، وهو غير عازم على التراجع. لم يعد يصمت على البذاءات العنصرية، ولا يحافظ على البروتوكولات السمجة، ويصف العنصريين بما يستحقونه. يستغل نجوميته وشهرته، ويصطدم بشكل مباشر مع أشهر البرامج في إسبانيا، ثم مع رئيس لا ليغا شخصيا، “خافيير تيباس”، بعد مهزلة مباراة فالنسيا. يطعن في نزاهة البطولة الإسبانية، ويصرح بأنها باتت رهينة لحفنة من العنصريين، ويفضح المسؤولين أمام متابعيه على تويتر لأنهم يتواطؤون ضده. يعري قيم المجتمع الإسباني البغيضة أمام نفسه، ثم أمام العالم كله، دون خوف على مستقبله، أو خجل لا داعي له.

 

ريال مدريد ليس بريئا

بالطبع هناك علامة استفهام كبيرة حول موقف ريال مدريد، والإدارة، واللاعبين، وحتى جانب من الجمهور. لماذا لم يتدخل النادي لحماية لاعبه الذي يتعرض لتلك الانتهاكات أسبوعيا؟ أين قادة الفريق من العنف الموجه ضده؟ ما الدور المنوط بأنصار الميرينغي أمام تلك الحملة الشعواء؟ نقل موقع “The Athletic” في فبراير/شباط المنصرم أن اللاعب البرازيلي لا يرى أن ناديه يدعمه بالشكل اللازم(33). كان محقا بلا شك.

 

قارن حدّة البيان الذي أصدرته إدارة الملكي حين سخر رئيس الاتحاد الفرنسي من “زيدان”، وبين تدخله لنجدة لاعبه الشاب من أنياب العنصرية. ما السبب؟ هل ﻷن “فلورنتينو بيريز” بكل ما يمتلك من أدوات قوة غير قادر على دعم “فينيسيوس”، أم أنه سيكون سعيدا عندما يقرر نجم فريقه الرحيل عن إسبانيا؟ كان في جعبة “خالد يوسف” مفاجأة جديدة.

 

خالد: “ريال مدريد هو جزء من حالة الإنكار التي يعيشها المجتمع. تظن إدارة النادي أن الأمور بخير ما دام أنها تتعاقد مع لاعبين سود ولاتينيين وتمنحهم شهرة كبيرة وعقودا جيدة، لكنها لا ترغب في فعل ما هو أكثر حين يتعرضون للتعنيف والتنمر. أما بالنسبة لجمهور ريال مدريد، فليس جميعهم أبرياء من السلوكيات العنصرية، بل على العكس، كثير من أعضاء ألتراس ريال مدريد ينتمون لليمين المتطرف، ومن ثم من غير المستبعد أن يتورطوا في تلك الأفعال مع لاعب الخصم الأسود أو اللاتيني.

 

في المقابل، لا يمكن أن يتعرض لاعب مثل أسينسيو لكل ذلك ويتأخر ريال مدريد كل هذا الوقت في حمايته. وهذا جزء من الثقافة التي ما زالت تحكم كرة القدم الإسبانية، حيث يسمح للاعب المحلي بالشكوى ويُنصَت إليه ويُتفاعَل مع ما يقول، في مقابل تجاهل اللاعب الأجنبي الأسود أو اللاتيني، وربما جعله مذنبا.

هل تريد مثالا على ذلك؟ صامويل إيتو. أحد أهم الأسباب التي دفعته للرحيل عن ريال مدريد مبكرا هي أنه لا ينال الفرص والدعم والحماية كالتي ينالها المهاجم المحلي”.

 

هنا من الضروري الإشارة إلى نقطة جوهرية، وهي أن بدايات “فينيسيوس” مع ريال مدريد اتسمت بالكثير من الشكوك. كان اللاعب الشاب يبالغ في المراوغة، ويهدر الفرص الواحدة تلو الأخرى، ويسهم في خسارة فريقه. أشهر تلك الخسائر كانت في مواجهة برشلونة بنصف نهائي كأس الملك مطلع 2019، حين أتيح له التسديد 6 مرات من داخل منطقة جزاء “تير شتيغن”(34)، لكنه لم يسجل أي هدف، قبل أن يخرج من الملعب باكيا بسبب الإصابة.

 

لعلك لا تذكر تفاصيل هذه المباراة جيدا، لكنك تذكر الكلمات التي تلفظ بها “كريم بنزيما” في حقه، حين طلب من “فيرلاند ميندي” ألا يمرر له الكرة، لأنه ببساطة يلعب ضد مصلحة ريال مدريد.

 

لم يفكر أحد في حقيقة أنه كان في الثامنة عشرة من عمره، يخوض مباريات الناشئين أول أمس، ثم يلقي به ريال مدريد دون مقدمات في جولات الليغا ودوري الأبطال اليوم. نسي الجميع فجأة أن “فينيسيوس” الصغير يلعب لأن “هازارد” مصاب طوال الوقت، ولأن “أسينسيو” تراجع بعد كل تلك المبالغات التي رافقت انطلاقته، وكان يتوجب على الولد صاحب الـ18 أن يتحمل وحده كل هذا العبء. هكذا تحولت الشكوك إلى نوبات من السخرية، بعضها أتى من جمهور ريال مدريد نفسه الذي كان يستعجل قدوم “كيليان مبابي” ليأخذ مكانه.

 

لم ينل صاحبنا التقدير والاحترام من البداية، وهو ما يختلف بشكل جذري عن وضع “مبابي” الذي عومل على أنه ثروة قومية داخل فرنسا، ثم اللاعب الذي يبني حوله باريس سان جيرمان مشروعه. ولا هو أيضا “هالاند”، الذي صدره الإعلام على أنه إنسان آلي خارق، لا يتوقف عن تمزيق شباك الخصوم، ومن المستحيل إيقافه أو عرقلته. لذلك، لو تعرض المهاجم الفرنسي للمساس، أو حاولت أظافر الإعلام التحرش بـ”إرلنغ”، فستقلب إدارة وجمهور أندية باريس والسيتي الطاولة على الجميع، ناهيك طبعا بأن يعلق لأحد منهما المشنقة، أو يضرب ويخنق الآخر عيانا بيانا داخل الملعب، ثم يتعرض للطرد من الحكم.

 

لتلك الأسباب يبدو “فينيسيوس” متأخرا في سباق البالون دور، على الرغم من تألقه في منافسات أقوى وأشرس من تلك التي يخوضها “مبابي”، ورغم أن أثره الفردي مع ريال مدريد يتجاوز “هالاند” مع السيتي. هل سمعت عن لاعب واحد واجه ذلك العداء من البلد والمجتمع الذي يقيم فيه، وعلى كل الأصعدة: الرسمي، والإعلامي، والجماهيري، ثم نافس على تلك الجائزة؟ هل تعرض “ميسي” أو “رونالدو” أو “محمد صلاح” أو “مبابي” أو “دي بروين” لتلك الضغوط الفتاكة؟ حين سألنا “خالد أحمد يوسف” عن حظوظ صاحبنا في البالون دور، سكت قليلا، ثم نطق بكلمة واحدة: “صعبة”، قبل أن يكمل: “ربما يفكر في الخروج من إسبانيا”.

https://www.youtube.com/watch?v=znVG9HAFDlU

 

هل يغير “فينيسيوس” التاريخ؟

لم يفكر “فينيسيوس” في الرحيل بسبب البالون دور، إنما بسبب تلك المهزلة التي وقعت في مباراة فالنسيا وفضحت الكرة الإسبانية أمام العالم كله. وعلى قدر كل تلك الفظائع التي تعرض لها، قبل حتى أن تطأ قدمه أرض ملعب مستايا، وحتى حصوله على بطاقة حمراء ﻷنه حاول الإفلات من يد الخصم وهي تلتف حول عنقه، إلا أنها قد تكون المباراة التي غيرت مجرى الأمور.

 

توقف ضيفنا طويلا أمام غلاف صحيفة ماركا الذي الأسبوع الماضي، حيث اختارت عنوان: لا يكتفي أن تكون غير عنصري، بل يجب أن تكون ضد العنصرية. أخبرنا “خالد”: “أظن أنها المرة الأولى التي تتبنى فيها الصحافة مثل ذلك الخطاب. تعبير “Antirracista”، أو ضد العنصرية، غير دارج في إسبانيا، وحين تستخدمه صحيفة مثل ماركا، فإن هذا يعني تحوّلا حقيقيا، ﻷنها تعبر عن صوت وتوجه رسمي”. هذا التحوّل يبرز بوضوح عند مقارنته بالألاعيب التي حاولت الصحافة التحايل بها بمجرد أن انتهت المباراة، فأخبر المراسلون “أنشيلوتي” أن الجماهير لم تهتف بكلمة “Mono”، أي قرد، إنما “Tonto”، أي غبي/سخيف. هنا انفجر المدرب الإيطالي في وجوههم قائلا إن الحكم أوقف المباراة بسبب انتهاك عنصري، هل “Tonto” تعد هتافا عنصريا في بلدكم؟! لديكم مشكلة حقيقية، ولا بد أن تنتهي، وإلا فسأنسحب مع فريقي من الملعب إذا تكرر ذلك مجددا(35).

 

لم يتجاهل “خالد أحمد يوسف” تلك النقطة، فقال إن قرار الحكم بإيقاف المباراة، لذلك السبب بالتحديد، يعد في ذاته تحوّلا، لأنه لا يتكرر كثيرا في الملاعب الإسبانية، بل إن هذا القانون لم يكن موجودا قبل 10 أعوام من اليوم. لم ينتهِ أمر هذا التحوّل عند الصحافة أو الحكم، لكنه شمل الاتحاد الإسباني، بل والسلطة التنفيذية نفسها، حيث أعلن الاتحاد إغلاقا جزئيا لمدرج ميستايا الجنوبي الذي صدر منه أغلب البذاءات العنصرية، لمدة 5 مباريات، بالإضافة لغرامة قدرها 45 ألف يورو(36). جاء ذلك بالتوازي مع بيان شركة بوما، التي ترعى لا ليغا وفريق فالنسيا، تدين فيه ما وقع. ماذا عن السلطة التنفيذية؟ في الثالث والعشرين من مايو/أيار، أعلنت الشرطة الإسبانية القبض على 7 أشخاص نتيجة ارتكابهم جرائم كراهية ضد “فينيسيوس”(37). علق ضيفنا على ذلك الخبر قائلا: “السلطة التنفيذية تقبض على مشجعين عنصريين؟ لا أذكر أني شهدت مثل ذلك في إسبانيا من قبل”.

 

حين ورد إلى ذهننا ما كتبه فينيسيوس عبر تويتر بعد المباراة، ابتسم “خالد” مجددا. هل نحن على موعد مع مفاجأة جديدة؟ نعم، لكن كان عليه أن يثني على “فينيسيوس” في أول كلامه: “ردّة فعل فينيسيوس اتسمت بالشجاعة، وكذلك النباهة. اختار عبارات جريئة، وأشار بوضوح لا لبس فيه إلى العنصرية في إسبانيا، كما أكد على كلامه بدلائل في هيئة مقاطع وثقت ما تعرض له. يبدو أن فينيسيوس قد تعلم من تجارب من سبقوه، ووصل إلى ضرورة المواجهة، مستغلا ما يمتلك من أدوات. أريد أن أؤكد أن هذا الرد بمثابة قنبلة ضد فئة من الجمهور الإسباني اعتادت أن يتم التستر على أفعالها، بل إن فينيسيوس قد اقتحم مساحة يخاف أن يقترب منها سياسيون ونخب يسارية”.

 

دفعت ردّة فعل الشاب البرازيلي أبناء جلدته إلى التعاطف معه، ليس على المستوى الشعبي وحسب، بل شملت تلك الموجة من التضامن رئيس جمهورية البرازيل نفسه، “لولا دي سيلفا”(38)، وقد قررت حكومته تعتيم الأضواء الموجهة نحو تمثال المسيح في العاصمة ريو دي جانيرو، ليبدو أهم معالم أميركا اللاتينية حزينا ويائسا مما يحدث في إسبانيا(39). هكذا تجاوزت معركة “فينيسيوس” مع العنصرية كرة القدم، والرياضة عموما، وعبرت حواجز أخرى، أو كما يقول “موها غريهو”، الكاتب والصحفي الإسباني، إن هذا الضغط الدولي الذي صنعه اللاعب الشاب قد يدفع الحكومة الإسبانية، والمؤسسات والمنظمات الأهلية، إلى الحركة في الاتجاه الصحيح(40).

 

طوال تلك الأشهر السابقة، بدت العنصرية وكأنها تسدد اللكمة تلو الأخرى لوجه “فينيسيوس”. كان ينزف وحيدا بلا درع واقٍ، ولا ينال سوى الهمسات التي تتأسف على حاله حينا، وتلومه على غضبه في أحيان أخرى. الآن انقلبت الآية، إنه يجلس في المقصورة الرئيسية لملعب سانتياغو برنابيو، إلى جانب “فلورنتينو بيريز” شخصيا، يتلقى تحية حضور مباراة رايو فاليكانو، ويشاهد زملاءه وهم يرتدون قميصا يحمل اسمه، بينما ترفع جماهير الميرنغي لافتات عملاقة تحمل جمل التضامن والدعم. “فينيسيوس جونيور” وضع العنصرية الإسبانية في ركن الحلبة، ويستعد لتسديد ضربة “محمد علي” القاضية. ترى، هل ينجح الشاب الصغير في تغيير التاريخ؟

————————————————————————————————-

المصادر:

  1. مشادة إيريك غارسيا مع فينيسيوس جونيور. 
  2. المصدر السابق
  3. تقرير جوناثان ليو عن الوقائع العنصرية التي تعرض لها فينيسيوس هذا الموسم. 
  4. المصدر السابق
  5. عنصرية جمهور أتلتيكو مدريد ضد فينيسيوس. 
  6. المصدر السابق
  7. عنصرية جمهور ريال بلد الوليد ضد فينيسيوس. 
  8. تحقيق شبكة CNN عن العنصرية ضد فينيسيوس. 
  9. المصدر السابق
  10. المصدر السابق
  11. المصدر السابق
  12. المصدر السابق
  13. المصدر السابق
  14. المصدر السابق
  15. واقعة لويس أراغونيس في معسكر المنتخب الإسباني عام 2004. 
  16. تعليق تيري هنري ومانويل ألمونيا على عقوبة أراغونيس. 
  17. وقائع مباراة إسبانيا وإنجلترا عام 2004. 
  18. تعليق شون رايت فيليبس على عقوبة الاتحاد الإسباني.
  19. واقعة روبرتو كارلوس وبيب غوارديولا. 
  20. المصدر السابق
  21. عنصرية برنامج الشرينغيتو ضد فينيسيوس. 
  22. المصدر السابق
  23. تصريحات مافيو ورايلو ضد فينيسيوس ورد أنشيلوتي. 
  24. المصدر السابق
  25. المصدر السابق
  26. الصورة التي رسمها الإعلام الإسباني حول فينيسيوس. 
  27. إحصاءات فينيسيوس الموسم الماضي. 
  28. فينيسيوس يعادل رقم كرستيانو رونالدو. 
  29. تهديد برنامج الشرينغيتو لفينيسيوس. 
  30. تقرير شبكة Sky sports عن فينيسيوس. 
  31. المصدر السابق
  32. المصدر السابق
  33. فينيسيوس لا يظن أن ريال مدريد يدعمه بالشكل الكافي. 
  34. إحصائيات فينيسيوس في مباراة برشلونة. 
  35. اشتباك أنشيلوتي مع المراسلين. 
  36. العقوبات التي وقعها الاتحاد الإسباني والشرطة الإسبانية. 
  37. المصدر السابق
  38. ردّة فعل الرئيس والحكومة البرازيلية. 
  39. المصدر السابق
  40. تصريحات الصحفي موها غريهو. 




اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post وزير الصناعة: بحث سبل التعاون مع الدول الأفريقية حول تصنيع وتوريد مكونات السيارات
Next post “القيصر”.. قصة رسام جزائري عشق الريشة والألوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading