من النياندرتال إلى البشر.. كيف كان طعام الإنسان قبل مئة ألف سنة؟


عندما نحاول تصور أجداد البشر، فإن الصورة التي تخطر ببالنا غالبا ما تكون لمجموعات من جامعي الثمار والصيادين، يتجمعون في حفلات شواء ضخمة، بعدما اعتمدوا اللحوم طعامهم الأساسي، وهو تصور صحيح في جزء منه. لكن هل خطر ببالك أن الإنسان القديم طها الحبوب على النار وعرف النقع والتخمير وصنع البطاطس المهروسة واليخنة والعصيدة، وهي أكلات نعرفها اليوم جيدا؟ وأعجب من ذلك أن هذا الأمر لم يكن حصريا على بني جلدتنا من الجنس الإنساني، بل فعل النياندرتال الشيء نفسه!

 

حتى السنوات الأخيرة، ساد الاعتقاد بين الباحثين بأن ثورة الانتقال للعصر الحجري الحديث التي حصلت قبل عشرة آلاف سنة، وأُطلق عليها الثورة الزراعية، كانت هي الوقت الذي بدأ فيه الإنسان تناول الحبوب ضمن وجبات المطبخ القديم، وذلك بعدما تعلم الزراعة وبدأ في تدجين النباتات. من هذا المنطلق كانت الزراعة هي الحدث الثوري الذي وضع لبنة الحضارة البشرية الأولى، وتحول البشر بعده إلى الاستقرار في المدن وسكن المستوطنات الزراعية، وكانت منطقة “الهلال الخصيب” التي تشمل فلسطين وشرق الأردن ولبنان وتمتد شرقا للعراق وغربا لنهر النيل من أوائل المجتمعات البشرية التي مارست الزراعة، فزرعوا القمح والشعير في الفترة ما بين 10 آلاف إلى 8 آلاف سنة قبل الميلاد، وبدأوا في تدجين الماشية.

 

قبل ذلك، كان البشر يعيشون في مجموعات قبلية صغيرة من الصيادين وجامعي الثمار، وبالتالي لم يتوقع المؤرخون والعلماء بأن تلك المجموعات الصغيرة كان لها مطبخ خاص أو أنهم عرفوا طحن الحبوب وأكلها، لكن الكشوف الحديثة تثبت أن هذا الاعتقاد لم يكن دقيقا على كل حال.

 

النياندرتال الذي طها النباتات

عاش بنو النياندرتال قبل نحو 400 ألف إلى 30 ألف سنة مضت، وانتشروا في شريط ضخم ممتد بين جنوب أوروبا حتى وسط آسيا.
عاش بنو النياندرتال قبل نحو 400 ألف إلى 30 ألف سنة مضت، وانتشروا في شريط ضخم ممتد بين جنوب أوروبا حتى وسط آسيا. (شترستوك)

تكشف الأبحاث التي أُجريت على نظائر الكربون في مينا أسنان أشباه البشر أنك إذا كنت من الأشخاص الذين يستمتعون بأكل البطاطس المهروسة مع الذرة، فأنت على الأغلب تمارس عادة غذائية عمرها 3.5 ملايين سنة، وهي الفترة التي تحول عندها الإنسان القديم إلى أكل اللحوم، بعد أن كان من آكلي النباتات، إذ يعود أقدم دليل على استخدام بني الجنس الإنساني لأدوات الصيد إلى ملايين السنين. رغم ذلك تظل المعلومات التي وصلتنا عن تلك الفترة الموغلة في القدم قليلة، وبالتالي ما زلنا نجهل الطريقة التي طها بها هؤلاء طعامهم.

 

الجنس الإنساني (Homo) هو اصطلاح يشمل “الإنسان العاقل” (Homo sapiens)، الذي يُمثِّله كل البشر على سطح الأرض حاليا، إلى جانب عدة أنواع متقاربة أخرى كانت كثيرة على ما يبدو، انقرضت لأسباب يحاول العلماء تبيُّنها إلى الآن، ويُقدَّر عمر هذا الجنس بأكثر من 2.3 مليون سنة مع بداية ظهور ما نُسميه بـ”الإنسان الماهر”، الذي تميَّز بعدة صفات، فمثلا كان حجم جمجمته كبيرا بما يسمح بحيز كبير للمخ، كذلك فإن هذا الجنس قد تمكَّن من المشي على اثنين فقط من أطرافه مع يدين وأرجل أطول من المعتاد، كما أنه تمكَّن من بناء أدوات معقدة.

 

النياندرتال هو أحد تلك الأنواع، وقد عاش بنو النياندرتال قبل نحو 400 ألف إلى 30 ألف سنة مضت، وانتشروا في شريط ضخم ممتد بين جنوب أوروبا حتى وسط آسيا. عرف “إنسان النياندرتال” طهي النباتات وأكل الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات، فكان يطهو الحبوب والدرنات؛ مثلما كشف باحثو علم الوراثة في دراسة حديثة نُشرت عام 2021، بعد تحليل عينات الحمض النووي لأسنان أفراد من “النياندرتال”، وكان عمر أقدم فرد منهم نحو 100 ألف عام. تناولت الدراسة بحث البكتيريا الموجودة في لويحات الأسنان، التي كشفت عن بكتيريا خاصة بتفكيك النشا وتحويله إلى سكريات، مما يعني أن النياندرتال اعتمدوا على الكربوهيدرات النباتية في نظامهم الغذائي.

 

أما عن الكيفية التي طها بها هؤلاء طعامهم، فتظهر الدلائل أنهم استخدموا طرقا شتى؛ منها الحرارة حالما استطاعوا إشعال النيران، وأحيانا التخمير، وكانت الطريقة الثالثة عن طريق (النقع) في الماء، الأمر الذي جعل الباحثين يفكرون في ضرورة اعتبار بقايا الطعام قطعا أثرية، وذلك لأن الطهي نشاط يتطلب حرفة ومهارة، وباستكشافه يمكن أن يكتب جزءا مفقودا من التاريخ.

 

بنو البشر

أحب الإنسان القديم الكربوهيدرات واعتمد عليها لتمنحه السعرات الحرارية اللازمة للمعيشة خاصة وقتما كانت الطرائد نادرة.
أحب الإنسان القديم الكربوهيدرات واعتمد عليها لتمنحه السعرات الحرارية اللازمة للمعيشة خاصة وقتما كانت الطرائد نادرة. (شترستوك)

الآن لننتقل إلى مطبخ أكثر حداثة، عمره 300 ألف عام فقط، ستجد على رأس قائمة الطعام للبشر الأوائل الكثير من “لحم الغزلان”، ويبدو أن الأجداد كانوا يفضلونه بشكل خاص، وإلى جانبه لحوم الحيوانات البرية مثل الجاموس والأرانب والحمار الوحشي، كما حضر على موائدهم أيضا بيض النعام. هذا ما كشفت عنه الاكتشافات الأحفورية بجبل إرهود في المغرب العربي، التي نُشرت في دراسة عام 2017، وتبين بوضوح من أين عثر القدماء على البروتين الخاص بهم. لكن هل يعني ذلك أن البشر توقفوا عن أكل النباتات؟

 

الحقيقة المفاجئة هي أن الإنسان القديم لم يتخلَّ يوما عن أكل النباتات، لإثبات ذلك قضت عالمة النباتات القديمة بجامعة كامبريدج سينثيا لاربي سنوات من حياتها تُعِدُّ دراستها التي نُشرت عام 2019، وتناولت بالبحث مواقد الطهي في عدة مواقع في جنوب أفريقيا يعود تاريخها إلى 120 ألف عام، ومن بقايا الوجبات المتفحمة أخذت لاربي عينات مما تناوله أجدادنا، تبين بعد الفحص المجهري أنها أنسجة خلايا نباتات نشوية.

 

إذا كانت الكربوهيدرات النباتية تُشكِّل اليوم نحو 55-80% من النظام الغذائي للإنسان الحديث، فذلك يشير إلى نظام غذائي متزايد النشا لدى أجدادنا. هذا ما أكده علماء الوراثة بعدما بحثوا نسخ الجين الذي يُنتج إنزيمات هضم النشا لدى الإنسان المعاصر، ويُعَدُّ وجوده نتيجة طبيعية لتناول القدماء النشا بكثرة. هذا ما لاحظته الباحثة لاربي أيضا بعد اكتشافها أن البشر الأوائل في تلك المنطقة من جنوب أفريقيا طهوا أطباقا غنية بالكربوهيدرات والبروتين، وهي المواد التي شكَّلت أساس نظامهم الغذائي، مما يشير إلى أن البشر الأوائل حتى بعدما تعلموا الصيد وتحوَّلوا إلى آكلي لحوم لم يتوقفوا يوما عن طهي النباتات وأكلها.

 

يدحض ما سبق الفكرة السائدة لدى نظام “باليو” العالمي، وهو نظام غذائي معروف في الولايات المتحدة وبلدان أخرى، ينادي مؤيدوه بضرورة العودة إلى طعام الصيادين في عصور ما قبل الحضارة، إذ اعتقدوا أن مطبخ القدماء اعتمد بشكل أساسي على اللحوم والأسماك، أما تناول الحبوب والبطاطس وغيرها من الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات فقد اعتبروها السبب الرئيسي وراء “أمراض الحضارة” مثل القلب وارتفاع ضغط الدم والسكري والسرطان، وبالتالي حثوا على إخراجها من نظامنا الغذائي.

 

لكن الأبحاث الحديثة كما أوضحنا تؤكد عكس ذلك، إذ أحب الإنسان القديم الكربوهيدرات واعتمد عليها لتمنحه السعرات الحرارية اللازمة للمعيشة، خاصة وقتما كانت الطرائد نادرة أو عندما واجه صعوبة في الصيد.

 

ولائم غوبكلي تبة

اكتشف الباحثون مؤخرا أن "عصيدة الشوفان" كانت على قائمة طعام البشر قبل أكثر من 32 ألف عاما
اكتشف الباحثون مؤخرا أن “عصيدة الشوفان” كانت على قائمة طعام البشر قبل أكثر من 32 ألف عاما. (شترستوك)

بشكل عام، من الصعب رصد الوجبات التي تناولها البشر في العصور القديمة، لكن رصد اللحوم في المطبخ القديم أسهل بكثير من رصد الحبوب أو غيرها من النباتات، وذلك لأن الطبيعة الهشة للبقايا النباتية تجعل من الصعب تحجرها وبالتالي رصدها، بخلاف عظام الحيوانات المذبوحة التي تتحجر بسهولة أكبر.

 

لكنَّ الباحثين اتجهوا في الآونة الأخيرة لفحص الأطعمة المحترقة والمتفحمة، التي كانت فيما قبل تصنف مواد قبيحة عديمة الفائدة، فكان الباحثون يزيلون قطع الفخار المحطم المغطاة ببقايا الطعام ويتخلصون منها، لكن بتحليلها تبين أنها ثروة غير مستغلة.

 

أول مَن بدأت تلك الرحلة كانت عالمة النباتات القديمة بجامعة أرسطو اليونانية سولتانا فالاموتي، وذلك بالتنقيب داخل بقايا الطعام المحترق في مطابخ أوائل البشر، وشرعت حينها في جمع الأدلة التي جاءت في شكل يخنة أو عصيدة تُركت لفترة طويلة على النار، أو قطعة خبز سقطت في موقد أحد الأفران، حتى إنها حوَّلت مختبرها إلى مطبخ تجريبي يحاكي حوادث الطهي القديمة. تناولت فالاموتي في دراستها مطبخ العصر البرونزي، وهو مطبخ حديث نسبيا، الأمر الذي يجعلنا نتساءل ما الذي سنكتشفه إذا عدنا بالزمن أكثر إلى الوراء وتناولنا “مطبخ ما قبل نشأة الحضارة”؟

 

إذا نظرنا مثلا إلى تاريخ الخبز، فسنجد أغلب الدراسات تربطه ببداية العصر الحجري الحديث، بعدما سكن الإنسان المدن، وتعلم أصول الزراعة وأحسن تدجين النباتات، لكن سيأتي اكتشاف جديد مذهل في دراسة نُشرت عام 2018 يبين أن بداية الخبز كانت قبل ذلك بكثير. ففي موقع أثري شمال شرق الأردن، عُثر على أقدم قطعة خبز في التاريخ، وذلك داخل مواقد صيادين وجامعي ثمار، وبالكشف عليها وجدوا أن تاريخها يعود إلى قبل 14400 سنة، أي قبل تدجين النباتات بنحو 5 آلاف سنة، وقد استخدم الطهاة لصنعها نوعا من سنابل “القمح البري”.

 

ومن شمال شرق الأردن ننتقل إلى جنوب إيطاليا، حيث اكتشف الباحثون مؤخرا أن “عصيدة الشوفان” كانت على قائمة طعام البشر قبل أكثر من 32 ألف عام، هذا ما أشارت إليه مارتا ماريوتي ليبي من جامعة فلورنسا الإيطالية بعد اكتشافها آثارا نشوية على أداة رحى تعود للعصر الحجري القديم في موقع بجنوب إيطاليا. وبحسب الباحثة، يبدو أن القدماء قاموا بتسخين الحبوب قبل طحنها، بهدف تجفيفها في المناخ الأكثر برودة. كما لاحظت ماريوتي ليبي أن هذا من شأنه أيضا أن يجعل الحبوب أسهل في الطحن وتدوم لفترة أطول، وهو أمر مهم للبدو الرحل من العصر الحجري القديم، وقد استخدموا هذا الطحين في عمل الخبز المسطح وعصيدة الشوفان التي يبدو أنها كانت أحد الأطباق الرئيسية وقتها.

 

ننتقل بعدها إلى موقع “غوبكلي تبة” (Göbekli Tepe) في تركيا، الذي يُصنَّف أقدم بناء أثري في العالم، إذ يعود تاريخ بناء غوبكلي إلى أكثر من 11600 سنة قبل الميلاد، ولأنه يسبق مرحلة ثورة العصر الحجري الحديث، التي بدأ معها البشر في تعلم الزراعة، ظن الباحثون في البدء أن تلك الهياكل الحجرية الضخمة هي لمجموعة قبلية قديمة من الصيادين، كانوا يجتمعون فيها لحفلات الشواء الكبرى، وهو الرأي الذي تغير على مدار السنوات الأربع الفائتة، والفضل يعود للباحثة لورا ديتريتش وفريقها بالمعهد الألماني للآثار في برلين.

 

تاريخ جديد تماما

Gobeklitepe archaeological site Sanliurfa/Turkey
موقع “غوبكلي تبه” الأثري.  (شترستوك)

نشرت لورا عام 2019 دراسة عن مطبخ البشر الأوائل الذين سكنوا غوبكلي تبة، بعدما اكتشفت أنهم عرفوا طحن الحبوب ومعالجتها، وأن نظامهم الغذائي كان مليئا بالعصيدة واليخنة المُعدة من الحبوب، الأمر الذي يعني أن الإنسان القديم اعتمد على الحبوب للغذاء في وقت يسبق بكثير ما اعتقده العلماء، بل وقبل ظهور أي أدلة على تدجين تلك النباتات.

 

عندما وقفت لورا ديتريتش وفريقها على هذه الأرض لأول مرة، أطلقوا على المكان اسم “حديقة الأحجار”، إشارة إلى حقل صغير إلى جانب موقع غوبكلي تبة، ألقى فيه الباحثون كل ما عثروا عليه من أحجار البازلت في الموقع، ومع استمرار أعمال الحفر والتنقيب، زادت أعداد الأحجار بصورة كبيرة، حتى وصلت إلى 10 آلاف حجر، تبين فيما بعد أنها أحجار رحى.

 

على مدار عقدين من الزمن، عثر الباحثون على الرحى، وما يقرب من 650 من الأوعية والأطباق المنحوتة من الأحجار، بعضها كان يتسع لملء 200 لتر من السوائل، الأمر الذي استغربته ديتريتش، وذلك لأنه لم يوجد من قبل هذا الكم من الرحى في أي موقع آخر بالشرق الأدنى القديم حتى أواخر العصر الحجري الحديث. ما عرفه الباحثون فيما بعد أن سكان المنطقة كانوا يستخدمون الرحى لطحن الحبوب، واستخدموا الطحين في عمل العصيدة واليخنة، كما أنهم عرفوا التخمير وصنعوا الجعة التي يبدو أنهم شربوها في نطاقات أوسع من المناسبات، فكانت قائمة طعامهم بها العديد من الوجبات المُشبعة والمشروبات الخاصة بالاحتفال.

 

استخدم الباحثون في دراستهم العديد من التقنيات، بداية من فحص الآثار المجهرية على الأدوات التي استخدمها الإنسان القديم في غوبكلي تبة، وصولا إلى تحليل بقايا الحمض النووي في أطباق طعامه. بعض الباحثين مثل لورا ديتريتش بدأوا تجربة إعادة طبخ وجبات قديمة عمرها 12 ألف عام، واستخدموا في ذلك أساليب تعود للحقبة نفسها، فصنعوا رحى من البازلت الأسود وطحنوا حبوب القمح الناعمة والخشنة، ومن الطحين صنعوا أطباقا مثل العصيدة واليخنة بالمكونات الغذائية نفسها التي استخدمها القدماء.

 

وقد أتت تلك الأبحاث بنتائج مذهلة تشير بوضوح إلى أن الإنسان في “غوبكلي تبة” أحب الكربوهيدرات واستخدم الحبوب طعاما أساسيا يوميا، حتى قبل انتشار الزراعة، مما يدحض الفكر السائد بأن البشر الأوائل كانوا يقتاتون على اللحوم بشكل أساسي.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post البيت الأبيض يصدر تهديدًا باستخدام حق النقض (الفيتو) لمشروع قانون حدودي للحزب الجمهوري
Next post أوفا يتقدم لإنبي بهدف نظيف فى مرمى لافيينا بالشوط الأول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading