“أريد المساهمة في تطوير قوانين اللعبة بوجه عام”.
(آرسين فينغر (1))
يبدأ حديثنا اليوم من تعريف مصطلح “القوة” أو “السلطة” (Power)؛ وهو في إحدى صوره يعني القدرة على توجيه أو التأثير على سلوك الآخرين أو على سير الأحداث بوجه عام. دائما ما يسعى الإنسان للتحكم في مجريات الأمور، على الرغم من فوضوية الحياة التي تجعل الأمر أقرب للاستحالة.
آرسين فينغر لم يملك تلك القدرة حقا قبل عام 2019، حينما عيَّنه جياني إنفانتينو، رئيس الفيفا، مسؤولا عن تطوير كرة القدم العالمية. من وقتها، لم يتوانَ فينغر عن محاولة التأثير على قوانين كرة القدم الحالية؛ مثل مقترح قانون التسلل الجديد، الذي ينص على أن المهاجم لا يكون متسللا إلا إذا سبق آخر مدافع للخصم بكامل جسده، وليس بجزء بسيط منه فقط. (1)، (2)
في الواقع، كان هذا غيضا من فيض؛ فقانون التسلل الجديد لم يكن سوى البداية. ينوي فينغر تغيير الكثير أيضا فيما يتعلق بتنفيذ الضربات الحرة مثلا، أو “ركلات” التماس.. نعم، أنت لم تخطئ القراءة، كان هذا اقتراح الرجل فعلا؛ أن تتحول رميات التماس إلى ركلات بالقدم تُلعب في غضون ثوانٍ من احتسابها، ناهيك باقتراحه السماح للاعب المهاجم بلعب الضربات الحرة لنفسه، هذا يتيح للمهاجم أن يراوغ من الضربة الحرة مباشرة، دون الحاجة إلى زميل يمرر له الكرة. (3)
اقترحه أرسين فينغر.. الفيفا يعتزم إحداث تغيير ثوري في قانون التسلل pic.twitter.com/p1aMwHSytZ
— الجزيرة رياضة (@AJASports) July 3, 2023
رسميا، لم يُطبق أي شيء حتى الآن، رغم الحديث المستمر مؤخرا عن اقتراب العمل بقانون التسلل الجديد، لكن حديثنا معك عن احتمالية وقوع هذه التغييرات يُعد مؤشرا على تغيير مفصلي في اللعبة بوجه عام في السنوات القليلة القادمة. هذا هو تأثير آرسين فينغر المحتمل على كرة القدم، النابع من رغبته في مقاربة اللعبة من منظور يعكس فلسفته تجاهها.
التاريخ يُعيد نفسه
عبر تاريخها الممتد لأكثر من 150 عاما، مرت قوانين كرة القدم بالعديد من التغيرات، ومن أبرز تلك القوانين قانون التسلل بالطبع، ولم يكن فينغر أول مَن قرر أن يمارس إبداعه الخاص. تحدث جوناثان ويلسون عن ذلك في كتابه “الهرم المقلوب” (Inverting the pyramid)، قائلا إنه منذ عام 1863، لم يكد يُطبَّق قانون للتسلل حتى يوجد البعض تعديلا له بعد فترة من الوقت. (4)
ولكي تعلم كم تطورت اللعبة منذ ذلك الحين، يجب علينا إخبارك أن أول صور احتساب التسلل كانت عندما تُمرر الكرة للزميل أماميا في أي بقعة من بقاع الملعب، ليس بمحاذاة آخر مدافع أو عند تخطيه، وليس في نصف ملعب الخصم حتى، بل على الرقعة الخضراء بالكامل! أي إن على مستلم الكرة أن يكون بمحاذاة أو خلف خط الكرة كي لا يكون متسللا. لذلك اتسمت اللعبة حينئذ بالتمريرات العرضية والخلفية بشكل كبير، ولم يكن هناك حل للتقدم بالكرة سوى حملها والمراوغة بها، أي إن اللعبة اتسمت بالعشوائية نوعا ما حينها؛ فكانت تعتمد على مهارة اللاعبين فحسب، وكانت الأنظمة بدائية في ذلك الوقت، ولم تحد من تلك العشوائية حقا. (4)
عُدِّل قانون التسلل في 1866، فنص على أن المهاجم لا يكون متسللا إذا كان بينه وبين مرمى الخصم 3 لاعبين باحتساب الحارس، ثم في 1925، حينما تقلص عدد لاعبي الخصم إلى 2، مرورا بـ1990، حينما أُتيح للمهاجم أن يكون على الخط ذاته مع آخر مدافع، ونهاية بـ2005، عندما استثنيت أذرع المهاجمين من الأجزاء التي يُحتسب التسلل عليها. (4) (5)
فإذا كنت تظن أن فينغر يعبث بما بُنيت عليه اللعبة، فهذا يعني أن الكرة قد مر عليها العديد من العابثين طوال تاريخها، وربما كان هناك مَن يملك الظنون ذاتها أن هؤلاء الذين يحاولون “التطوير” هم مجرد مجدفين يحاولون فرض أفكارهم فقط، لكن كما تعلم؛ التغيير سُنة الحياة، وهناك مَن تأقلم على تعديلات اللعبة في الماضي، فهل يوجد مانع من استكشاف آفاق جديدة مرة أخرى؟
“أكثر ما نحتاج.. وأسوأ ما نستخدم”
تحريا للصدق، نحن نجهل قائل تلك العبارة، لكن ربما عندما تعلم أنه كان يشير إلى الوقت في حديثه (6)، فلن تهتم لهويته وستومئ برأسك موافقا لما قرأت، مثلما قد يومئ فينغر برأسه عند قراءتها أيضا. الفارق الوحيد أن فينغر يظن أنه يملك القدرة على التصرف إزاء ذلك.
وُضِع إهدار الوقت في اللعبة تحت العديد من التصنيفات التي اختلفت باختلاف الرؤى والسياقات؛ فمنا مَن أيَّد ذلك لأن الأمر يصب في مصلحة فريقه، والعكس بالعكس، ومنا مَن يعارض ذلك؛ إيمانا بالأخلاق الرياضية بوجه عام، ومنا مَن ينظر إلى الأمر براغماتيا ويعتقد أنه أصبح جزءا أساسيا من اللعبة، ويجب أن يعتاد عليه الجميع. ربما لن يتبنى ذاك الحزب الأخير التصور ذاته عندما يعلم أن لاعبي صنداونز الجنوب أفريقي قد أهدروا ما يقرب من دقيقتين كاملتين للعب ركنية واحدة في إحدى مبارياتهم في شهر فبراير/شباط من عام 2020، وظلوا يتبادلون تنفيذ الركنية بشكل استفز لاعبي الخصم ومدربهم للغاية. (7)
ربما سيتغير موقفهم إذا زدنا من الشعر بيتا، واستشهدنا بأحد تقارير موقع “ذي أناليست” (The Analyst) مؤخرا، الذي أشار إلى ظاهرة تضييع الوقت في الموسم الفائت من البريميرليغ؛ إذ بلغ عدد دقائق اللعب الفعلية في المتوسط لجميع المباريات 54 دقيقة و46 ثانية بعد انتهاء الجولة 35 من المسابقة، التي شهدت شكوى إيدي هاو من “الطرق الملتوية” التي لجأ إليها لاعبو أرسنال -للمفارقة- في تضييع الوقت أمام فريقه نيوكاسل، في المباراة التي فاز بها الغانرز 2-0 في ملعب الأول. (8)
تلك الدقائق الـ54 كانت أقل معدلات دقائق اللعب الفعلية في البريميرليغ منذ بدء احتساب الإحصائية في موسم 2011-2012، وبلغت نسبة الدقائق الفعلية متوسط الدقائق الكاملة لمباريات البريميرليغ 55.8%؛ أي إن متوسط دقائق اللعب الفعلية للمسابقة لم يتعدَّ 60% من متوسط الوقت الكامل لكل مباراة! وامتد الأمر إلى الدوريات الخمس الكبرى أيضا.
ستكون محقا إذا استخدمت حجة الـ”VAR” مثلا في هذا الطرح، إذ تبلغ مدة اتخاذ قرارات الفيديو في البريميرليغ 73 ثانية في المتوسط؛ أي دقيقة وربع تقريبا من وقت المباراة، لكن ماذا لو أخبرناك أن هذا هو الوقت ذاته تقريبا الذي تحتاج إليه المباراة لبدء اللعب مرة أخرى بعد تسجيل هدف؟ أو أنه أقل من ثلثي الوقت الذي تحتاج إليه المباراة لتسديد ركلة جزاء بعد احتسابها؟
وإذا وضعنا في الحسبان أن تدخلات الفيديو تُعد مهمة في قلب موازين المباراة، وأنها لا تحدث بالقدر ذاته حال مقارنتها بالأخطاء المرتكبة من الجانبين أو رميات التماس أو الركنيات، التي لا تأخذ أقل من نصف دقيقة للعبها في المتوسط، مع أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا الوقت إلا في حال وجود إصابة، ونعلم جميعا كم من المرات قد يلجأ اللاعبون إلى ادعائها في سبيل تعطيل اللعب وكسر نسق الخصم، فربما نستطيع وضع الأمر برمته في سياق متصل برؤية فينغر لإهدار الوقت.
حرب فينغر على إهدار الوقت وتعطيل سير المباريات ليست وليدة اللحظة، بل كانت على أشدها منذ كان مدربا للغانرز، وقد أشار الفرنسي إلى ذلك في مؤتمراته الصحفية العديد من المرات، بل إنه ذكر في مرة أن القائمين على اللعبة يحتاجون إلى إعادة النظر في القوانين التي تتعلق بإهدار الوقت في المباريات، وربما لبى هاورد ويب النداء -في مفارقة أخرى- متأخرا؛ إذ إن البريميرليغ سيبدأ بوضع الوقت الضائع بسبب احتفالات اللاعبين في الاعتبار عند احتساب الوقت البديل، بجانب علاج اللاعبين خارج الملعب في جميع الحالات، بدلا من تضييع الوقت في علاجه داخل الميدان في بعض الأحيان، باستثناء حراس المرمى بالتأكيد. ربما أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا بالفعل. (9) (10)
الشاهد من الأمر هنا هو أن فينغر قرر أن يتخذ إجراء حقيقيا، كما حدث في كأس العالم بقطر، وكما سيحدث بداية من الموسم الجديد للبريميرليغ، في محاولة لتغيير الوضع إلى الأفضل، باستخدام سلطة لم تكن لديه عندما كان يعمل على الخط وفي مقرات التدريب، حتى أعطاه إياها إنفانتينو، وربما، من وجهة نظر فينغر، كانت تلك التغييرات ضرورية، للتأقلم مع المتطلبات الحديثة للعبة في الحقبة الحالية على الأقل.
مواكبة العصر
“أعتقد أن الحياة الحديثة تتحرك بسرعة كبيرة، فالرصاصة تنطلق بسرعة، لكن نهايتها عادة مفاجئة ومميتة”.
فينيل هادسون (11)
عبارة أخرى تلائم ما نريد التحدث عنه. نحن نعيش في عصر لا فرصة فيه للتروي، يشبه الموج الذي يعصف بكل ما يقابله. كل شيء يسير بوتيرة جنونية، وكأننا في سباق لا ينتهي؛ نركض بسرعة بينما واقع الأمر أننا نقبع مكاننا، ولا نكاد ننهي عملا حتى نجد أنفسنا منغمسين فيما يليه، ولا توجد فرصة للسلام وسط كل هذا الركض غير المبرر. تلك هي رؤية المفكر المستقل هارشا بيريرا للأمر على الأقل. (12)
عندما شرح آرسين فينغر رؤيته لـ”كرة قدم الغد” -كما سمَّاها- في أحد مؤتمرات الفيفا، الذي اقترح فيه تغيير شكل جداول مباريات كرة القدم ما بين الأندية والمنتخبات، أشار الفرنسي أيضا إلى رؤيته للعصر، والمشابهة لنظرة بيريرا وهادسون كذلك؛ نحن نعيش في مجتمع سريع، وهذا يشمل الرياضات، واعتادت الأجيال الجديدة تلبية طلباتها على الفور، بسبب العولمة التي أوجدت عقلية مغايرة، عقلية تريد اختبار كل شيء وبسرعة؛ مواكبة لنسق العصر. (13)
لا يختلف الأمر حينما يتعلق بكيفية لعب الكرة في العصر الحديث. ندرك جميعا كم أصبحت كرة القدم تُلعب بنسق عالٍ، فتبدو المباريات وكأنها تُلعب أحيانا بسرعة مضاعفة، مقارنة بالأوقات السابقة. في عام 2021، قام بعض الباحثين بدراسة على مستوى الدوريات الخمسة الكبرى في موسم 2017-2018، حيث استُخدمت بيانات الحدث (Event data) في محاولة للاستدلال على تباين نسق اللعب في مختلف مناطق الملعب. (14)
سبب استخدام الباحثين لبيانات الحدث عوضا عن الاكتفاء بالتمريرات والتسديدات هو أنه على الرغم من أن عدد التمريرات الصحيحة لكل مباراة أو عدد التسديدات كذلك قد يكونان دلالة على ارتفاع أو انخفاض النسق، فالسياق يهم هنا؛ فقد تكون تلك التمريرات الصحيحة بين قلبي الدفاع أو بين أحدهم وبين الحارس دون ضغط، ولا يوجد ما يجبرهم على التمرير من لمسة واحدة للأمام مثلا، ولا تؤخذ التسديدات على المرمى بعين الاعتبار، مما يعني أنه لا يوجد معيار واضح لخطورة التسديدات. لذلك لا يمكن الاستدلال بهما فحسب على سرعة اللعب، ما دفع الباحثين للجوء إلى سرعة الانتقال من حدث إلى آخر في المناطق المختلفة في الملعب عوضا عن ذلك، واقتصرت بيانات الحدث هذه على التمريرات والركلات الحرة أكثر من أي شيء آخر. (14)
قياسا على 1682 حدثا مختلفا تقريبا لكل مباراة في الدوريات الخمسة الكبرى في ذلك الموسم -التي بلغ عددها 1826 مباراة- والمسافة بين الحدث والآخر، ثم الفارق الزمني بينهما، وبتحديد المسافة والزمن، نستطيع احتساب السرعة؛ نعني هنا سرعة الانتقال بين حدث وآخر فيما يدعى بـ”سرعة النسق”، وحُددت قيمة تلك السرعة في 4 اتجاهات مختلفة؛ السرعة الكلية، والسرعة ناحية أطراف الملعب، وكذلك في الاتجاه العمودي للمرميين، وفي اتجاه مرمى الخصم فقط؛ وهو اتجاه اللعب الأمامي.
من أجل احتساب قيم أدق للسرعات، قُسم الملعب إلى مربعات صغيرة بمساحة 5*5 أمتار، وقيست السرعات الأربع في كل مربع. كما قُسم الملعب أيضا إلى 8 مناطق كبرى كما في الصورة أدناه، بالتالي، نستطيع احتساب السرعات في كل منطقة من هذه المناطق عن طريق احتساب متوسط السرعات في المربعات الصغيرة الموجودة داخل كل منطقة كبرى، ونستدل بقيم تلك السرعات على سرعة اللعب في كل منطقة من تلك المناطق.
أظهرت النتائج -على تباينها ما بين دوري وآخر- أن سرعة اللعب تزداد بشكل ملحوظ في الثلث الهجومي من الميدان (مربعات 5 و6 و7 و8)، وقد تشابه هذا النمط في جميع الدوريات وما بين جميع الفرق تقريبا على اختلاف أماكن صناعة الفرص (سواء كانت من الطرف أو من العمق مباشرة)، وفي البريميرليغ تحديدا، اتضح أن سرعة اللعب الكلية تزداد كلما اقتربت الفرق من العمق، فيما تزداد قيمة السرعة في الاتجاه العمودي على طرفي الملعب أكثر من العمق، وكذلك الأمر بالنسبة للسرعة في اتجاه مرمى الخصم. باختصار مُخلٍّ، واستنادا إلى هذه النتائج؛ تميل فرق البريميرليغ إلى التقدم بالكرة من الأطراف عوضا عن العمق، وتزداد سرعة اللعب العرضي في العمق وصولا إلى الأطراف.
تُبين النتائج أيضا أن الفرق التي تميل للعب دون الكرة أكثر من غيرها تمتلك قيم سرعات أعلى في الثلث الهجومي مقارنة بالفرق التي تلجأ إلى الاستحواذ على الكرة أغلب الوقت، وهذا منطقي؛ بما أن الفرق الدفاعية تستطيع الاعتماد على التحولات السريعة والوصول إلى مرمى الخصم بأقل عدد من التمريرات وبأسرع شكل ممكن، ويحدث العكس مع الفرق التي تميل إلى احتكار الكرة لأسباب منطقية أيضا.
كي يتضح الأمر أكثر؛ ففي عام 2016، درس ماغني مور، الأستاذ بجامعة جزر الفارو، سلوك لاعبي البريميرليغ في الفترة ما بين عامي 2010-2012. تبين في تلك الدراسة أيضا أن معدلات الركض في السنوات العشر ما قبل تلك الدراسة في البريميرليغ قد ازدادت بنسبة 50%. ووجد مور أيضا أن معدلات الركض المرتفعة لمدة دقيقة واحدة قد تؤدي إلى إرهاق اللاعبين مؤقتا، مما قد يؤدي إلى الإرهاق الشديد في آخر 20-25 دقيقة من المباراة، الأمر الذي دفع جاسبر لوفيند أندرسون، رئيس معهد الطب الرياضي في مستشفى بيسبييرغ بكوبنهاغن، إلى محاولة جعل المدربين يصممون تدريباتهم بناء على تلك المعطيات. (15)
??| NEW: FIFA will test a new offside law, where the WHOLE body of the player must be in front of the defender for it to be ruled out.
The player below would NOT be offside using this rule. [DirectTVSports] pic.twitter.com/EVQTuoEnDt
— CentreGoals. (@centregoals) July 1, 2023
إذن، نستطيع القول إن موسم 2017-2018 لا يُمثِّل استثناء عن دراسة مور وأندرسون؛ أي إن نسق اللعبة في ازدياد مع الوقت، واستنادا إلى ما يقوم به فينغر، وحرصه على تشريع قانون التسلل بجانب بعض المقترحات الأخرى المذكورة، فيمكننا القول إن ارتفاع وتيرة اللعبة لن يتوقف عما قريب، وستمارَس المباريات تحت ظروف بدنية وذهنية قاسية، لا يُجهَّز فيها اللاعبون للركض فقط، بل لاتخاذ القرارات بسرعة أكبر من قبل، ما لم يكن سهلا من الأساس، ولا يوجد ما يدل على ذلك أكثر من حديث الرجل مسبقا عن “تمرين الذهن”:
“أرى أن الخطوة التالية هي استخدام التكنولوجيا من أجل تدريب عقولنا. يمكننا أن نرى ذلك في التدريب ثلاثي الأبعاد؛ حيث يمكنك ارتداء خوذتك ورؤية اللعبة في مكانك، وتدريب عقلك لاتخاذ قرارات سريعة لتوقع ما يحدث”. (16)
(آرسين فينغر)
ثورة على الذات
“نريد جعل اللعبة أكثر إثارة، وأسرع، وأكثر متعة في المشاهدة واللعب أيضا”.
(آرسين فينغر متحدثا عن مقترح ركلات التماس (17))
للوهلة الأولى، قد يبدو حديث آرسين عن إلغاء رميات التماس عائدا إلى ما عاناه حينما واجه رميات تماس ستوك سيتي الصعبة بقيادة توني بيوليس. كل ما عليك هو أن تتذكر روري ديلاب؛ الذي صنع 5 أهداف في مسيرته بالبريميرليغ من خلال رميات التماس حسب أوبتا، أكثر من أي لاعب آخر! وبوجه عام؛ تسببت رميات التماس الخاصة بديلاب في 24 هدفا في 208 مباراة لعبها مع ستوك سيتي، وتسببت في شعور فينغر بالحنق، لدرجة أنه أشار إليها بوصفها “ميزة غير عادلة” بعد هزيمة فريقه 2-1 أمام ستوك في موسم 2008-2009. (18)
5 – Rory Delap has more Premier League assists from throw-in situations (5) than any player on record (from 2007-08). Launch. #AskOptaJoe https://t.co/qWbvYp5z9B
— OptaJoe (@OptaJoe) December 22, 2022
بالنسبة للفرنسي، الأمر كالتالي؛ لنفترض أن فريقك قد ظفر برمية تماس في آخر خمس دقائق وهو يحتاج إلى هدف، فمن المفترض أن تكون رمية التماس تلك ميزة يجب استغلالها، لكن كيف يستغل الفريق ذلك عندما تُظهر الإحصائيات أن الفريق المستحوذ يخسر الكرة في 8 من أصل 10 رميات تماس، بما أنه يلعب منقوصا من منفذ الرمية؟ ربما هذا ما ألهمه بفكرة “ركلات” التماس. نعلم أنك تتساءل الآن؛ كيف يتعلق كل ذلك بمحاولة فينغر لفرض فلسفته على قوانين اللعبة؟ (3)
عندما كان لاعبا، لم تكن هيئة آرسين الجسدية مغايرة كثيرا لما نراه في الوقت الحالي، كان نحيفا، ورشيقا نوعا ما، لكن لم يكن ذا جودة فذة بالكرة، فلم يكن يستطيع التعامل مع نسق المباراة جيدا، ولم يستخدم قدمه اليسرى كثيرا في لعبه، على الرغم من وعيه التكتيكي المميز الذي كان يُمكِّنه من قراءة مجريات اللعب جيدا. (19)
في رأي فينغر، كان ذلك أحد الأشياء التي جعلته مدربا جيدا، أو كان حافزا لذلك على الأقل. وربما هذا ما جعله يهتم ببعض الجوانب التدريبية غير الاعتيادية منذ فترته الأولى في أواخر السبعينيات مدربا ولاعبا لفريق الرديف والفئات السنية الصغيرة في ستراسبورغ؛ مثل اهتمامه بالتمرين متساوي القياس (Isometrics exercise)، وهو نظام لتقوية العضلات وضبط الجسم دون تغيير كتلة اللاعب العضلية بالضرورة، بجانب اهتمامه بالبلايوميتريكس (Plyometrics) أيضا، وهي صورة من صور رياضات القفز التي تعمل على تحسين القوة والحركية لدى اللاعب. إذن نستطيع القول إن ماضي فينغر لاعبا كان حافزا له للعمل على القدرات الجسمانية والبدنية للاعبين، بالتالي، زيادة حِدّة المباريات نوعا ما. (19)
“الفكرة هي زيادة القوة المتفجرة (Explosive Power) للعضلات. يجعل ذلك اللاعبين أقوى وأكثر مرونة. تتضمن التمارين جميع أنواع القفز؛ بساق واحدة أو بكلتيهما، والوثب الطويل والعالي. أحاول مقاربة من المباراة قدر الإمكان من حيث الحدة، وأحاول العمل مع اللاعبين وفقا ظروف المباراة”.
(آرسين فينغر متحدثا عن التمارين البدنية للاعبين)
لم يكن فينغر ثوريا بين عشية وضحاها، بل منذ الصغر، خاصة في طريقة تفكيره؛ فكان يستمع إلى آراء المشجعين في الحانة التي امتلكها والداه، ولم يكن ينساق إلى آرائهم فحسب، بل كان يُعمل عقله، ويحاول تصور الأمر تكتيكيا قدر الإمكان. كان ثوريا في شبابه حينما قرر أن يهتم بالجانب البدني والعضلي للاعبين، وامتدت ثورته إلى عالم التدريب، التي أثارت اهتمام غريغ بيرهالتر، مدرب المنتخب الأميركي الحالي، ولاعب كريستال بالاس السابق حينما قال: “لم يجعل فينغر اللعبة أكثر رياضية ولم يغير عادات اللاعبين في إنجلترا فحسب، بل جلب أسلوبا في اللعب حقق تقدما دائما في طريقة لعب اللعبة الإنجليزية. كانت الطريقة التي لعب بها فريق آرسنال مذهلة؛ لعبة السرعة والدقة والحركة. حينما أفكر فيما يثيرني الآن بصفتي مدربا، فيعتمد الكثير منها على حركة وسيولة فريق آرسنال حينها”.
يبدو حديث بيرهالتر عن طريقة لعب فينغر شبيها إلى حد كبير بما قد تؤول إليه اللعبة مستقبلا إذا طُبقت اقتراحاته، أليس كذلك؟ المزيج بين نقاط قوة الكرة الشاملة في التمرير القصير السريع، الذي تميز به فريقه كثيرا على مدار السنوات، وما بين النزعة المباشرة في تلك التمريرات، وتنفيذها في مساحات ضيقة نسبيا للخروج من ضغط الخصم للأمام، وربما عموديا في بعض الأحيان. (19) (20)
لا تقتصر ثورية فينغر على الشكل المقترح لقانون التسلل الجديد فقط، على الرغم من أن ذلك في حد ذاته سيجعل اللعبة أكثر مباشرة؛ فستصبح الفِرَق أكثر ميلا للتمرير الأمامي -أو العمودي حتى- في العديد من الأحيان، وعلى الأغلب، ستلجأ فِرَق أخرى لتأخير خطوطها الدفاعية، مما يؤدي في النهاية إلى سرعة أكبر في الحيازة المنظمة -سرعة التمريرات القصيرة تحديدا- ناهيك بتوجه التحولات الذي ازداد في السنوات الأخيرة. ما يتعلق به الأمر حقا هو رؤية الفرنسي لكرة القدم؛ لعبة السرعة والدقة والحركة كما وصفها بيرهالتر، اللعبة التي يرى فينغر أنه يستطيع بها إخراج مظاهر الجمال في كل إنسان. (21)
المفارقة
هناك وجهان لكل عملة، وكرة القدم ليست استثناء على الإطلاق؛ فمثلما تحمل طابع الجمال، فلها وجهها القبيح، وإلا لم نكن لنرى تلك المحاولات من فينغر لتطوير اللعبة، وربما ما يحفزه للقيام بكل تلك التغييرات أنه يحاول أن يقلل من أوجه القبح التي عانى منها في اللعبة بصفته مدربا، التي لم يستطع التأثير في مجرياتها حينها، وانقض على الفرصة حينما أتته، لكن هل يوجد جدوى من محاولة التحكم في كل شيء؟ لا نعلم حقا.
ما يعلمه ديفيد تشابمان، مؤلف كتاب “المعنى” (Meaningness)، أن الحياة فوضوية، ولا يمكن التحكم بها، استنادا إلى مبدأ الضبابية، ولكن دعنا نسألك سؤالا؛ هل يمكنك إيقاف سيارتك بضغطة زر؟ نعلم أن السيارة لن تتحرك أو تقف إلا بقرار منك، لكن لا يحدث الأمر في غمضة عين، فأنت تبطئ سيارتك تدريجيا قبل إيقافها. تظن أنك تتحكم في عملية كتلك، لكن في الواقع، القصور الذاتي هو المتحكم هنا. (22)
هذا يعني أنك لا تملك زمام الأمور كليا في تصرف روتيني مثل إيقاف سيارتك عن العمل، فماذا عن مختلف الأحداث المحيطة؟ كالعواصف؟ كالبشر؟ كالحياة والموت؟ هل نحن مَن يملك زمام الأمور فعلا؟ يمكن طرح السؤال ذاته على فينغر؛ هل يظن أنه يستطيع التحكم في تبعات التغيير الذي يريد إحداثه؟ لا نعلم ذلك أيضا، فلا يمكن التأكد من عيوب التغيير حتى يحدث بالفعل، كما قد نشهد بداية من الموسم الجديد للبريميرليغ.
ما نعلمه أن للجميع حق المحاولة، حتى إن لم يكن التغيير ينذر بالخير، لكن يكفي الإنسان شرف المحاولة. ربما يعتقد فينغر أنه يملك نظرة محكمة للأمور، وعلى الرغم من أن ذلك يتنافى مع مبدأ الضبابية، فهذا لا يتعارض مع جدوى المحاولة، على الأقل إذا كان يعتقد أن ما يفعله للصالح العام، وإن لم يكن الأمر كذلك، فهناك دوما مجال للتغيير في لعبة ككرة القدم؛ لأن التغيير سنة اللعبة، كما هو سنة الحياة.
______________________________________
المصادر:
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.