وُلد تشيكيا، ومات فرنسيا، هكذا نعت الصحافة الكاتب التشيكي الأصل ميلان كونديرا، الذي عاش في فرنسا منذ هاجر إليها من وطنه الأم عام 1975. توفي كونديرا في الحادي عشر من يوليو/تموز الجاري، تاركا إرثا من الأسئلة حول الهوية والذاكرة والسلطة، وُلدت في خضم الصراعات السياسية الصاخبة في مواجهة الشمولية، لكنها في زمننا الحالي لا تزال صالحة لأن تُطرح، فهي تتجاوز السياسة وصراعاتها، لتنشغل بالإنسان أولا وأخيرا.
من ربيع الحلم إلى المنفى
“لقد رأت الحكومة أننا كنا أقل خطورة عليها في المنفى من صمتنا في سجون بلدنا، كان ذلك اعترافا بالقلق الخفي في تشيكوسلوفاكيا لمجرد معرفة أننا ما زلنا موجودين هناك”.
في الأول من أبريل/نيسان عام 1929 وُلد ميلان كونديرا في برنو، فيما عُرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، والده هو لودفيك كونديرا، موسيقي وملحن وعازف بيانو شهير، نشأ ميلان كونديرا في بيت فني، وتعلم الموسيقى ومارسها في سن صغيرة قبل أن تتحول اهتماماته الفنية لاحقا إلى الكتابة والأدب.
وقعت بلاده فريسة للاحتلال النازي وهو بعد في عمر العاشرة، وحتى عام 1945، وهو ما جعله مثل الكثير من أبناء جيله يعتنق الشيوعية وينضم للحزب الشيوعي منذ عمر الثامنة عشرة، حالِما بمستقبل أفضل في وطنه. لكنه أدرك كيف يمكن أن يتحول الحلم إلى كابوس، حين طُرد من الحزب عام 1950، عقب إرساله رسالة تحمل نبرة ساخرة من أحد المسؤولين (وهي الحادثة التي سيستغلها بعد ذلك لرسم أحداث روايته “المزحة”). رغم ذلك فقد سُمح له بمواصلة الدراسة وتخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في براغ، حيث عُيِّن مدرسا للأدب العالمي في مدرسة براغ للسينما، وهي الفترة التي تمكن فيها من ترك أثر واضح على العديد من رواد “الموجة التشيكية الجديدة”، ومن أبرزهم ميلوش فورمان، المخرج الأميركي التشيكي، الذي حصد الأوسكار فيما بعد عن فيلمي “One Flew Over the Cuckoo’s Nest” و”Amadeus”. (1)
“عولجت المظالم القديمة لتُرتكب أخرى جديدة”، هكذا يصف كونديرا هذه الفترة المظلمة في روايته “كتاب الضحك والنسيان”، لقد أدرك في هذه الفترة كيف أن الشرور التي ارتُكبت باسم الاشتراكية كانت سُمًّا متأصلا فيها ولم تكن مجرد خيانة للثورة. وعقب عودته إلى الحزب عام 1956 أصبح كونديرا واحدا من أبرز الأصوات المطالبة بالإصلاح علانية.
برز ذلك في روايته “المزحة” التي نُشرت عام 1967، وحققت نجاحا كبيرا بعد نفاد طبعاتها الثلاث، كما تُرجمت إلى الفرنسية، ليعيش ميلان كونديرا فترة من النجاح والازدهار التي كلَّفته الكثير فيما بعد. فعقب الغزو السوفيتي في أغسطس/آب 1968، انتهى حلم ربيع براغ، وأدَّت الرواية التي تنتقد النظام إلى طرد كونديرا نهائيا من الحزب السوفيتي، ووضعه على القائمة السوداء للنظام، ففُصل من وظيفته، وحُظرت كتبه من المكتبات، ومُنع من النشر، كما ضيقت الشرطة على مكالماته وتحركاته. رتب له بعض الأصدقاء الكتابة بأسماء مستعارة، حتى إنه قضى فترة من الوقت في كتابة عمود عن التنجيم، لكن سرعان ما انكشف أمره، فعاد كونديرا للموسيقى مضطرا، حيث عمل عازفا للجاز في الملاهي الليلية، وأحيانا عاملا باليومية. (2)
وبينما كانت رواياته ممنوعة في بلاده بدأ صيته يذيع في الخارج، حيث نشر صديقه الكاتب الأميركي فيليب روث رواية “غراميات مرحة” مترجمة إلى الإنجليزية في سلسلة “كتاب من أوروبا الأخرى” الصادرة من دار بنجوين، كما فاز عام 1973 بالجائزة الفرنسية “Prix Médicis”، وهكذا بدا خيار الهجرة يلوح في الأفق منفذا أخيرا.
كان قرار كونديرا بالهجرة فارقا بالنظر إلى خيارات النخبة الثقافية التشيكية في ذلك الوقت، في الحوار المنشور عام 1984 يعلق كونديرا على خيار الرحيل قائلا: “من المهم الإشارة إلى أننا قد (سُمِح) لنا بالمغادرة، في الستينيات لم يكن بإمكان أحد مغادرة تشيكوسلوفاكيا، ثم فجأة في السبعينيات صار بإمكاننا الرحيل. في الواقع كان هناك ضغط خفي لكنه عنيد للسماح للناس بالرحيل. وبما أن النخبة المثقفة هي التي يمكن أن تفكر بجدية في المغادرة، لا يسعنا إلا أن نستنتج أن روسيا قررت أن المثقفين -الأشخاص الذين يحترفون التفكير- كانوا في غاية الخطورة… في السابق، تم الزج بهم في السجن، لكن الحكومة رأت أننا كنا أقل خطورة عليها في المنفى -رغم إمكانية الكتابة وإلقاء الخطب وحتى التنظيم ضدها- من صمتنا في سجون بلدنا، كان ذلك اعترافا بأننا حتى في السجون كنا بمنزلة إضافة للقلق الخفي في تشيكوسلوفاكيا لمجرد المعرفة بأننا ما زلنا موجودين هناك”.
وبينما غادر المئات مثل كونديرا، اختار البعض الآخر البقاء والمقاومة، ولعل أبرز هؤلاء الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل الذي تعرض للحظر أيضا، وسُجن أكثر من مرة، وكان أحد أعمدة الثورة المخملية التي نجحت في 1989، ليتولى بعدها رئاسة تشيكوسلوفاكيا.
في عام 1975 تلقى كونديرا دعوة للعمل مدرسا في جامعة رين، حيث عُيِّن أستاذا زائرا للأدب المقارن، وهكذا اتخذ قرار الرحيل بصحبة زوجته فيرا هرابانكوفا التي كانت من أشهر مقدمي البرامج التلفزيونية في ذلك الوقت. وفي عام 1979 أسقطت تشيكوسلوفاكيا جنسيته هو وزوجته، ولم يستعيداها إلا بعد مرور 40 عاما، إذ ظل استقبال أعماله فاترا لفترة طويلة في التشيك حتى في فترة ما بعد السوفييت، خاصة مع قطيعته اللغوية وانتقاله للكتابة باللغة الفرنسية. (3)
الحياة في لغة أخرى
قضى كونديرا بقية سنوات حياته في فرنسا حتى وفاته مؤخرا، وكان قد حصل على الجنسية الفرنسية عقب إسقاط جنسيته الأم بنحو عامين. لكنه على العكس من الكثير من المهاجرين، لم يستمر أسيرا لفكرة الوطن الأم، بل وجدها بشكل ما فكرة غائمة ومشوشة، لقد اختار كونديرا أن يصبح فرنسيا، وهو ما عنى تخليه عن الكتابة بلغته، حيث كانت آخر أعماله بالتشيكية هي رواية “الخلود” التي صدرت عام 1988، ليتحول بعدها إلى الكتابة باللغة الفرنسية في خيار واعٍ يقول عنه: “عندما غادر المثقفون الألمان بلادهم إلى أميركا في الثلاثينيات، كانوا متأكدين من أنهم سيعودون يوما ما إلى ألمانيا، اعتبروا إقامتهم في الخارج مؤقتة. من ناحية أخرى، ليس لديّ أي أمل في العودة، إقامتي في فرنسا نهائية، وبالتالي فأنا لست مهاجرا، فرنسا هي وطني الحقيقي الوحيد الآن، هل أعتبر حياتي في فرنسا حياة بديلة، وليست حياة حقيقية؟ هل أقول لنفسي: حياتك الحقيقية في تشيكوسلوفاكيا، بين أبناء بلدك القدامى؟ أم أقبل حياتي في فرنسا، هنا حيث أنا حقًّا، كحياة حقيقية وأحاول أن أعيشها بالكامل؟ لقد اخترت فرنسا”.
رغم ذلك، بدت بعض روايات كونديرا وكأنها في حال ما بين بين، وكأنه لم يتحرر تماما من أسر وطنه الأم، فقد ظلت الأحداث في بلاده، وخلفيتها السياسية مهيمنة على قسم كبير من رواياته. ذلك أن خبراته الحياتية ومخيلته ترسخت هناك، في صورة الوطن القديم المشوشة في براغ.(4)
ولا يتعلق اختيار كونديرا الكتابة بالفرنسية فقط بخياره الحياتي وبتشوُّش فكرة الوطن، لكنه يتعلق أيضا بتلقي أعماله المترجمة عن التشيكية، فقد عانى كونديرا من الترجمات الأولى لرواياته، والتحرير الذي كان يركز على قيمتها بوصفها روايات احتجاجية ذات طبيعة سياسية، متجاهلا جمالياتها، وهو ما أدى إلى استبعاد الكثير من أدواته الأسلوبية في الترجمات الإنجليزية، وإثقالها بالاستعارات والمجاز في الترجمات الفرنسية، وهو ما اعتبره كونديرا شبيها بما يفعله الرقباء الشيوعيون.
كل هذه التجارب جعلت كونديرا يلجأ إلى الكتابة باللغة الفرنسية مباشرة بدلا من التشيكية، كما أعاد كتابة رواياته التشيكية في نسخ فرنسية أصر على أن يعتمدها مترجمو اللغات الأخرى. لكنه من ناحية أخرى تأخر في ترجمة نصوصه الفرنسية الجديدة إلى التشيكية، وهو ما عُدَّ بمنزلة جحود وقطيعة مع وطنه الأم، أثار انتقاد الإعلام التشيكي وحتى الفرنسي الذي رغب دائما في النظر إليه بوصفه مهاجرا تشيكيا أكثر منه أديبا فرنسيا. (5)
ورغم ذلك نظر كونديرا إلى تجربته للعيش في فرنسا باعتبارها تجربة مهمة ساعدته في رؤية العالم من وجهة نظر مختلفة، خاصة مع تأثره بعدد من رواد الأدب الفرنسي أمثال ديدرو في كتابه “جاك القدري” الذي تأثر بمفهومه عن الرواية باعتبارها مساحة للعب والفكاهة.
خفة الوجود.. وحماقة اليقين البشري
“يبدو لي أن الناس في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر يفضلون الحكم بدلا من الفهم، والإجابة بدلا من السؤال، يصعب سماع صوت الرواية بسبب حماقة اليقين البشري الصاخبة”.
يمكن اعتبار الكوميديا السوداء في تراث أوروبا الوسطى، والفكاهة التي تتجلى في أعمال بوكاتشيو وسرفانتس ورابيبليه أحد أهم العناصر في أدب كونديرا. وذلك عبر ما أطلق عليه “المهزلة”، التي يرى أنها طريقة للالتفاف على الجانب الممل من الحبكة الروائية، يشير إلى ذلك المعنى في حواره مع الكاتب الأميركي فيليب روث والمنشور في منتصف الثمانينيات في جريدة النيويورك تايمز قائلا: “كان طموحي طوال حياتي هو توحيد أقصى درجات الجدية في السؤال مع أقصى درجات خفة الشكل. إن الجمع بين شكل تافه وموضوع جاد يكشف على الفور الحقيقة… نحن نختبر خفة الوجود التي لا تطاق”.
في عالم كونديرا الروائي تنبثق الأحداث الكبرى دائما من مصادفات مرحة، تافهة في بعض الأحيان، ودعابات تحوي قدرا من الفكاهة، حيث شعر بأهمية روح الدعابة والفكاهة في زمن القسوة الستالينية. يقول: “يمكن أن تحمل كل واحدة من رواياتي عنوان: خفة الوجود التي لا تطاق أو النكتة أو الحب المضحك. العناوين قابلة للتبديل، فهي تعكس العدد القليل من الموضوعات التي تستحوذ على هوسي، وتعرفني، وللأسف، تقيدني. بخلاف هذه الموضوعات، ليس لدي أي شيء آخر أقوله أو أكتبه”. (6)
ولكن رغم هذه “الخفة”، تمكَّن عالم كونديرا الروائي من طرح أسئلة حول الهوية، والخيارات الإنسانية، والعلاقة المشتبكة بين التاريخ والذاكرة والسلطة لا تزال صالحة حتى يومنا هذا، بكل ما يحيط بنا من تحديات تتزايد مع الشعور العام بالاغتراب والشتات، في مواجهة “الأنظمة الشمولية” على اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها الأيديولوجية. (7)
عبر كتبه النظرية ومقالاته أيضا يتشكَّل كذلك جانب كبير من إنجازه الإبداعي والفلسفي، خاصة من خلال ثلاثيته: فن الرواية، والوصايا المغدورة، والستار، حيث ينطلق للبحث في مشتركات الرواية والفلسفة والموسيقى والتاريخ في تأسيس الحداثة الغربية. فمن وجهة نظره صار الإنسان “مجرّد شيء بسيط في نظر قوى التقنية والسياسة والتاريخ التي تتجاوزه وترتفع فوقه وتمتلكه. ولم يكن لكيانه المحسوس، لعالم حياته في نظر هذه القوى أي اعتبار”.
وبينما تناست الطبيعة كينونة الإنسان ووجوده، عمدت الرواية الأوروبية عبر أربعة قرون من تاريخها إلى استكشافه بداية من رواية “دون كيخوته” لسرفانتس، وهي المهمة التي لا يقدر عليها بحسب كونديرا سوى الرواية، فبينما تسعى الفلسفة لفهم “الأنا المفكر”، تسعى الروايات من أجل فهم العالم، وهو ما يجعله يعتبر سيرفانتس بمنزلة مؤسس للحداثة الغربية جنبا إلى جنب مع الفيلسوف ديكارت. وهكذا تُلقي ثلاثيته ضوءا كاشفا حول تاريخ تفكيك الرواية لمختلف أبعاد الوجود، وتكشف عن فهم عميق لخلفية الممارسة الفنية الروائية، بوصفها طريقة مختلفة للرؤية وكشف احتمالات العالم، وإمكاناته. (8)
احتمالات بلا حدود
“الشخصيات في رواياتي هي إمكانياتي غير المحققة. هذا هو السبب في أنني مغرم بهما ومذعور منهما بالقدر نفسه”.
تتضح رؤية ميلان كونديرا للرواية عبر أعماله، وفي حديثه مع الكاتب الأميركي فيليب روث يؤكد كونديرا الحرية الكبيرة الكامنة في الشكل الروائي، واعتقاده أنه من الخطأ النظر إلى بنية معينة باعتبارها جوهر الرواية الذي لا يُنتهك. يمكننا أن نشاهد تجلي تلك الرؤى بوضوح في أغلب روايات كونديرا التي يمزج فيها بين التخييل والتحليلات والمقالات الفلسفية، بل وأحيانا يضمنها نوتات موسيقية (كما فعل في روايته “كتاب الضحك والنسيان”).
لقد نشأ كونديرا في بيت موسيقي، وكان والده رئيسا لأكاديمية جاناتشيك للموسيقى وعازف بيانو شهيرا، وهو ما جعل معمار رواياته متأثرا بالبناء الموسيقي، حيث يستكشف موضوعات رواياته عبر أكثر من وجهة نظر وطريقة لتصبح الرواية شبيهة بالتنويعات الموسيقية البوليفونية. (10) يعمد كونديرا كذلك إلى كسر إيهام السرد في بعض أعماله، ويصف بوضوح المجازات التي استخدمها لخلق الشخصيات الروائية متخطيا الحدود التقليدية للسرد الروائي، ومنفتحا على مختلف المسارات بخفة غير مسبوقة، وهو ما يجعل قراءة رواياته بمنزلة تجربة جمالية معقدة بعض الشيء. (9)
في مقاله المنشور في “نيويورك تايمز” عقب نشر روايته الأشهر على الإطلاق “خفة الكائن التي لا تُحتمل” أو “كائن لا تُحتمل خفته”، يشير إلى أن ما أنقذ الرواية من الموت هو اعتداءات الروائيين على أعراف السرد التقليدية، ويتحدث عن كسر الإيهام السردي قائلا: “لا تولد الشخصيات من امرأة، مثل الناس؛ بل تولد من موقف، جملة، استعارة، تحتوي باختصار على إمكانية بشرية أساسية… الشخصيات في رواياتي هي إمكانياتي غير المحققة. هذا هو السبب في أنني مغرم بهما ومذعور منهما بالقدر نفسه”.
انشغل كونديرا بالخيال بوصفه قيمة في حد ذاته، فرغم تضمينه للعديد من المقاطع التي تروي الأحلام في رواياته، عارض بشدة قراءاتها الرمزية ومحاولة فك شفراتها التي رأى أنها لا تؤدي إلى شيء. ويرى أن كافكا أحدث ثورة ومعجزة جمالية في هذا السياق من حيث مزج الحلم بالواقع، بينما ما يفعله هو كتابة روايات متعددة الأصوات. (11)
الذاكرة بوصفها نوعا من النسيان
“اغتيال أليندي غطّى ذكرى الغزو الروسي لبوهيميا، ومذبحة بنغلاديش الدموية أدَّت إلى نسيان أليندي، وضجة الحرب في صحراء سيناء طغت على أنين بنغلاديش، ومذابح كمبوديا أدت إلى نسيان حرب سيناء، وهكذا وهكذا، إلى أن ينسى الجميع كل شيء”.
بحسب كونديرا، لطالما رغب الإنسان في تغيير الماضي، ومحو مساراته ومسارات الآخرين، وهذه الرغبة في إعادة صياغة الماضي عند رواية أحداثه تجعل التذكر بمنزلة وجه آخر من أوجه النسيان. هذه المراوحة بين الماضي والحاضر وثنائية الذاكرة والنسيان واحدة من ثيمات كونديرا المتكررة، جنبا إلى جنب مع المواجهة المستمرة بين الخاص والعام، وهو ما يجعل الكاتب الأميركي فيليب روث يصف كتابة كونديرا بأنها بمنزلة شكل من أشكال التحليل النفسي للسياسة.
في المجال العام رأى كونديرا عملية “النسيان المنظم” التي حرمت وطنه الأم من وعيه القومي، عبر حظر المؤلفات التاريخية للكُتَّاب التشيك، وطردهم من مناصبهم، وإعادة كتابة التاريخ بما يتوافق مع رؤية السلطة الحاكمة، بحيث تفقد الأمة وعيها بماضيها، ليصبح النسيان شكلا من أشكال الموت، سواء في المجال الخاص والشخصي أو في المجال العام. (12)
ربما تتمكَّن الثقافة من العيش لبعض الوقت في ظروف الاضطهاد، لكنها تحتاج إلى الحياة المفتوحة، خاصة مع مرور الوقت، حيث تبدو الدول الفاشية والدكتاتورية محنة طويلة بلا نهاية، كما يُمثِّل الاضطهاد السياسي خطرا آخر، حيث يخلق حدا واضحا للغاية بين الخير والشر، وهو أمر مميت بالنسبة للأدب في اعتقاد كونديرا، فمهمة الكاتب ليست هي الوعظ بالحقيقة، لكنها استكشاف الحقيقة، وكشف المجهول من الوجود الإنساني.
لقد تأثر أدب كونديرا بالغزو الروسي واحتمالية أن تُمحى بلده الأم تماما، وأن تذوب حضارتها وتختفي، هذا الخوف من النسيان كان كفيلا بتغيير إحساسه بالحياة بأكملها، فانشغل في العديد من أعماله وحواراته بأوروبا الوسطى وتاريخها الثقافي ومحنتها في ظل تأثير الاتحاد السوفيتي، هذا الشعور بالخطر ارتبط من وجهة نظره بحيوية الثقافة بوصفها نوعا من الحيل الدفاعية ضد السلطة. (13) (14)
“الفن والأدب يفقدان قيمتهما عندما يصبحان دعاية، سواء شيوعية أو مناهضة للشيوعية”.
ولكن رغم انشغاله بالشأن العام، فإن ميلان كونديرا كان رافضا لما يمكن اعتباره “أدلجة” أو “تسييسا” لأدبه، وعانى من النظرة القاصرة للقراء، الذين نظروا إلى رواياته باعتبارها بوابة للتعرف على الظروف السياسية في وطنه الأم، خلال فترة الحكم الشيوعي. لقد عبَّر عن ذلك الرفض من خلال شخصية “سابينا” في روايته “خفة الكائن التي لا تُحتمل”، الرسامة التي كرهت اختزالها في جنسيتها التشيكية عند تلقي فنها في الخارج. رغم ذلك ركز النقاد على المنطلقات السياسية لكونديرا، فقرأ الكثيرون منهم الصراع ضد السلطة في أدبه بوصفه إشارة للصراع ضد الدولة، مما يجرده من أي معنى ميتافيزيقي أوسع من حدود المعنى السياسي.
وقد أشار الباحث في دراسات ما بعد الكولونيالية “روبرت ج. س. يانج” إلى أن الكثير من الناشرين الأجانب عند نشرهم للكُتَّاب من الثقافات المهمشة يميلون أكثر إلى تفضيل النصوص ذات الطبيعة المعلوماتية الاجتماعية، بدلا من تلك الجمالية، وهو ما جعل كثيرا منهم يقرؤون كتابات كونديرا باعتبارها مرتبطة بالسياق السياسي الذي سرعان ما سيطويه النسيان. (15)
ورغم رفض كونديرا لأدلجة أعماله، ارتبطت العديد من رواياته، وخاصة في المرحلة التشيكية، بالأحداث السياسية في وطنه الأم، رغم اعتقاده أن ابتكار فن لانتقاد النظام السياسي هو أسوأ ما يمكن أن يحدث، فبحسب قوله: “الفن والأدب يفقدان قيمتهما عندما يصبحان دعاية، سواء شيوعية أو مناهضة للشيوعية”.
لكن قطيعة كونديرا مع ماضيه، ومساءلته المستمرة في أعماله لمرحلة الشيوعية لم تحمه من الاتهام بالخيانة، وهي التهمة التي فجَّرتها مجلة “رسبيكت” (Respekt) التشيكية، حيث اتُّهِم بتسليم طيار تشيكي هرب من الجيش بعد العصيان الشيوعي المسلح عام 1948، وجُنِّد للعمل مع المخابرات الأميركية. وقد ادعت المجلة التشيكية حصولها على وثيقة تؤكد أن كونديرا قد أبلغ أثناء دراسته الجامعية وتحديدا في عام 1950 عن الطيار التشيكي ميروسلاف دفوراسيك، الذي واجه حكما بالإعدام خُفِّف إلى 22 عاما من السجن مع الأشغال الشاقة، قضى منها 14 عاما. (16)
دفع ذلك كونديرا، الذي عُرف بابتعاده عن وسائل الإعلام، إلى الخروج عن صمته غاضبا، وأصدر بيانا نفى فيه ما حدث، واصفا إياه بأنه بمنزلة “اغتيال كاتب”، وهو ما دفع عددا من الكتاب والمفكرين إلى نشر رسالة دعم مفتوحة له.
تقدير متأخر
بعد مرور 40 عاما، وتحديدا في 2019، استعاد كونديرا وزوجته فيرا الجنسية التشيكية، حيث قدَّم لهما بيتر درولاك سفير التشيك في فرنسا وثيقة الجنسية، واصفا إياها بأنها بمنزلة عودة رمزية لأعظم كاتب في جمهورية التشيك. وفي عام 2020، مُنح كونديرا جائزة كافكا، الجائزة التشيكية التي رغم تأخرها عليه سعد بها كونديرا كونها تحمل اسم كافكا، الكاتب الذي طالما انشغل به. ورغم ذلك يرى الكثير من قراء ونقاد كونديرا أنه لم ينل التكريم المُستحق، وأنه من أكثر الكُتَّاب الذين استحقوا جائزة نوبل، مُعتبرين أن نوبل هي التي خسرت كونديرا بوفاته. رغم ذلك، تمكَّن الرجل من حفر مكانه بخفة ربما لا تعبأ بالجوائز، فكما قال بنفسه سابقا: “لقد عرفنا منذ فترة طويلة أنه لم يعد من الممكن قلب هذا العالم، أو إعادة تشكيله، أو تجنب اندفاعه الخطير. كانت هناك مقاومة واحدة ممكنة: ألا تأخذ الأمر على محمل الجد”.
———————————————————————————————–
المصادر:
1-Milan Kundera in the cinema: from the Czech new wave to ‘The Unbearable Lightness of Being’ – Tech Markup
2- PWF | Milan Kundera: Speech made at the Fourth Congress of the Czechoslovak Writers
3- دروس كونديرا وهرابال كيف تعامل كاتبان مع القمع؟ – الموقع الرسمي لجريدة عمان (omandaily.om)
4- Milan Kundera and the tragedy of Central Europe – spiked (spiked-online.com)
5- قراءات أحمد شافعي: دفاعا عن كونديرا: أن ننسى التاريخ (readingtuesday.blogspot.com)
6- A TALK WITH MILAN KUNDERA – The New York Times (nytimes.com)
7- It’s in Milan Kundera’s ambiguities and contradictions that we find his truths | Kenan Malik | The Guardian
8- Milan Kundera’s ‘remarkable’ work explored oppression, inhumanity – and the absurdity of being human (theconversation.com)
9- Milan Kundera: ‘funny, experimental, worldly’ | Books | The Guardian
10- Milan Kundera obituary | Milan Kundera | The Guardian
11- A TALK WITH MILAN KUNDERA – The New York Times (nytimes.com)
12- المصدر السابق
13- ميلان كونديرا.. خصم الأدب الروسي والمنظر المعادي للأيديولوجيا والقومية | ثقافة | الجزيرة نت (azureedge.net)
14- في تناقضات كونديرا نعثر على حقائقه – الموقع الرسمي لجريدة عمان (omandaily.om)
15- قراءات أحمد شافعي: دفاعا عن كونديرا: أن ننسى التاريخ (readingtuesday.blogspot.com)
16- خيانة كونديرا التي لا تحتمل (elaph.com)
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.