ممالك الضواحي.. لماذا تقتل الشرطة الفرنسية أبناء المهاجرين؟


كان توتر الأجواء باديا في ذلك الصباح المشمس على غير العادة، خرجتُ من المنزل لبدء يومي فاستوقفتني إحدى موظفات طاقم نظافة العمارة لتسألني إن كنت قد سمعت أصوات التفجيرات التي حدثت في الحي المجاور يوم أمس، بعدما أضرم بعض المحتجين النيران في بعض السيارات وأجهزة إطفاء الحرائق وبعض مرافق وسط المدينة احتجاجا على مقتل “نائل” الشاب الفرنسي من أصول جزائرية على يد الشرطة، حدث ذلك رغم أني أقطن على بُعد مئات الكيلومترات من مركز الأحداث في العاصمة باريس.

سيطر الخبر على الأجواء في فرنسا كلها، وكما كان متوقعا، حضرت الواقعة أيضا على منبر الجمعة في المسجد القريب، حيث اختار الخطيب الحديث باللغة الفرنسية فقط على غير العادة حيث يستعمل العربية أولا ثم الفرنسية للترجمة. لم يكن سبب اختيار الفرنسية سرا، فقد كانت رسائل الخطبة موجهة للسلطات الفرنسية، تأكيدا أن المسجد لا يدعم “الفوضى” وعمليات النهب والتخريب التي عمّت أنحاء البلاد، وقد أكد الخطيب هذا التخمين بعد ذلك إثر قوله إنه تلقى اتصالا من ولاية الأمن لحث الناس على الهدوء.

كانت الأحداث في فرنسا قد اشتعلت قبل أيام بشكل يشبه إلى حدٍّ كبير الأفلام السينمائية ويستحضر روح الثورات الشعبية الدامية إثر واقعة مقتل الشاب ذي الأصول العربية في ضاحية نانتير غرب العاصمة باريس الثلاثاء الماضي. وتحت شعار “لا قواعد، ولا قوانين”، اشتعلت الاحتجاجات في مدن فرنسا وأفرغ المحتجون المراكز التجارية من محتوياتها، واستهدفوا مراكز الشرطة المختلفة والبلديات وأشعلوا النار في كل ما تطوله أيديهم، أحرقت نار الغضب كل شيء مُجبِرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إلغاء بعض أنشطته الخارجية والعودة على وجه السرعة إلى الإيليزيه لمتابعة تطورات الأزمة.

لم يكن السبب في اشتعال الأوضاع هي جريمة القتل نفسها التي لم تكن الأولى من نوعها على كل حال، لكن المختلف هذه المرة أن واقعة قتل الشاب “نائل” صُوِّرت بالصوت والصورة، حيث أظهر الفيديو المُتداول عملية توقيف الشاب البالغ من العمر 17 عاما خلال قيادته لسيارة مستأجرة بدون رخصة سياقة، وبعد توقيف سيارته، أشهر شرطي مسدسه في وجه الشاب السائق فيما يحاول شرطي ثانٍ إخراجه من السيارة. ستتطور الأوضاع بسرعة، وستتحرك السيارة لنسمع في الخلفية صوتا يقول: “أطلق عليه الرصاص”، لتخرج الرصاصة وتتحرك السيارة مصطدمة بالحائط أمتارا بعد ذلك.

رغم المحاولات اليائسة لإسعاف “نائل” فإن الرصاصة أخذت روحه، فأشعلت بذلك الشارع الفرنسي المهمش، طلبا للعدالة بعد سقوط روح أخرى على يد الشرطة. وزادت شرارة النار حِدّة بسبب مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الذي تناقل فيديو الواقعة بغزارة، لتكتب هذه الواقعة صفحة جديدة من صفحات العلاقة المتوترة والعدائية التي تجمع فرنسا بضواحي مدنها المأهولة أساسا بالمهاجرين وأبنائهم، علاقة دامية سنحاول الكشف عن تاريخها وأطرافها، ونحاول الغوص فيها بعمق، بعيدا عن سطوة الأخبار العاجلة.

كهرباء “بونا” ونيران “زياد”

قبل أقل من عقدين بقليل، بدا أن فرنسا تعيش على وقع حرب أهلية حقيقية. بدأ كل شيء يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2005، حين كان زياد البنا (17 عاما) وبونا تراوتي (15 عاما) ومحيي الدين ألتون (17 عاما) في طريقهم للعودة إلى منازلهم بعد مشاركتهم في مباراة في كرة القدم، وفي طريق عودتهم إلى مدينة “كليشي سو بوا” (ضاحية باريسية) مر الشباب على إحدى ورشات البناء، فكان من أحد الشهود أن اتصل بالشرطة لإخطارهم بوجود محاولة سرقة لبعض المعدات، حسب تقرير المفتشية الفرنسية العام. وعلى إثر هذه الشكاية ستتحرك كتيبة من شرطة مكافحة الإجرام لتصل إلى الموقع خلال دقائق، تمكن رجال الأمن من إيقاف محيي الدين ألتون، فيما فرَّ كلٌّ من زياد وبونا متبوعين برجال الأمن، ليختبئا بجانب محول كهربائي خوفا من إلقاء القبض عليهما، والنتيجة متوقعة، وفاة الشابين بسبب صعقة كهربائية لم تكن لتترك لهما فرصة في النجاة.

مباشرة بعد انتشار خبر وفاة المراهقين من أصول أجنبية، انطلقت أعمال الشغب في مدينة “كليشي سو بوا” ومدينة “مونفرماي” المحاذية، وكانت النتيجة بعد يوم واحد من الاحتجاجات إحراق 23 سيارة. لم تكن الليلة سهلة على الحكومة الفرنسية التي أحست ببداية شيء مختلف هذه المرة، خرج بعدها نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية آنذاك، لتكذيب المعلومات التي تقول إن الشرطة كانت تطارد زياد وبونا، لكن لسوء حظ ساركوزي، لم تكن هذه النسخة الرسمية لتصمد أمام ما حكاه المراهق الناجي محيي الدين، وهو ما زاد من اشتعال الإحساس بالظلم لدى المحتجين والفئات التي ينتمون إليها.

(AFP)

لم تتوقف كرة الثلج عند هذا الحد، فقد تضخم الغضب إثر إطلاق الشرطة الفرنسية لقنبلة غاز مسيل للدموع بالقرب من مسجد “بلال” بمدينة “كيلشي سو بوا”، ما تسبب في اختناق رواد المسجد الذين خرجوا مهرولين، لينفجر “وباء العصيان” في كل مقاطعة “سان سان دوني” شديدة الحساسية، التي تُعَدُّ معقلا للجاليات المهاجرة، ويمتد سريعا إلى جميع أنحاء البلاد، حيث عرفت النار طريقها إلى مئات السيارات والعديد من المرافق العامة. تلذذت وسائل الإعلام بالصور القادمة من الشارع فنشرتها كفيلم خيال علمي واقعي يحدث على الأرض، فيما اختلطت مشاعر المحتجين بين الإحساس بالظلم والشعور بالفخر واللا مبالاة.

عاشت فرنسا على وقع احتراب داخلي محلي طيلة 21 يوما، انتهى يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2005 مُخلِّفا 1500 سيارة محروقة و274 مدينة منكوبة بعد فرض حالة الطوارئ وتقوية الشرطة عبر معدات أكثر تطورا، ليخرج جاك شيراك، الرئيس الفرنسي الراحل، بخطاب في 14 نوفمبر/تشرين الثاني لتحية رجال الأمن والدرك على مجهوداتهم العظيمة، معتبرا أن الشباب الغاضب يعيش أزمة “معنى” وأزمة “معالم”، مؤكدا في الوقت نفسه أنهم كلهم وبلا استثناء أبناء للجمهورية.

إعلاميا، ظهرت الفوارق واضحة في طريقة تناول الواقعة، وهي فوارق تعكس الطريقة التي تنظر بها باريس إلى ذلك النوع من الحوادث. فرغم أن الجرائد الفرنسية قامت بشكل تقريبي برسم القصة نفسها لشابين لقيا حتفهما أثناء الاختفاء بجانب مولد كهربائي مع إشارة سريعة إلى كونهما كانا مطاردين من قِبل رجال الشرطة، فإن مضمون الرسالة الإعلامية اختلف من منبر إلى آخر في مسألة تغطية أعمال الشغب التي تلت هذه الواقعة.

ففي دراسة حول التناول الإعلامي لهذه الواقعة، قارنت الباحثة الفرنسية “إيزابيل غارسان مورو” 4 جرائد هي “ليبراسيون” و”أومانيتي” و”لوموند” ثم أخيرا صحيفة “لاكروا”. وبدأت الدراسة بصحيفة “أومانيتي” التي نقلت مصادر سياسية اشتراكية قولها إنه ليس هناك أبدا ما يبرر العنف الذي يقوم به الشباب الغاضب، لكن في الوقت نفسه، هناك مبررات أقل للعنف الذي يتعرضون له من طرف قوات الشرطة. وخلال تغطيتها، ستحاول الجريدة نقل صوت الغاضبين الذين يؤكدون أنهم يعانون من نقص في جودة السكن وفي فرص العمل وفي جودة الحياة نفسها، وأن ما يحدث ما هو إلا رد فعل على كل هذا التهميش.

نيكولا ساركوزي (رويترز)

في السياق نفسه تقريبا ستأتي معالجة صحيفة “ليبراسيون”، التي تابعت الحدث في البداية قبل أن تبدأ في انتقاد تصريحات وزير الداخلية نيكولا ساركوزي التي “سمّمت” الوضع أكثر فأكثر حسب الجريدة. وقالت الصحيفة في إحدى افتتاحياتها إنْ كانت الإشاعات قد غذّت ردة الفعل لدى الشباب الغاضب في الضواحي، فإن تصريحات الحكومة الفرنسية ممثلة في وزيرها الأول ووزير داخليتها تزيد الأمر اشتعالا بسبب التهم غير الحقيقية التي تُكال للمحتجين.

اتفقت الصحيفتان المذكورتان على مسألة التنديد بالعنف الذي تمارسه الشرطة، وعلى الظروف الصعبة والمنغلقة التي يعيش فيها هؤلاء الشباب في أحياء تعزلهم عن الحياة الاجتماعية الحقيقية، التي بدلا من معالجتها اجتماعيا، تُواجَه بطريقة أمنية ترجح كفة المفاسد على أية مصالح حقيقية. ولكن على الجهة المقابلة سنجد تغطية صحيفة “لوموند” الشهيرة أقرب إلى الدفاع عن وجهة النظر الرسمية، فقد قالت الصحيفة في مقالاتها إن أعمال العنف التي وقعت بعد مقتل المراهقين زياد وبونا لا يمكن ربطها مباشرة بالحادث نفسه، وذلك لأنها أخذت بعضا من الوقت قبل الانفجار بشكل كامل، إذ اعتبرت “لوموند” أن ما يحدث هو عبارة عن “عنف حضري” يصعب فهم أبعاده أو تحليله بسرعة.

وفي السياق نفسه ستأتي تغطية صحيفة “لاكروا” التي ستكتفي بفقرتين صغيرتين تتحدثان عن الحادث دون الدخول في أي تفاصيل ولا حتى الإشارة إلى التصريحات الصادرة من الحكومة الفرنسية، مشيرة إلى اندلاع أحداث شغب عقب وفاة مراهقين يقطنان بأحد الأحياء الشعبية، وتكمن أهمية هذه التغطية السلبية في أن المقال الصغير حول الحدث جاء وسط ملف من 4 صفحات يتحدث عن فلسفة العنف الحضري الذي اشتعل في جميع أنحاء فرنسا، وهو ما يُظهِر أن الصحيفة ترى هي الأخرى أن أحداث الشغب والغضب في الشارع لا ترتبط بالضرورة بوفاة زياد وبونا، ولكن بمبدأ العنف الحضري نفسه الذي أصبحت تعاني منه المدن الفرنسية.

أبناء الضواحي

نادرا ما تعير فرنسا الانتباه إذن إلى المظالم التي يعاني منها المهاجرون من “أبناء الجمهورية” أو العنف “المتأصل” في ممارسات الشرطة ضدهم، بقدر ما تسلط الضوء، بسطحية غالبا، على مشكلات العنف في ضواحي المهاجرين. لكن الحقيقة هي أنه إذا كان “العنف الحضري” قد بات ظاهرة تستدعي معالجة خاصة من وجهة نظر باريس، فإن العنف الأمني ضد أبناء المهاجرين هو ظاهرة لا تقل وضوحا، ودليلنا في ذلك الأرقام التي لا تكذب، ففي الفترة ما بين مارس/آذار 2017 وأكتوبر/تشرين الأول 2022 قتلت الشرطة الفرنسية 25 شخصا، مقابل 4 فقط تم الإجهاز عليهم في الفترة ما بين يوليو/تموز 2011 وفبراير/شباط 2017، ويرجع السبب في هذه الزيادة الواضحة إلى قانون عام 2017 الذي يمنح الشرطة الحق في التعامل مع أي شخص يرى رجال الأمن أنه “ربما” يهدد حياتهم أو حياة آخرين، بكل أريحية.

ورغم كثرة الحكايات في هذا الصدد، فإن هناك حكاية بعينها تفرض نفسها كلما فُتح هذا الملف، وهي قادمة من ضواحي باريس كالعادة، لكن بطلها يحمل اسما آخر، هو “أداما تراوري”، وهو شاب من أصول أفريقية فارق الحياة إثر مطاردة بوليسية استمرت لساعتين من الزمان في أحد أيام الصيف الحارة عام 2016، تحديدا في يوم 22 يوليو/تموز من ذلك العام.

يومها، كان “أداما تراوري” يستقل دراجته متجولا في أزقة مدينة “بومون سور واز” شمالي العاصمة الفرنسية باريس، باحثا عن أخيه “باغي تراوري”، لكن أداما لسوء حظه لم يكن هو الوحيد الذي يبحث عن أخيه، بل إن الشرطة أيضا كانت تقتفي أثره، لذلك ما إن لمح أداما رجال الشرطة، فرَّ هاربا فيما لم يسعف الحظ -أو لعله كان أكثر حظا وفقا لمسار الأحداث فيما بعد- الأخ الأصغر الذي تمكن من الفرار، لتبدأ بذلك مطاردة انطلقت في الساعة 5:05 مساء وانتهت في الساعة 7:05 مساء معلنة وفاة أداما تراوري، في يوم عيد ميلاده الرابع والعشرين.

بعد هروب أداما من الشرطة، تمكن أفراد الأمن من إيقافه بعد دقائق، ولكن أثناء اقتياده لمخفر الشرطة، لقي صديقا له بملامح “أوروبية” ساعده على الفرار من الشرطة بعد تدخله جسديا لتحريره من قبضة الأمن، حينها بدأ أداما الركض في الشوارع باحثا عن مكان يختبئ فيه من الأمن، فاختار منزلا قريبا دخله باحثا عن قسط من الراحة ومسحة من الأمان.

“أداما تراوري”، وهو شاب من أصول أفريقية فارق الحياة إثر مطاردة بوليسية استمرت لساعتين من الزمان في أحد أيام الصيف الحارة عام 2016. (AFP)

بيد أنه أثناء دخوله إلى هذا المنزل صادف صاحب السكن الذي أرعبه مشهد اقتحام رجل مقيد لسكنه الخاص، فنادى على رجال الشرطة الذين أسرعوا للقبض على الشاب الفار من قبضتهم، وبعد إعادة تقييده بعد أن كان قد فك أصفاد الشرطة، واقتياده إلى المخفر، فارق أداما تراوري الحياة في ظروف غامضة لم يُكشَف عنها حتى الآن، حيث تؤكد الشرطة الفرنسية مستعينة ببعض التقارير الطبية أن الحالة الصحية لأداما ومعاناته من بعض الأمراض بجانب الإعياء الناتج عن الجري هو الذي أودى بحياته، فيما تقول أسرة الشاب من أصول أفريقية مستعينة بتقارير طبية مختلفة إن صعود رجال الشرطة فوق صدر الضحية لتقييده، ورفض فك أصفاده وتقديم الإسعافات الأولية هو الذي تسبب في هذه النهاية المأساوية، وتزيد شهادات الشهود المتضاربة والمختلفة بمرور السنوات من الملف تعقيدا، فيما ما زالت المظاهرات تنزل إلى يومنا هذا إلى الشارع في كل مناسبة للمطالبة بـ”العدالة لأداما” الذي فارق الحياة قبل سنوات.

رغم الصخب الواسع الذي أثارته، فإن حادثة مقتل أداما لم تكن الأخيرة في مسلسل العنف الشرطي الفرنسي ضد أبناء المهاجرين، الذي ظل يطفو إلى السطح بشكل متكرر، وإن لم ينل نصيبه المُستحق من الضوء. فقبل أسبوعين فقط من وفاة الشاب “نائل” على يد الشرطة، عرفت فرنسا حادثة مماثلة، لم تلقَ كل ذلك الزخم الإعلامي لأنها ببساطة حدثت بعيدا عن عدسات الهواتف ومنصات التواصل. يروي موقع “ميديا بارت” تفاصيل الواقعة التي راح ضحيتها شاب من أصول أفريقية يدعى “الحسين” يوم 14 يونيو/حزيران الماضي خلال ذهابه للعمل نحو الساعة الرابعة والنصف صباحا في مدينة أنغوليم بمنطقة بواتو شارنت جنوب غربي فرنسا.

يبدأ “ميديا بارت” حكايته بالإشارة إلى الرواية الرسمية التي خرجت من مطبخ الشرطة وجاء فيها: “يعيش زملاؤنا على وقع صدمة قوية بسبب تدخلهم الذي انتهى بطريقة دراماتيكية، أحد الزملاء يخضع حاليا للرعاية الطبية بسبب إصابة على مستوى الفخذ. هذا التدخل الذي عرف عنفا استثنائيا جاء بسبب قيام الجانح بصدم شرطي عبر سيارته ومحاولته قتل الزملاء الآخرين”، كانت هذه النسخة الرسمية “القصيرة” من الرواية، أما الرواية الكاملة حسب “ميديا بارت” فتختلف في بعض التفاصيل.

يؤكد الموقع الفرنسي أن الشاب “الحسين” خرج في الساعة الرابعة والنصف صباحا مثل كل يوم، وذلك للتوجه إلى عمله الذي يبعد نحو 20 كيلومترا عن مكان سكنه، ورغم أن التقارير الشرطية تقول إن التدخل جاء بسبب قيادة الشاب لسيارته بطريقة غير مستقيمة، فإن الفحص الطبي نفى تعاطي السائق لأي مخدرات أو كحوليات من شأنها التأثير على سلوكه سائقا، كما كان الحسين يحمل جميع أوراقه الثبوتية ورخصة سياقته ورخصة التأمين، وهو ما يعني أنه لم يكن يملك أي دافع حقيقي للهرب من الشرطة.

بجانب كل هذا، هناك تفصيلتان مهمتان، ذكرهما تقرير “ميديا بارت”، جعلتا النيابة العامة الفرنسية تعيد التفكير في الموضوع والتهم الموجهة، النقطة الأولى هي أن مزاعم الشرطي الذي أطلق النار متحججا بأن السائق كاد يدعسه أثناء محاولة الهرب بسيارته تبدو غريبة، لأن الرصاصة لم تخترق الزجاج الأمامي للسيارة، بل دخلت من جهة السائق مباشرة، أما النقطة الثانية فهي أن الشاب الغيني الأصل الذي ركب البحر مرورا بالمغرب وصولا إلى فرنسا بحثا عن فرصة حياة أفضل كان مثاليا للغاية في سلوكه بشهادة مركز الإيواء الذي حط فيه الرحال، وهو ما يعني أن “الحسين” لم يكن مجرد شاب مجرم جانح، بل كان شابا عاديا، علما أن السير بالسيارة في خط غير مستقيم حسب القوانين المحلية في فرنسا، بل والدولية، لم تكن يوما عقوبته الإعدام رميا بالرصاص حسب ما يقول متابعون.

في ضوء هذه الوقائع المتكررة، والسياسة الأمنية الفرنسية التي تتعامل مع المهاجرين بوصفهم مجرمين أو مشتبها بهم إلى أن يثبت العكس، تزيد عزلة هؤلاء الشباب داخل الأحياء التي بنتها الحكومة الفرنسية ذات يوم لآبائهم من المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد لبنائها بعد حربين عالميتين سوّتاها أرضا، صُمِّمت هذه الأحياء لتكون مؤقتة ينتهي وجودها مع نهاية وجود هؤلاء المهاجرين الذين قدموا لجني بعض المال ثم العودة إلى بلدانهم، لكن لأن الأمور لا تسير أحيانا كما أُريد لها، أضحت هذه الأحياء قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في وجه الجميع، وفي أي وقت. وجدت الأجيال التي أتت بعد ذلك في هذه الضواحي، التي صارت مرتعا للفقر والبطالة، مكانا آمنا منغلقا، يمنعها من سطوة باقي المجتمع الذي لا يقبل اختلافها معه في اللون أو العِرق أو حتى في الدين على ما يبدو.

طوَّر هؤلاء الشباب بسبب الخوف والتخوف من عدم التقبل إحساسا بالفصل الذاتي لأنفسهم عن المجتمع، فحوَّلوا هذه الأحياء إلى “غيتوهات” هي الداء والدواء في الوقت نفسه، فهو الذي يحميهم من الآخر وهو الذي يمنعهم في الوقت نفسه من عيش حياة حقيقية ومتوازنة، يحققون من خلالها أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية، وتزيد كل هذه الأمور صعوبة الظروف الحياتية التي تمنحهم فرصا أقل بكثير من أقرانهم من الذين يحملون أسماء فرنسية ويسيطر البياض على بشرتهم. وبذلك تتحول هذه الضواحي بمرور الوقت إلى سجن مرعب، يحكم البقاء فيه على الشاب من أصول عربية أو أفريقية بالعيش على الهامش، ثم الموت والرحيل إلى غياهب النسيان.

الشرطة.. يمينية وانتحار

(رويترز)

ونظرا إلى أن لكل حكاية طرفين في أدنى الأحوال، فلا يمكننا بحال أن نمر مرور الكرام على الطرف الثاني في هذه الحكاية، وهو الدولة الفرنسية ممثلة في عصاها القانونية الساهرة على رعاية الأمن الفرنسي. يخبرنا “ماتيو ريغوست” الباحث في العلوم الاجتماعية أن أولى مهام الشرطة في الغرب كانت القبض على الأجساد التي كانت تُعَدُّ “غير طبيعية”، مثل السحرة والمثليين والمومسات والمجانين، بعد ذلك استُعملت الشرطة لأغراض سياسية أكثر مثل السيطرة على الجماعات التي تخرج عن أطر الدولة وقمع الثورات الاجتماعية.

لم تكن مؤسسة الشرطة الغربية إذن مجرد جهاز يسهر على حماية أمن البلدان كما هو “المفروض” الآن، بل كانت تُعَدُّ ميليشا استعمارية، تطارد العبيد الفارين من العمل في المزارع وتعمل على مراقبتهم يوميا حتى لا يثوروا ضد أسيادهم. وبعد أن حطَّت الدول الغربية رحالها في مستعمراتها، بدأت العقيدة الأمنية للشرطة تتشكّل بطريقة أوضح، فبدأت تستعمل تقنيات عسكرية تهدف إلى استهداف المدنيين ومطاردتهم واعتقالهم وإكراههم على الاعتراف مع التشويه والإذلال والقتل في بعض الأحيان.

سرعان ما استلهمت الدول الغربية هذه التجارب الشرطية في مستعمراتها لتطبيقها داخل أراضيها، ففي فرنسا مثلا، حيث يدور حديثنا اليوم، عُيِّن مدير الشرطة “موريس بابون”، الذي سهر على ترحيل يهود مدينة بوردو خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، مسؤولا عن المديرية الفرعية الجزائرية بوزارة الداخلية ابتداء من عام 1945، ثم في عام 1958 عُيِّن الشخص نفسه مديرا للشرطة في باريس، وتمكن “بابون” من نقل خبراته التي اكتسبها في الجزائر لبسط نفوذ الشرطة على العاصمة الفرنسية، فقد واجه مظاهرات 17 أكتوبر/تشرين الأول لعام 1961 تماما كما سبق أن قمع مظاهرات ديسمبر/كانون الأول 1960 في الجزائر، وظل المسؤول الفرنسي في منصبه حتى عام 1967.

موريس بابون (مواقع التواصل)

لن يسعفنا الوقت للحديث عن النماذج الكاملة للشرطة التي نُقِلت من أراضي المستعمرات إلى الدول الأوروبية نفسها، لكن هذه الاستمرارية ستُختزل بدقة جراحية مذهلة من طرف عميد فرنسي كان يخاطب قواته أثناء عملية تأمين أحد الأحياء المشتعلة بعد حادثة زياد وبونا في عام 2005 قائلا: “لقد خسرنا الحرب في الجزائر. قبل أربعين عاما، أسقطنا سراويلنا. لكنّا لن نخفضها مرة أخرى اليوم. لا سجين اليوم، لا شيء غير الهراوة”. وقبل ذلك في عام 1974، وأثناء محاكمة 12 شرطيا قاموا بنهب منزل جزائري بالعاصمة باريس، تبين أن المتهمين هددوا الضحية بالقول إن حرب الجزائر لم تنتهِ، وإنهم سيقتادونه إلى إحدى الغابات لإطلاق النار عليه.

تؤكد الداخلية الفرنسية أن هذه الأفكار التي يمكن وصفها بدون تحرج بالعنصرية تُعَدُّ نادرة واستثنائية، لكن دلائل متعددة تشير إلى غير ذلك، وتؤكد أن العنصريين البيض في أجهزة الشرطة الفرنسية يحظون بالحماية في أدنى الأحوال. ويوفر تحقيق نشره موقع “ميديا بارت” بالشراكة مع قناة “ARTE” حول انتشار الأفكار العنصرية والعِرقية وسط مجموعة من رجال الشرطة الفرنسية نافذة حول مدى توغل هذه الأفكار وخطورتها.

تعود وقائع التحقيق إلى اطلاع أحد رجال الشرطة الفرنسيين من ذوي البشرة السوداء مصادفة على محادثات خاصة كان يتبادلها عدد من زملائه على مجموعة خاصة على تطبيق واتساب، وتُظهر تفاخر أعضاء المجموعة بتخزين الأسلحة لاقتناعهم بقرب اندلاع حرب أهلية عِرقية سيجد البيض فيها أنفسهم مطالبين بالدفاع عن أنفسهم ضد باقي الأعراق الأخرى وعلى رأسها العرب واليهود والمسلمون.

أظهر التحقيق استخدام أعضاء المجموعة لمصطلحات بالغة العنصرية والتحقير لوصف السود واليهود والمسلمين والعرب والنساء (حتى من الشرطيات) واليساريين وجميع مَن يختلف مع الأيديولوجيا البيضاء، مع الهجوم على الفرنسيات اللواتي يفضلن الزواج من العرب أو من السود كونهن يخنّ بذلك “العِرق الآري”. وتنبأ المتفاعلون في المجموعة بأن الحرب الأهلية قريبة في فرنسا، مقترحين ترك الطوائف والأعراق المختلفة للاقتتال الداخلي بسبب الخلافات العِرقية والعقدية بين هذه المجموعات، لتنتهي هذه المجازر بإجهاز الرجل الأبيض على المنتصر المنهك.

ورغم كل هذه الدلائل بالصوت والصورة التي قدمها الشرطي من أصل أفريقي إلى “شرطة الشرطة”، فإنه لم يحدث شيء، وظل المتهمون يمارسون عملهم بشكل عادي بعد نقلهم جزئيا من مراكزهم، لكن دون تحرك حقيقي قبل أن تنفجر القنبلة بتحقيق صحفي وسَّع من نطاق القضية. ترتبط هذه الظواهر (العنف ضد المهاجرين وأفكار التفوق الأبيض) بملفات أخرى لا تقل خطورة وأهمها ظاهرة الانتحار في وسط رجال الشرطة، فخلال 20 عاما الأخيرة، سُجِّل معدل 43 حالة انتحار سنوية لرجال الشرطة بسبب ظروف العمل الصعبة والنقص في المعدات، وحالة العداء التي أصبح الشرطي يحس بها تجاهه وهو يواجه الغاضبين في كل مكان، دون نسيان التنمر والسخرية التي قد يتعرض لها أي رجل في الشرطة (أو امرأة) سمح للخوف والقلق أن يظهرا على محياه، ليكون بذلك عُرضة للاستهزاء من باقي زملائه الذين يرون في الخوف ضعفا لا يليق أن تتلبس به شخصية رجل الأمن.

في غضون ذلك، تحاول فرنسا تعويض النقص الحاد في رجال الشرطة بسبب التقاعد والمغادرة ثم الانتحار باستقطاب أكبر عدد ممكن من المتحمسين للخدمة، وهو ما ينعكس سلبا على جودة الشرطي المنتدب كما يقول المسؤولون الأمنيون أنفسهم، الذين يرون أن الحاجة الملحة إلى عدد كبير من رجال الأمن يعني غياب التدقيق الكافي في خلفيات المرشحين، وهو ما يعني ظهور مشكلات مستقبلية أكيدة خصوصا مع اتباع إستراتيجية تقليص مدة التكوين وتعويضها بالخبرات على الأرض، وهو ما يجعل الشرطي الجديد يخرج لمواجهة الحياة الصعبة برصاصة في القدم.

ختاما، لا يمكن إيجاد إجابة واضحة شافية كافية عن أسئلة معقدة ومركبة تتناول قضايا شديدة الحساسية كما هو الحال الآن في فرنسا، لكن يمكن البدء في البحث عن الإجابة من وسط رماد الاحتجاجات، التي تخبرنا بأن الفروقات الاجتماعية والاقتصادية والإثنية قد تُشكِّل مشكلات حقيقية لتماسك أي مجتمع، وإذا كانت بعض الدول تعيش بمبدأ كنس التراب تحت السجاد، فإن هذه الإستراتيجية قد لا تنجح في جميع الأحيان، خصوصا إذا كان المكنوس هو لغم موقوت وليس مجرد حفنة من الغبار.

_______________________________________

المصادر:

  1. Macron annule sa visite d’État en Allemagne
  2. « La mort de Nahel, c’est l’étincelle » : les raisons de la colère
  3. France : ce que l’on sait sur la mort de Nahel tué par un policier
  4. Qu’est-ce qui avait déclenché les émeutes de 2005 et comment ont-elles pris fin ?
  5. Des « jeunes » et des « banlieues » dans la presse de l’automne 2005 : entre compréhension et relégation
  6. Adama Traoré : les zones d’ombre d’une affaire devenue un symbole
  7. Mort de Nahel : à l’Assemblée, la loi de 2017 sur l’usage des armes à feu par les policiers au centre des critiques
  8. mort-de-nahel-chronique-d-un-drame-annonce
  9. Les adolescents et leur cité, dans les « quartiers »
  10. الجذور الاستعمارية لعنف الشرطة الفرنسية
  11. «Bougnoules», «nègres», «fils de pute de juifs»: quand des policiers racistes se lâchent
  12. Ancien policier ne supportant plus la violence de ses collègues, il témoigne
  13. Migrants : violences policières quotidiennes
  14. La police recrute-t-elle moins bien qu’avant ?
  15. Dans la police, pendant les réformes, le malaise persiste

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post البنك الأهلى المصرى يفتتح فرع طوسون أحد فروعه التراثية بعد التطوير
Next post بعد منعهن من التعليم والوظائف.. طالبان تحظر صالونات تجميل السيدات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading