من الـ”وا” إلى الـ”وي كاتسو”.. لماذا لا يبكي اليابانيون؟


ربما سمعت من قبل عن ظاهرة الـ”كاروشي” المنتشرة في اليابان، وتعني الموت من كثرة الإجهاد والضغط النفسي، تلك الظاهرة تصيب العاملين الذين يعملون ما يزيد عن 80 ساعة أسبوعيا دون قدرة على الشكوى أو ترك العمل، ولا تتحمل أجسادهم هذا العبء مدة طويلة(1).

يعدّ تفريغ الطاقة والغضب والبكاء وسائل سهلة للتحرر نسبيا من تلك الضغوطات، حيث أشارت بعض الدراسات التي قام بها الطبيب “ويليام فراي”، عالم الكيمياء الحيوية بجامعة مينيسوتا في مينيابوليس، والذي يطلق عليه “خبير الدموع”؛ أن البكاء يقلل من الهرمونات التي تُفرَز في الجسم نتيجة التوتر ويكون لها تأثيرات سلبية على القلب والدورة الدموية(2). ولكن اليابانيين كما يبدو لا يبكون، بل إن كبت المشاعر يعد ثقافة متجذرة في وعي الشعب الياباني ووجدانه.

لماذا لا تبكي اليابان؟

عندما سافر أستاذ علم السلوك الياباني “ماساكي يوكي” إلى الولايات المتحدة الأميركية، اندهش -على حد تعبيره- من تعبيرات الوجوه التي يكتبها طلابه الأميركيون في الرسائل الإلكترونية بجوار كلامهم، حيث ينهون كلامهم غالبا بوجه مبتسم أو حزين أو ضاحك، بحسب مشاعرهم في الحوار.

بخلاف ما تظهره أفلام وقصص الرسوم المتحركة اليابانية من فائض في التعبير عن المشاعر والبكاء أحيانا، فإن اليابانيين في حقيقة الأمر لا يميلون للتعبير عن مشاعرهم في الأماكن العامة من الأساس. (شترستوك)

تلك التعبيرات الصريحة عن المشاعر من خلال ملامح الوجه ليست منتشرة في اليابان، وهو الأمر الذي دفع ماساكي لمحاولة فهم الفرق بين قدرة أبناء شعب اليابان على التعبير عن مشاعرهم من خلال ملامحهم، وبين القدرة نفسها في بقية الثقافات خاصة الأميركية والأوروبية.

في دراسة نشرت عام 2007 بمجلة “جورنال أوف إكسبريمنتال سيكولوجي” تحت عنوان: “هل نوافذ الروح هي نفسها في الشرق والغرب؟ الاختلافات الثقافية في استخدام العينين والفم بوصفهما مؤشرات للتعرف على المشاعر في اليابان والولايات المتحدة”، حاول ماساكي وفريقه البحثي فهم هذا الفرق، حين أدرك أن الشعب الأميركي أكثر انفتاحا تجاه إظهار المشاعر على تعبيرات الوجه، بعكس الشعب الياباني الذي لا يُظهر الكثير من المشاعر أمام الآخرين(3).

وجد الباحثون أيضا في هذه الدراسة أن الشعب الياباني يحدد مشاعر الآخرين وفقا لأعينهم، على عكس الأميركيين الذين يميلون إلى تحديد مشاعر من يتعاملون معه من خلال تعبيرات فمه، وربما يظهر هذا في الاختلاف بين تعبيرات الوجه الإلكترونية التي انطلقت من الثقافة الأميركية والتي تركز على تغير شكل الفم فقط، وبين الرسوم المتحركة اليابانية التي تجسد العينين واسعتين ومليئتين بالمشاعر.

لكن الملاحظ والجدير بالذكر أنه، بخلاف ما تظهره أفلام وقصص الرسوم المتحركة اليابانية من فائض في التعبير عن المشاعر والبكاء أحيانا، فإن اليابانيين في حقيقة الأمر لا يميلون للتعبير عن مشاعرهم في الأماكن العامة من الأساس(3).

ثقافة الـ”wa”

يتوقع المجتمع الياباني من الناس إخفاء مشاعرهم وآرائهم الحقيقية في العديد من الظروف من أجل الحفاظ على الانسجام، بداية من تعبيرات الوجه وحتى البكاء. (شترستوك)

“الرجل لا يبكي”، كلمة قد تكون سمعتها في بعض المجتمعات العربية، عندما يحاول الآباء تربية أبنائهم الذكور على التماسك والشدة، ولكن في اليابان الأمر مختلف، فالبكاء وإظهار المشاعر للجميع حتى النساء يعد علامة على الضعف، والأهم أنه إذا بكى أحد في مكان عام أو بين مجموعة من زملائه -من وجهة نظر الثقافة اليابانية- فهو يُشعرهم بعدم الراحة ويعكر صفو التناغم في المكان.

هذه الثقافة يمررها الشعب الياباني من جيل إلى آخر، حتى إن الأطفال في الأماكن العامة من الصعب أن يعبروا عن مشاعرهم، ولا يبكون أمام الآخرين مثلما يحدث في باقي الثقافات، والسبب وراء ذلك هو ثقافة قديمة تدعى ثقافة الـ”وا (Wa)”، التي تعني “الانسجام”.

ترسخت ثقافة الـ”وا” في اليابان منذ السنوات الأولى من تكوين تلك الحضارة، والهدف منها هو التناغم والانسجام بين أفراد المجتمع في أي مجلس، وعدم اهتمام الفرد بنفسه فقط، بل الاهتمام بالمجتمع بأكمله، وعدم تفضيل ذاته على الجماعة، ولذلك إذا كنت حزينا في مكان به مجموعة من الأفراد يمضون يوما عاديا، فلا تبكِ أمامهم حتى لا تَخِلّ بهذا الانسجام والتناغم، وهو ما جعل الشعب الياباني يرى في البكاء أمرا يعكر صفو المجتمع ويتسبب في توتر الآخرين.

بسبب هذه الثقافة، يتوقع المجتمع الياباني من الناس إخفاء مشاعرهم وآرائهم الحقيقية في العديد من الظروف من أجل الحفاظ على الانسجام، بداية من تعبيرات الوجه وحتى البكاء(4). ولكن بعد أن أدرك العالم أهمية البكاء، وما يجلبه للنفس من راحة وشعور بالتحرر، وانتشار الدراسات النفسية التي تؤكد أهمية إظهار المشاعر والتعبير عنها، جاء دور اليابان لتتعلم البكاء من خلال ثقافة جديدة ظهرت في اليابان في السنوات العشر الأخيرة، تُدعى “rui-katsu” أو “السعي وراء الدموع”(5).

من يمسح دموع نساء اليابان؟

في أوقات الحزن تريد المرأة عادةً مَن يمسح دموعها، ولكن في مجتمع اليابان لم يكن هذا خيارا متاحا لجميع النساء اللاتي تربين على أنهن لا يجب عليهن تعكير انسجام الأسرة والمجتمع. (شترستوك)

“rui-katsu” أو “السعي وراء الدموع” هي ثقافة ظهرت حديثا في اليابان، وعادة ما تستخدم اليابان كلمة “katsu” التي تعني “السعي” بتركيبها مع كلمات أخرى تعبيرا عن السعي وراء العمل أو الحب أو أي هدف آخر، ثم ظهرت كلمة “rui-katsu” لتشكل ما أُطلق عليه وقتها “موضة جديدة في اليابان”، حيث بدأت مجموعات تمارس هذا النشاط معا من أجل تخفيف التوتر والشعور بالاسترخاء.

ظهر هذا المصطلح للمرة الأولى على يد رجل الأعمال الياباني “هيروكي تيراي”، الذي كانت وظيفته في ذاك الوقت هو تنظيم وتخطيط إجراءات الطلاق للأزواج الذين قرروا الافتراق عن بعضهم بعضا، وكان هيروكي يهدف من وراء ذلك للوصول إلى ما أسماه “الطلاق السعيد”، بوصفه وسيلة لتأهيل الزوجين نفسيا لبدء حياة جديدة سعيدة بعد الانفصال.

بعد أن بدأ هيروكي هذا النشاط في عام 2009، اكتشف أن ترتيبات الطلاق والحفلات التي كان يقيمها للأزواج للتعبير عن مشاعرهم المكبوتة تسببت في تراجع مجموعات كبيرة منهم عن قرار الطلاق، مؤكدين أنهم أصبحوا أكثر سعادة بعد التعبير عن مشاعرهم(6). ولذلك، في عام 2013، بدأ رجل الأعمال هيروكي تيراي نشاطا تجاريا جديدا مخصصا للنساء فقط لتدريبهن على إظهار المشاعر.

في أوقات الحزن تريد المرأة عادةً مَن يمسح دموعها، ويتحمل لحظات البكاء معها ويحتويها، ولكن في مجتمع اليابان لم يكن هذا خيارا متاحا لجميع النساء اللاتي تربين على أنهن لا يجب عليهن تعكير انسجام الأسرة والمجتمع. ومن هنا قرر هيروكي إنشاء مكان يُمكّن النساء من البكاء والتعبير عن مشاعرهن، بمقابل مادي. ولكن مع الوقت، وفي السنوات القليلة الأخيرة، لم يعد الأمر مقتصرا على النساء فقط، بل بدأ بعض الرجال على استحياء بالانضمام لتلك المجموعات العلاجية بهدف تخفيف وطأة التوتر على نفوسهم(7).

يهدف هيروكي -وفقا لتصريحاته- إلى خلق مفهوم جديد مقابل لمفهوم الـ”Gross National Happiness” أو زيادة السعادة الوطنية، وهو مفهوم “Gross National Tear” أو تشجيع الدموع الوطنية وتعزيزها، موضحا أنه من وجهة نظره فإن اليابان ككل ستكون دولة أفضل بكثير إذا بكى شعبها، وقتها سيحيا الشعب الياباني بضغوط نفسية وتوتر أقل، وبطاقة أكبر كذلك(8).

هيدفومي يوشايد.. أول مُعلم للبكاء في اليابان

بعد سنوات من كبت المشاعر وحبس الدموع، لم يكن من السهل على الشعب الياباني البكاء والتعبير عن مشاعره بوضوح، وهو ما لاحظه “هيدفومي يوشايد”، أستاذ التعليم الثانوي السابق في اليابان، والذي يطلق على نفسه اسم “ناميدا سنسي” أو “معلم الدموع”. لذلك، ومنذ عام 2015، يتجول هيدفومي في أنحاء اليابان بالمدارس والشركات ويُلقي محاضرات حول أهمية البكاء، كما يساعد الحضور في تلك المحاضرات على البكاء من خلال الأغاني الحزينة، أو القراءة من الكتب التي تحوي القصص المؤثرة أو حتى عرض فيلم حزين لتحفيز الدموع في عيون الحاضرين(9).

كان عمل هيدفومي في مدرسته يشبه تخصص الأخصائي الاجتماعي في مدارسنا، يحكي عن تلميذ له كان يأتي إلى استشارته في أمور شخصية بشكل منتظم، ولكنه توقف عن زيارته بعد الجلسة الأخيرة بينهما حيث بكى فيها التلميذ وانفجرت مشاعره أمام أستاذه، الأمر الذي جعله لا يستطيع مواجهته. وقد تأثر هيدفومي بهذا الموقف تأثرا شديدا، وهو ما دفعه إلى أن يجوب أنحاء اليابان ليُعلّم كلّا من الرجال والنساء أن يبكوا.

وبمساعدة “هيديو أريتا”، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة توهو، زار هيدفومي مئات الأماكن لإلقاء المحاضرات والأنشطة الأخرى في السنوات القليلة الماضية لخلق الوعي حول فوائد البكاء، ومعظم تلك المحاضرات والجلسات تكون مجانية(10).

يقول هيدفومي: “تقول الكثير من الدراسات إن البكاء يقوي جهاز المناعة، وقد جربت هذا بنفسي، فقد كنت أُصاب بنزلات البرد بشكل متكرر وسريع، ولكن بعد عملي الجديد في تعليم البكاء وذرف الدموع مع من أعلمهم قلما تصيبني نزلات البرد”(11).

من المؤكد أن الرغبة في البكاء راسخة في وجدان اليابانيين مثل بقية البشر، لكن ثقافة الإنجاز التي صبغت حياتهم هي ما جعلت الدموع تتوارى وراء وجوه لا تحمل أي تعبير، وأكبر دليل على ذلك هو الحدث السنوي الذي يقام في طوكيو ويُطلَق عليه “crying sumo festival” أو مهرجان البكاء للأطفال، وفيه يتنافس الأطفال الرضع على من سيبكي أولا ومن يبكي أكثر، وذلك من خلال ظهور رجال يتصارعون ويرتدون أقنعة مخيفة لإثارة الرعب في نفوس الأطفال، والطفل الذي يبكي أولا يكون هو الفائز. نشأ هذا الطقس بسبب قناعة قديمة لدى الشعب الياباني بأن البكاء يمكن أن يطرد الأرواح الشريرة، ولكنه الآن يُقام بغرض اتباع التقاليد التي حافظت على إقامة الحدث منذ سنوات طويلة(12).

_______________________________________

المصادر

  1. The world must learn from “karoshi,” Japan’s overwork epidemic — before it’s too late
  2. Crying: The Mystery of Tears
  3. Are the windows to the soul the same in the East and West? Cultural differences in using the eyes and mouth as cues to recognize emotions in Japan and the United States
  4. All About Wa – The Significance of the Kanji 和 in Japanese Language & Culture
  5. Hiding one’s emotions and feelings (Honne*) keep the harmony safe ?
  6. Rui-katsu: Group crying for stress relief
  7. Why Are Japanese Women Paying to Cry with a ‘Handsome’ Man? | Short Film Showcase
  8. See Why Japanese Women Are Paying to Cry with a ‘Handsome’ Man
  9. Why are students in Japan being taught to cry
  10. Tears Teacher
  11. Crying It Out in Japan
  12. Japan babies face off in ‘crying sumo’ festival returning after the pandemic

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post إيران تعدم 3 رجال بتهمة العنف خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة
Next post أفضل المأجورون للياقة البدنية من الأفلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading