في ظل تعثر برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أبرمته مصر مع صندوق النقد الدولي عام 2016، والاتفاق على برنامج جديد للإصلاح أواخر العام الماضي؛ تعالت المطالبات بتغيير وزراء “المجموعة الاقتصادية” وإفساح المجال لوجوه جديدة، لكن ما تم تغييره إثر ذلك تناول الوزارات الهامشية؛ كالسياحة وقطاع الأعمال العام ومحافظ البنك المركزي، وظل متقلدو الوزارات الاقتصادية المهمة في مناصبهم.
ومع تعثر تنفيذ البرنامج الجديد، عادت المطالبة بتغيير القائمين على إدارة الملف الاقتصادي، وتردد أن هذا كان مطلبا لصندوق النقد، وأن دولا خليجية اشترطت تغيير “المجموعة الاقتصادية” قبل استئناف مساعداتها لمصر، ورشحت الإشاعات أسماء لتولي تلك الوزارات، لكن شيئا لم يحدث.
وهنا يثور السؤال: من صانع القرار الاقتصادي في مصر؟ ففي فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك كان للجنة السياسات التي رأسها نجله “جمال” دور رئيسي في صنع السياسات الاقتصادية، وشاركه في ذلك رجل الأعمال أحمد عز رئيس لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، لكن أحدا لا يستطيع الجزم حاليا بهوية صانع السياسة الاقتصادية، لا سيما أن كل رؤساء الوزراء الذين تولوا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي كانوا من المهندسين؛ بداية بإبراهيم محلب القادم من مجال المقاولات، وشريف إسماعيل القادم من مجال البترول، ومصطفى مدبولي القادم من مجال التخطيط العمراني، كما أن منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الذي ظهر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات قد اختفى.
دور اللجنة الوزارية الاقتصادية
ومنذ عهد الرئيس مبارك وحتى الآن، كانت مسؤولية وضع التوجهات الاقتصادية من مسؤولية لجنة تضم وزراء المجموعة الاقتصادية، واختلف عدد أعضائها في الفترات المختلفة، وإن ظلت رئاستها لرئيس الوزراء، ابتداء من عام 2012 (مع الدكتور هشام قنديل) وحتى الآن.
في عهد الدكتور هشام قنديل تكونت اللجنة من 5 أعضاء، هم: محافظ البنك المركزي، ووزراء: التخطيط، والمالية، والاستثمار، والصناعة، والتجارة. وفي عهد الدكتور حازم الببلاوي زاد العدد إلى 11 وزيرا، بضم وزراء “التعاون الدولي، والزراعة، والإسكان، والبترول، والسياحة، والتموين”، لكن وزارة المهندس إبراهيم محلب استبعدت من عضوية اللجنة عام 2014 وزراء الاستثمار، والتعاون الدولي والسياحة والزراعة والإسكان ليتراجع العدد إلى 6 وزراء.
وفي عام 2015، قام المهندس شريف إسماعيل برفع العدد إلى 9 أعضاء، معيدا وزراء السياحة والاستثمار والتعاون الدولي، لكنه أعاد تشكيل اللجنة بعد عام واحد لتصبح من 7 أعضاء، مستبعدا وزيري البترول والتموين، وتردد في ذلك الوقت أن القرار جاء استجابة لطلب وزيرة التخطيط النافذة “هالة السعيد” ليجعلها أقدم وزيرة باللجنة الوزارية الاقتصادية، واستمر ذلك الوضع عامين في عهد المهندس مصطفى مدبولى، قبل أن يعيد الوزيرين إلى عضوية اللجنة خلال العام الحالي، وسمح مدبولي أيضا لرئيس هيئة الاستثمار ورئيس البورصة بحضور اجتماعات اللجنة منذ عام 2020.
يثور سؤال: من صانع القرار الاقتصادي في مصر؟ هل هو وزير المالية أو وزيرة التخطيط أو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؟
وزير المالية أم وزيرة التخطيط؟
وفي ظل وجود رئيس للوزراء قادم من خارج الملعب الاقتصادي، يثور التساؤل حول: من الوزير الأكثر تأثيرا في مجريات عمل اللجنة الوزارية الاقتصادية؟
يرى البعض أن وزير المالية الدكتور محمد معيط هو الأكثر تأثيرا، حيث تنص قرارات تكوين اللجنة منذ عهد هشام قنديل وحتى مصطفى مدبولي على أنه “مقرر للجنة”، ثم أضيفت له مسؤولية المتحدث باسمها في التعديلات الأخيرة، وإن كان لم يمارس فعليا هذا الدور، كما أنه يجمع بين الوزارة ورئاسة هيئة التأمين الصحي الشامل.
إلا أن غالبية ترى أن الأكثر تأثيرا هي وزيرة التخطيط هالة السعيد، بما لها من نفوذ لدى مؤسسة الرئاسة، وهو ما يظهر في كثرة صحبتها للرئيس في جولاته الخارجية، والمكان المميز بالقرب منه في اللقاءات العامة، وكثرة مناصبها؛ فهي تتولى إلى جانب وزارة التخطيط رئاسة صندوق مصر السيادي ورئاسة بنك الاستثمار القومي ومعهد التخطيط القومي، ومحافظ مصر لدى مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، إلى جانب إشرافها على جهاز الإحصاء، وملف رؤية مصر عام 2030.
ويبرهن هؤلاء على رأيهم أنها كانت سببا في إبعاد سحر نصر من موقعها كوزيرة للتعاون الدولي والاستثمار عام 2019، وإعادة تشكيل اللجنة الوزارية الاقتصادية لتضمن لها الأقدمية والتأثير، كما كان الإبعاد مصير وزراء آخرين -من خارج اللجنة الاقتصادية- اختلفوا معها، مثل وزير التنمية المحلية السابق اللواء أبو بكر الجندي الذي فقد منصبه بعد 5 أشهر من توليه.
والواقع أن الأقدمية التي تحظى بها الوزيرة لا تستند إلى خبرات متراكمة في مجال التخطيط، فإذا كان العرف قد جرى منذ عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بأن يتولى وزارة التخطيط أحد خبراء معهد التخطيط القومي، فإن الوزيرة الحالية لم تكن لها صلة بهذا المجال، فأوراقها البحثية محصورة في المجال المصرفي، كما لم تكن من المشاركين في منتديات معهد التخطيط القومي، سواء بأوراق بحثية أو بمجرد الحضور.
وقد يتوقع البعض أن جهات أخرى تسهم في صنع القرار الاقتصادي، مثل المركز المصري للدراسات الاقتصادية الممول من المعونة الأميركية، أو معهد التخطيط القومي، أو المراكز البحثية المتخصصة في الجامعات، لكن الواقع أن هناك تحجيما لدور تلك الجهات البحثية ولو على مستوى عقد الندوات العامة، وقد رأينا كيف أن مشروعات قومية كبرى -مثل تفريعة قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة، وغيرهما- لم تعرض على تلك الجهات قبل أو بعد تنفيذها.
الرئيس صانع القرار الاقتصادي
لكن آخرين يرون أن صانع القرار الاقتصادي ليس رئيس الوزراء بخلفيته غير الاقتصادية، ولا وزير المالية بصفته مقرر اللجنة، ولا وزيرة التخطيط بما لها من وضع تمييزي في الحضور العام، بل صانع القرار الاقتصادي الحقيقي هو رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، ودليل ذلك انفراده بالحديث في اللقاءات العامة عن مختلف تفاصيل الملف الاقتصادي، ولقاءاته مع رؤساء الشركات الدولية، ومع مديرة صندوق النقد الدولي، وزياراته للمواقع الإنتاجية، وقوله للحضور في ختام المؤتمر الاقتصادي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إن ما خلصوا إليه من توصيات يتوصل إليه طالب السنة الأولى في كلية التجارة.
هذا الرأي يؤكده رئيس الوزراء نفسه حين ينسب كل قرار أو إنجاز إلى توجيهات رئيس الجمهورية، وموافقته على أي اقتراح يبديه الرئيس في محفل عام، وقد بدا هذا التدخل الواسع للرئيس في الشأن الاقتصادي منذ كان وزيرا للدفاع بعد 2013، إذ قابل رئيس إحدى الشركات الإماراتية للاتفاق على بناء مليون وحدة سكنية، ثم أعلن مشروعات ضخمة لم تكن مدرجة في الخطة مثل “تفريعة قناة السويس، ومشروعات إنتاج الكهرباء، والعاصمة الإدارية، ومدينة العلمين الجديدة، وغيرها”.
الرئيس وحده أيضا هو الذي يخرج للجمهور للحديث عن الأحوال الاقتصادية، بينما غاب محافظ البنك المركزي عن طمأنة الناس بشأن مستقبل الجنيه المصري، في ظل استمرار السوق السوداء أكثر من عام وربع العام، وصعوبة توقع استقرار سعر الصرف في المستقبل المنظور، رغم أهمية ذلك لرجال الأعمال والصناعة.
وبالمثل، غاب وزير المالية عن تفسير تراجع أسعار غالبية طروحات السندات المصرية في الخارج إلى نحو نصف قيمة طرحها، وهو ما يحول دون إمكانية طرح سندات جديدة، وغاب وزير البترول عن تفسير تراجع كميات وأسعار تصدير الغاز الطبيعي؛ مما أسهم في انخفاض قيمة الصادرات المصرية في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 22% عن الربع نفسه من العام الماضي.
ولهذا لا يتوقع أصحاب ذلك الرأي تغييرا قريبا في أعضاء اللجنة الوزارية الاقتصادية، لأن المشكلة الاقتصادية الحالية -حسب رئيس الدولة- راجعة إلى عوامل خارجية تتمثل في آثار كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وليست بسبب قصور داخلي!
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.