خلال الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا أواخر العام الماضي واستعادت فيه ما سبق للقوات الروسية السيطرة عليه في كل من خاركيف وخيرسون شمال النهر، قضيت نحو شهرين على ضفاف نهر دنيبرو وحول سد كاخوفكا؛ كنت فيهما المراسل الصحفي الوحيد الذي استطاع دخول تلك المناطق التي كانت محظورة حتى على الصحفيين “في ذلك الوقت”، وبقيت في المقاطعة إلى أن انتهت تلك المعارك باستعادة القوات الأوكرانية السيطرة على مدينة خيرسون في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
في تلك المعارك لجأت روسيا، وفقا للاتهامات الأوكرانية على الأقل، إلى تكتيك قصف السدود المائية، وكان المثال الأشهر عليها قصف سد مائي على نهر إنهولتس في مدينة كريفي ريه بـ8 صواريخ. لم تشهد كريفي ريه (التي ينتمي إليها الرئيس زيلينسكي) معارك مباشرة بالطبع لكن قصف السد فيها أسفر عن ارتفاع منسوب المياه عدة أمتار في النهر، وهي خطوة أخّرت تقدم الدبابات والمدرعات الأوكرانية في شمال خيرسون في وقت كانت تتحضر فيه القوات الروسية لخسارة المدينة والانتقال إلى الطرف الآخر من نهر دنيبرو.
كانت تلك المعركة المائية خطوة واجهها الغرب بإمداد أوكرانيا بمدرعات الجسور المائية الألمانية من طراز بيبر (Biber Armored Bridgelayer) التي تساعد الدبابات والمدرعات على عبور المسطحات المائية.
التقرير أدناه هو رصد الجزيرة لمعركة الجسور المائية، يظهر الجسور المدمرة بصور “درون” ويشرح استخدام أوكرانيا مدرعات بيبر عقب قصف روسيا لسد كريفي ريه:
مثال آخر أعلنت عنه روسيا صراحة من خلال حاكمها على إقليم القرم سيرغي أكسينوف؛ هو تفجير سد قناة القرم المائية في فبراير/شباط من العام الماضي. كان ذلك ضمن الخطوات الأولى للحرب الروسية على أوكرانيا وهدف إلى إعادة المياه إلى القرم التي عانت مشاكل مائية كبرى بعد قطع أوكرانيا عنها شريان الحياة المتمثل بقناتها المائية، وكانت تلك الخطوة الأوكرانية ردا على إعلان ضم روسيا للقرم عقب ثورة الكرامة الأوكرانية عام 2014 التي أطاحت برئيس أوكرانيا ورجل روسيا القوي فيكتور يانكوفيتش.
ما يلي توضيح لتفجير سد قناة القرم المائية الذي اعترفت روسيا بتدميره:
Event of historical significance!! Crimea’s water blockade is broken. Today, the Russian army blew up a concrete dam in the Northern Crimea canal in the Kherson region, which was built in 2014 by Ukrainian nationalists to cut off water on the peninsula.. pic.twitter.com/ZIMcXRajOI
— Geo_monitor (@colonelhomsi) February 26, 2022
كذلك قصفت أوكرانيا جسورا مائية صغيرة لإعاقة التقدم الروسي في الجنوب في الأشهر الأولى للحرب التي انتهت باحتلال خيرسون ومناطق في محيط ميكولايف وكادت أن تتجاوزها إلى أوديسا.
لكن الوضع يختلف تماما عند الحديث عن سد كاخوفكا، فدمار السد خسارة للطرفين معا لا لطرف واحد، فالكارثة البيئية ذات كلفة عالية جدا على الزراعة والمستوطنات السكنية؛ إذ أغرقت كثيرا من المناطق التي تسيطر عليها أوكرانيا في خيرسون وقراها، فضلا عن خسارة مورد مهم جدا للطاقة الكهربائية في جنوب أوكرانيا يدرّ الملايين على البلاد، والخسارة على الجانب الذي تسيطر عليه روسيا أكثر ضررا؛ إذ إن ذلك الجانب أكثر انخفاضا وتأثرا بالفيضانات، وتبقى الخسارة الأكبر هي خسارة المياه عن جزيرة القرم وهو ما يعيد شبح التصحر الذي واجهته شبه الجزيرة في السنوات الثماني التي سبقت الحرب.
ثمة كارثة أخرى تحدق بالطرفين جراء تضرر السد، هي المخاطر التي تهدد محطة زاباروجيا المائية أكبر محطة نووية في أوروبا والتي تعتمد على حوض سد كاخوفكا في عمليات التبريد. صحيح أن للمحطة بحيرتها الصناعية الخاصة بها وأن الخطر غير داهم حاليا، وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن من المهم أن يعرف أن المحطة تستخدم نحو 500 ألف لتر من الماء في عمليات التبريد كل ساعة! وأن مستوى المياه في خزان المحطة الاصطناعي بدأ بالتناقص بنحو 9 سنتميترات في الساعة بعد دمار السد، وتعمل المضخات المائية حاليا على تأمين مزيد من المياه للبحيرة الصغيرة بالتزامن مع حلول صيف محمل بتقلبات مناخية كثيرة كتلك التي شهدها العام الماضي وأدت إلى جفاف أنهار كبرى في أوروبا، كل ذلك في بلد لم تنس ذاكرة سكانه بعد كارثة تشيرنوبل النووية.
قد يجادل البعض بوجود مصالح لهذا الطرف أو ذاك في دمار السد، كإحداث مشاكل مائية وإنسانية تشغل السلطات الروسية في القرم أو الأوكرانية في خيرسون، أو الحديث عن إعاقة الهجوم الأوكراني المضاد المنتظر جنوبا ومنع تلك القوات من عبور النهر، أو جرف الألغام التي زرعت على أطرافه، إلى غير ذلك من الأسباب.
وتبعا لمشاهدتي للمعارك على أطراف نهر دنيبرو، أرجح أن فكرة الاقتحام عبر النهر ليست فكرة سهلة ولا تفكر بها أوكرانيا أصلا لهجومها المضاد، فالنهر ليس صغيرا كما يتصوره البعض بل يمتد على مئات الأمتار عرضا، وعبوره يجعل القوات العابرة له هدفا سهلا وسط المياه، والقضية ليست عبورا خلسة لمرة واحدة بل هي معركة كبرى تتطلب توفير الإمدادات اللازمة لديمومة المعارك والهجوم المستمر، ولعل ذلك ما حدا بالقوات الروسية أصلا إلى الانسحاب إلى ضفته الجنوبية لصعوبة استمرار الإمدادات عبر النهر إلى شماله، لا سيما مع الدعم الغربي الاستخباراتي في مراقبة حركة الإمداد الروسي الذي أسفر عن خسائر ضخمة في صفوف القوات الروسية خلال معارك استعادة خيرسون. والراجح برأيي أن الهجوم الأوكراني المضاد سيكون شرقا بعيدا عن النهر قادما من زاباروجيا لاستعادة مينائي بحر آزوف الأساسيين ماريوبل وبيرديانسك، ومن ثم قطع طريق الإمداد الروسي بين القرم وإقليم دونباس واستعادة كامل الجنوب الأوكراني لتعود المعركة إلى الشرق فقط كما كانت أصلا قبل بداية الحرب في فبراير/شباط 2022.
من دمّر السد إذن؟ خلال شهري وجودي في خيرسون أثناء معاركها شهدت تعامل كل من القوات الأوكرانية والروسية على حد سواء باستهتار كبير مع السد؛ استخدمته روسيا في نقل الإمدادات العسكرية بين مناطق سيطرتها على ضفتي النهر وردّت أوكرانيا بقصف تلك الإمدادات غير مرة، ثم دمرت روسيا أجزاء من سطحه عقب خسارتها لخيرسون وانسحابها من الضفة الشمالية لنهر دنيبرو لئلا تستخدمه القوات الأوكرانية في العبور إلى ضفته الأخرى، كان واضحا أن كل ما استهدف السد من قصف الجانبين لم يهدف إلى تدميره وإنما إلى إعاقة استخدامه من الطرف الآخر في المعارك العسكرية، لكن ما شهده السد في المعارك أدى إلى ضعضعته ولو جزئيا من دون شك.
وفي الأشهر الأخيرة، وهي أشهر الربيع التي تلت ذوبان الثلوج، أغلقت روسيا جميع بوابات السد، والغاية من ذلك ضمان قوة الدفق في قناة القرم المائية التي تعتمد على ضغط المياه في بحيرة السد، ومن ثم ملء خزانات المياه في شبه جزيرة القرم بما يكفي لمشاريع الزراعة والري، وقد امتلأت فعلا في الوقت الحالي وهي لا تنذر بكارثة زراعية هناك في المستقبل القصير فقط، لكن ذلك الملء اقتضى وصول مستوى منسوب المياه في السد إلى أعلاه؛ فقد أظهرت صورة فضائية التقطت في مطلع شهر مايو/أيار الماضي أن مياه البحيرة تجاوزت السد الذي يبلغ ارتفاعه 30 مترا من أعلاه.
والسؤال المطروح: هل يستطيع سد شهد كل ذلك القصف خلال المعارك الصمود بطاقته القصوى في احتجاز نحو 18 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة تمتد أكثر من ألفي كيلومتر مربع وراءه؟!
ليس هذا جوابا قطعيا دون شك وإنما هو محاولة للنظر في ما حدث عن قرب. كل الاحتمالات تبقى قائمة، لكن المؤكد اليوم أن ما بعد تدمير السد ليس كما قبله، وأن الأضرار لن تقتصر على ما أشرنا إليه فيما تسيطر عليه روسيا وأوكرانيا من الأراضي، فثمة مساحات واسعة هناك كانت تستخدم لزراعة القمح والذرة عطلتها الحرب فيما مضى وتعطلها المياه اليوم لتسهم في زيادة أزمة غذاء وتضخم عالمية قائمة أصلا، قد تعكر هذه الأزمة ميزانية الطبقة الوسطى في الدول الغنية لكن الثمن الأكبر سيكون غلاء في الموارد الأساسية يُدفع من جيوب فقيرة في دول جد فقيرة في أفريقيا وآسيا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.