قبل ظهور شبكات التواصل بعقود كثيرة، كتب جان بول سارتر مسرحية تدور حول فكرة أن “الجحيم هم الآخرون”، فماذا تُراه كان ليكتب إذا عاصر هذه الشبكات؟! وقبل سارتر بقرون، قال جلال الدين رومي: “هناك ينبوع في داخلك.. فلا تتجول بدلو فارغ”، ولكننا اليوم -للأسف- نرى من يتجولون لساعات بدلاء فارغة في تلك المنصات لا ينتبهون لما يضعونه داخلها.
العقول لا تشيخ بتقدم العمر كما يعتقد كثيرون، بل بالتوقف عن تغذيتها بما يفيد، وهي إن لم تتسع ضاقت وتسللت إليها الشيخوخة، ولا شيء يفعل ذلك أكثر من غثاء تلك المنصات الذي لا يدع مساحة لغذاء مفيد.
الأسوأ من أن يُحرم العقل من الغذاء، أن تتراجع شهيته إليه، وأن يرى الإنسان في ما يفيد من غذاء جدية زائدة أو كآبة تقلل من متع الحياة، ويصبح شعاره “لماذا ترهق عقلك بينما تستطيع إراحته؟”، ويختار بدلا من أن ينشغل بنفسه متابعة حياة الآخرين، فيتسرب العمر من بين يديه بإرادته وهو لا يدري أو يتجاهل.
شغف وزهوة
يقول شمس التبريزي: “لا تقبل بحياة لست شغوفا بها”، ونتفق معه، فغياب الشغف يجعل الحياة بلا مذاق، وكأننا نتناول طعاما باردا لا نستسيغ طعمه، ونأكله فقط حتى لا نموت.
ونضيف لقول التبريزي الرائع: لا تقبل بإضاعة جزء من عمرك في متابعة ما يقتل شغفك بحياتك، ويضعف عقلك ويجعل الشيخوخة تزحف إليه فتنال منه حتى لو كنت في الـ20 من عمرك، فشيخوخة العقول لا علاقة لها بالعمر، فالعقل يشيخ عندما يتوقف عن دوره في “قيادة” حياة صاحبه، ويتركه “مستباحا” للغير من الموجودين على منصات التواصل الاجتماعي، الذين يكثرون “الثرثرة” في أمور لا تنفع الناس.
الخطوة الأولى تبدأ عادة بالفضول أو الملل، فهذان الشعوران يدفعاننا إلى استكشاف ما هو جديد حتى لو كان ضارا، تماما كما تبدأ رحلة الإدمان بالفضول لاستكشاف تجربة مختلفة، أو هربا من واقع مؤلم يزحم عقله بالأسئلة، فإذا بالمرء يلقي بنفسه في دوامات الثرثرة التي لا تتوقف وينهك عقله بيديه بدلا من إراحته، ويورط نفسه بالتفكير في ما لا يعنيه أو النقاش حول ما لا يفيده، مستنزفا عقله في منازعات وجدال تدفع به إلى الشيخوخة المبكرة.
ولكان الإنسان في غناء عن ذلك لو أعز عقله وأسرع بالقفز بعيدا عما لا يعجبه.
أتفق مع نجيب محفوظ حين يقول: “لا تغال في المثالية، وإلا متّ من التقزز”، وهو ما نفعله بأنفسنا عندما نصدق النماذج المثالية الكاذبة لنجوم الشبكات الاجتماعية التي تقدم أمورا تنافي العقل، كطلب بعضهم المشورة في أمور يسهل على أي طفل حلها، أو تصديق النفاق الزائد والمديح الفج الذي يكال لكلمات عادية جدا، أو الانسياق وراء السعي المحموم لكثيرين للحصول على الاهتمام ولو عبر التعري النفسي ونشر تفاصيل شخصية جدا عن حياتهم طلبا للمتابعات أو عبر سرقة منشورات الآخرين ونسبتها لأنفسهم، وغير ذلك كثير.
وأختلف مع العقاد في قوله: “أقرأ الكتب التافهة لأعرف كيف يفكر التافهون”، أختلف أولا لرفضنا النظر باستعلائية إلى الآخرين مهما اختلفنا معهم، وثانيا لأن أعمارنا مهما طالت قصيرة، وليس من الذكاء إهدار ثانية منها في معرفة ما يضر عقولنا التي هي رأسمالنا الحقيقي في الحياة، والذي إذا تناقص عشنا بذبول مهما تعالت ضحكاتنا وكثر عدد المتابعين وتضاعف الإعجاب.
يشيخ العقل بإنهاكه بإصدار الأحكام على ذلك المحتوى وما يلحقه من تعليقات نتوهم أنها مقياس للرأي العام، ناسين أن هناك أغلبية صامتة لا تملك الحماسة للمشاركة بإبداء رأيها.
خواء وقطيع
أؤيد قول روبين شارما: “نعيش في عالم يمتلك فيه كثير منا أصدقاء على الإنترنت، ولكننا في الواقع فقدنا التواصل الإنساني الحقيقي”، وميزة التواصل الإنساني أنه ينمي الرغبة في الحياة الحقيقية ويلفظ الزيف المنتشر بضراوة على وسائل التواصل، كما يتيح لنا أن ننعم باستراحات نفسية وعقلية تجدد حياة نفوسنا وتمنع الخواء بأنواعه وتفاصيله التي تستنزف الأعمار، فنقاوم السير وراء القطيع وهذا كله يحدث عكسه على منصات التواصل.
للطبل صوت عال لأنه أجوف من داخله، وهو مع ذلك يملك جاذبية بما يوهمه من حضور أقوى من حقيقته، ولهذا ينخدع البعض بحياة مليئة بضجيج، لكنه يشعر بالألم عندما يرى خواءها من الداخل، على عكس ما يشعر به من ملأ عمره بما ينير قلبه وعقله.
يقول جورج برنارد شو: “إذا قرأ الغبي كثيرا من الكتب الغبية، سيتحول إلى غبي مزعج وخطير، لأنه سيصبح غبيا واثقا من نفسه وهنا تكمن الكارثة”، لن أشاركه استخدام وصف “غبي” وسأكتفي بالمزعج الباحث عن مكانة لم يبذل جهدا حقيقيا للفوز بها، وبدلا من ذلك يبحث بهستيريا عما يؤيد أفكاره التي تخاصم العقل، فإن لم يجد، نحل أقوالا إلى بعض الحكماء ليمنحها “مصداقية” ويمنح نفسه “صكوك تميز مزيفة”، وذلك كله سعيا وراء مديح مؤقت لا يلبث الناس أن ينسوه وتشغلهم عنه الشواغل، أو يسخروا منه في مجالسهم وإن امتدحوه في فضاء الشبكات الاجتماعية.
“الفضول الإيجابي” يفيد العقول ويدفعها للمعرفة ويوسع الأفق حيث الاهتمامات الناضجة التي تأخذ بيد صاحبها للأفضل، و”الفضول السلبي” يجرد صاحبه من كل صفة قد تجعله أفضل، فتشغله بالجدل في ما لا يفيد، أو تتبع الفضائح وأخبار المشاهير أو ترديد الشائعات وخوض المعارك دفاعا عنها.
وسائل التواصل يجب أن تبقى “وسائل تواصل”، وليست منصات للاستسلام لكل ما ينشر عليها وتصديقه من دون تفكير، وإذا كان يقال إن “من مهلكات النفس تعلقك بمن لا يستحقك”، فإنني أقول إن من مهلكات العقول ترك النفس فريسة مستباحة لوسائل التواصل وحرمانها من التعلق بما تستحق.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.