القدس المحتلة- في الطريق إلى منزل نورا صب لبن، الواقع في عقبة الخالدية بالبلدة القديمة في المدينة الفلسطينية المقدسة، والمهددة بالطرد منه لصالح المستوطنين أية لحظة، قابلنا المسنة فاطمة سالم المهددة بالطرد أيضا من منزلها بحي الشيخ جراح، وقد طغى الحزن على ملامحها وهي تتنقل ببصرها بين المارة في طريق “الواد” دون أن تتبادل الحديث مع أحد.
وبالوصول إلى المفترق الذي يوصل يسارا إلى سوق القطّانين ويمينا إلى عقبة الخالدية حيث ما تزال تعيش نورا، يتجوّل الكثير من المستوطنين الذين يعيشون بقوة الاحتلال في أزقة البلدة العتيقة.
باب حديدي مغلق على يمين الصاعد إلى العقبة يوصل إلى بناية نورا، ومنه يصعد الزائر 6 سلالم ضيقة جدا تؤدي إلى منزل مستوطن استولى على جزء من البناية، ثم 5 سلالم تنعطف يمينا توصل إلى باب حديدي أبيض خلفه الكثير من الحزن والترقّب والذكريات.
على سرير بجوار الشرفة تجلس نورا وزوجها مصطفى، يستقبلان ضيوفهما من المتضامنين والصحفيين على مدار الساعة. ورغم كثافة الزوار والقلق على مصير المنزل تحرص المواطنة بين الحين والآخر على تفقد زوجها، وتحثه على الانتقال لغرفة أخرى مجاورة لأخذ قيلولة.
ومن شرفتهما تظهر قبة الصخرة الذهبية شامخة (في المسجد الأقصى) والتي كلما غرقت نورا بسرد تفاصيل معاناتها الممتدة منذ قرابة نصف قرن وجدت في النظر إليها راحتها.
على مدار ساعتين تحدثت هذه المقدسية عن فصول ألم كثيرة ومعارك قضائية خاضتها وما زالت مع المستوطنين الذين يسعون لطردها من منزلها بادعاء أن اليهود كانوا يملكونه قبل عام 1948، ويريدون استرداده الآن.
في محطة انتظار
تقول نورا للجزيرة نت “والله تعبنا يا خالتي.. وكأنني أعيش منذ 47 عاما في المحطة، لا أصعد إلى القطار ولا أترجل منه.. الانتظار ذبحني لكنني لن أستسلم وسأصمد في منزلي للنهاية”.
وتروي لضيوفها عذاب مئات الجلسات في أروقة المحاكم التي لم تُنصفها، ثم تذكر المثل الشعبي الذي رددته مرارا “إذا كان القاضي غريمك فلمن تشكو؟”.
صوتها منخفض وتتعمد أن تُخفضه أكثر كلما تحدثت إلى صديقة مقرّبة عن السنوات التي اضطرت أن تتوجه فيها نحو المحاكم وهي تحمل أطفالها وقد ولدتهم للتو، أي عندما كانت في مرحلة النفاس.
“لم يأخذوا بعين الاعتبار أنني مستأجرة محمية وأن والدتي تدفع إيجارا منتظما لقاء هذا العقار منذ عام 1953، وساعدتهم أدواتهم القانونية الملتوية والعنصرية بالنجاح في استصدار قرار إخلائي، وأنا ساعدني الله على الصمود إلى اليوم وتحمُل ما لا تحمله الجبال”.
وكلما صمتت يمخر مخيلتها سيل من الأسئلة ذات الإجابات الصعبة والقاتمة، فكيف لها أن تُغادر جنّتها التي ولدت وترعرعت وعاشت شبابها وتعيش شيخوختها فيها؟ وكيف يمكن أن تُبعَد قسرا عن المسجد الأقصى الذي تصله بالسير بضع خطوات من منزلها؟ وكيف سيحتمل قلب زوجها لحظة الطرد وهو الذي أجرى قسطرة قلبية قبل أيام؟ وكيف ستعتاد ألم فراق البلدة العتيقة وطقوسها الاستثنائية؟
تواسي نورا نفسها بسنوات الصمود التي أخّرت استيلاء المستوطنين على منزلها بعد احتلال الجمعيات الاستيطانية دُكّانها ومخزنها وتحويلهما لمنازل يسكنها المستوطنون منذ سنوات. وتقول إن أول ما ستصادفه عائلة المستوطنين التي ستحتل منزلها بعد طردها هي العبارات التي تركتها العائلة على جدرانه وباللغات العربية والإنجليزية والعبرية.
“سنعود، الحرية للفلسطينيين، بيت مسكون بالأشباح، ستروننا في أحلامكم” وغيرها من العبارات التي رُسم العلم الفلسطيني بينها ملأت جدران المنزل المشُيّد الفترة العثمانية، وعاشت فيه والدة نورا منذ خمسينيات القرن الماضي وأكملت الابنة فيه حياتها بعد ارتباطها بزوجها وإنجاب 5 أبناء.
عقود في المحاكم
عام 1978 رفع ما يسمى “حارس الأملاك العامة” قضية ضد العائلة في محاولة لطردها من منزلها، وشهدت القضية عام 2010 منعطفا خطيرا ومعقّدا بعد تحويل ملكيته لجمعية “عطيرت كوهنيم” الاستيطانية.
وعام 2016 أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا قرارا يقضي بالسماح لنورا وزوجها فقط بالعيش في العقار 10 أعوام، وأمرت بطرد كافة أبنائها منه على أن يستلم المستوطنون المنزل عام 2026.
وأواخر 2018، عانت نورا من متاعب صحية صعبة وتنقلت بين المستشفيات ومنازل أبنائها لأشهر، فاستغل المستوطنون ذلك ورفعوا دعوى جديدة لإجبارها على إخلاء المنزل قبل الموعد المحدد بالمحكمة، بادعاء عدم مكوثها فيه.
وتماهى القضاء الإسرائيلي مع مطلب مستوطنيه وحدد 11 يونيو/حزيران الجاري موعدا أخيرا لطردها، لكن التضامن مع العائلة أفشل التنفيذ بالموعد المحدد. وينتظر المستوطنون أية فرصة تتراجع بها أعداد المتضامنين للسيطرة على المنزل.
وخلال مغادرتنا لمنزل نورا ألقينا تحية الوداع عليها وعلى نجلها الباحث المختص بشؤون الاستيطان أحمد صب لبن الذي قال إن أكثر من ألفي مستوطن يعيشون في 77 عقارا استولوا عليها خلال السنوات الماضية بالبلدة القديمة.
في هذه الأثناء، كانت نورا تُحدث ضيفة جديدة عن ساعات الليل الثقيلة التي لا تمر، وعن أبسط الأصوات التي تدفعها لإنارة المنزل وتفقّد غرفه ومحيطه خوفا من هجوم مباغت للمستوطنين وشرطة الاحتلال للاستيلاء عليه.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.