في فبراير/شباط الماضي، وفي احتفالية صاخبة بمناسبة مرور عام على بدء “العملية العسكرية الروسية” في الأراضي الأوكرانية، أمسكت الفتاة الأوكرانية “أنيا نومينكو”، التي تبلغ من العمر 15 عاما، بالميكروفون أمام الآلاف من المحتفلين، وشكرت “العم يوري” -جندي روسي- على إنقاذها هي وشقيقتها كارولينا الواقفة أيضا على المسرح، ومئات الآلاف من الأطفال في “ماريوبول”، المدينة الأوكرانية التي تعرضت لهجوم عنيف منذ اليوم الأول للحرب الروسية في فبراير/شباط 2022.
خلال كلمتها، ارتبكت الفتاة فجأة، ثم التفتت بخجل إلى الكبار الواقفين جوارها، وقالت: “لقد نسيتُ قليلا”، وبدا أن الفتاة تردد كلمة أعدّها أحدهم لها سلفا، عندئذ تقدّمت امرأة ترتدي معطفا أحمر كي تغطّي على تلك الزلة، دفعت الفتاة تجاه الجندي الروسي وقالت: “أنيا.. لا تخجلي، اذهبي وعانقي العم يوري”. عانقت أنيا الجندي بينما أشارت المرأة نحوه وتابعت قائلة لمجموعة من الأطفال الصغار الواقفين على المسرح: “عانقوه، إنه الرجل الذي أنقذكم جميعا”، ومن ثم انهمر طوفان من الامتنان والمحبة تجاه الجندي.
أُذيع هذا المقطع عبر برنامج “أندرسون كوبر 360” على قناة “سي إن إن” الأميركية مصحوبا بتغطية واسعة شملت لقاء أجراه كوبر مع ناثانيل ريموند، المدير التنفيذي لمختبر البحوث الإنسانية بجامعة “ييل” (Yale)، الذي عبَّر عن انزعاجه من المقطع الذي يعتقد أنه يصور “رهينة”. وتابع ريموند بالقول: “هؤلاء الأطفال أُبعِدوا عن أوكرانيا قسرا، وتجري إعادة تثقيفهم في إطار مشروع موسكو لـ”ترويس” أوكرانيا، ومعاملة روسيا لهم تنتهك اتفاقيات جنيف واتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل”، بحسب قوله.
أطفال أوكرانيا في قبضة الروس
لا تُعَدُّ حالة “أنيا نومينكو” وشقيقتها فريدة من نوعها، حيث تتهم أوكرانيا القوات الروسية بـ”اختطاف” الأطفال الأوكرانيين من دور الأيتام ومراكز حماية الطفولة، في المناطق الأوكرانية الخاضعة للسيطرة الروسية، ومن ثم ترحيلهم إلى موسكو بغرض إعادة التأهيل والتبني داخل المجتمع الروسي.
تشير بيانات رسمية أوكرانية نشرها موقع “أوكرانيا” الذي تديره منظمة “BRAND UKRAINE” بالتعاون مع وزارة الخارجية الأوكرانية إلى أن القوات الروسية قامت بترحيل أكثر من 19 ألف طفل قسريا حتى أبريل/نيسان 2023، مضيفة أن هذا الرقم لا يعبر عن الحالات الفعلية التي ربما تتجاوز هذا الرقم بكثير. أما “مرصد النزاعات” (Conflict observatory)، الذي أطلقته وزارة الخارجية الأميركية بالتعاون مع مختبر البحوث الإنسانية التابع لجامعة “ييل” (Yale) في مايو/أيار 2022، بهدف تحليل وتوثيق عمليات القوات الروسية في أوكرانيا، فقد أعلن في فبراير/شباط 2023 أن الحكومة الروسية الفيدرالية نقلت 6 آلاف طفل على الأقل، بشكل منهجي من أوكرانيا، إلى مرافق التبني أو مراكز تعليمية في شبه جزيرة القرم والبر الرئيسي لروسيا.
في هذا الصدد يقول سيرجي دفورنيك، ممثل أوكرانيا لدى الأمم المتحدة، إن السلطات الروسية أجرت تغييرات على التشريعات من أجل منح هؤلاء الأطفال جوازَ سفرٍ روسيًّا، بما يسمح بتبنيهم بسرعة من قِبَل الأُسر الروسية، ويصعّب من مهمة تعقبهم مستقبلا من قِبَل أسرهم الحقيقية. ويرى سيرجي أن ذلك يأتي في سياق جهود روسيا لـ”تدمير الأمة الأوكرانية وانتزاع أجيالها الشابة”.
بحسب تقرير مرصد النزاعات، هناك 43 منشأة تشارك في استضافة أطفال أوكرانيا، منها 7 معسكرات في شبه جزيرة القرم، و34 معسكرا تنتشر في أنحاء الدولة الروسية، بالإضافة إلى مستشفى للأمراض النفسية في القرم ومركز طبي في موسكو يختص بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. ويقع أغلب تلك المعسكرات بالقرب من البحر الأسود، وأبعدها في ماغادان على بُعد 4 آلاف ميل تقريبا من الحدود الروسية الأوكرانية.
معسكرات إعادة الأمجاد
تتخذ معظم تلك المعسكرات المظهر الترفيهي، حيث يُصطَحب الأطفال لقضاء إجازات هناك، في حين أن البعض الآخر عبارة عن مرافق مستخدمة لإيواء الأطفال إلى أن تتبناهم إحدى العائلات الروسية. غير أن المشترك في تلك المعسكرات، كما يؤكد تقرير مرصد النزاعات، أن تلك المعسكرات تشارك في جهود إعادة تثقيف الأطفال وفق الرواية الروسية، كما أن بعضها يقدم “تدريبات عسكرية” لهؤلاء الأطفال.
رُصدت أول عملية نقل جماعي للأطفال قبل أيام من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حين نُقل 500 طفل يتيم من إقليم دونيتسك، وأعلنت الحكومة الروسية آنذاك أن السبب وراء الخطوة هو حماية الأطفال من هجوم محتمل للقوات المسلحة الأوكرانية ضد دونيتسك ولوغانسك. فيما جرت عمليات نقل أخرى لمجموعات من الأيتام بعد بدء الغزو إلى مجمع روماشكا الرياضي في منطقة روستوف الواقعة شمال موسكو، وفقا لما ذكره بيتر أندريوشينكو، مستشار عمدة ماريوبول. وبحلول مارس/آذار 2022، غادرت مجموعات إضافية من الأطفال أوكرانيا للذهاب إلى “معسكرات ترفيهية” مجانية في روسيا.
على الجانب المقابل، تنفي روسيا الرواية الأوكرانية والغربية، وتردد أن هؤلاء الأطفال وصلوا الأراضي الروسية اختياريا أو ضمن عائلاتهم، الذين قدّرتهم موسكو بنحو 5.1 ملايين لاجئ أوكراني في يناير/كانون الثاني 2023. وتؤكد روسيا أن المزاعم المتعلقة باختطاف الأطفال الأوكرانيين ليست إلا حملة دعائية أوكرانية لتشويه سمعة الحكومة الروسية.
تقول الرواية الرسمية الروسية إن هؤلاء الأطفال ينتقلون إلى الأراضي الروسية لأسباب مختلفة، أولها حضور المعسكرات الترفيهية المجانية، أو في إطار إخلاء مناطق خط المواجهة، أو من أجل تلقي رعاية طبية غير متوفرة في الأراضي الأوكرانية، وأخيرا للتبني من قِبَل أسرة روسية في حالة إذا ما كان الطفل يتيما، وإن جميع هؤلاء الأطفال -باستثناء الأيتام المتبنين- يعودون مجددا إلى أهاليهم في أوكرانيا بعد انتهاء المعسكرات أو “تأمين” المناطق التي أُجلوا منها.
رحلة الأطفال في قلب روسيا
وبغض النظر عن الطريقة التي وصل بها الأطفال الأوكرانيون إلى روسيا، فإن هناك مسارا واضحا يتخذه هؤلاء الأطفال بمجرد وصولهم إلى موسكو. بادئ ذي بدء، تقسّم روسيا الأطفال الأوكرانيين إلى 4 فئات: الفئة الأولى تشمل الأطفال الذين لديهم أبوان وعائلة واضحة، أما الفئة الثانية فتضم مَن تعتبرهم روسيا أيتاما، والفئة الثالثة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين كانوا تحت رعاية مؤسسات الدولة الأوكرانية في السابق قبل فبراير/شباط 2022، وأخيرا هناك الأطفال الذين لا تحتضنهم أسرة ما نتيجة ظروف الحرب.
يرصد تقرير مرصد النزاعات رحلة الأطفال الذين ينتمون لأسرة أوكرانية بالفعل، إذ تشير المعلومات إلى أن العائلات لا تدفع مقابل ذهاب أطفالها إلى المعسكرات الترفيهية، وبالأخص الأطفال من مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون، وأن التمويل يأتي من قِبَل الحكومات الإقليمية في روسيا. ومن الواضح أن العديد من الآباء من ذوي الدخل المنخفض يريدون لأطفالهم الاستفادة من عطلة مجانية، كما يأمل البعض أن يحمي أولاده من فوضى القتال المستمر، ويرى في تلك المعسكرات فرصة كي يحوز طفله رعاية صحية وطعاما جيدا، ربما لا يتوفران في أوكرانيا حاليا. كذلك ثمة توثيق لحالات أخرى يُرسَل الأطفال فيها بعد ممارسة ضغوط على الوالدين.
الأهم أن بعض الأطفال لا تتم إعادتهم إلى أوكرانيا بعد انتهاء المعسكر، كما يفقد هؤلاء الاتصال بآبائهم. وفي حالات عديدة، يتعين على الآباء القيام برحلة صعبة وخطيرة داخل الأراضي الروسية في سبيل استعادة أطفالهم. تذكر إحدى سيدات مدينة خيرسون، التي أرسلت ولدها البالغ من العمر 14 سنة إلى معسكر صيفي في شبه جزيرة القرم، في حديث لصحيفة “الغارديان” البريطانية أن طفلها احتُجز هناك لأكثر من شهرين رغم أن فترة المعسكر المعلنة أسبوعان فقط، قبل أن تصل إليها سلسلة من الرسائل الصوتية من قِبَل قائد المعسكر تخبرها أنه لن يسمح بعودة الطفل بسبب آرائه المؤيدة لأوكرانيا.
لكن تلك الحالة لا تعبر عن الصورة العامة، خاصة فيما يتعلق بالأطفال الذين لديهم عائلات في أوكرانيا، فغالبا ما يعود هؤلاء الأطفال إلى عائلاتهم حسب الجدول الزمني، بعدما يتلقى الطفل برنامجا تثقيفيا عن الدولة الروسية. تتنوع مقررات هذا البرنامج غالبا بين المناهج الدراسية والرحلات الميدانية إلى المواقع الثقافية أو الوطنية في جميع أنحاء البلاد، والمحاضرات من قدامى المحاربين والمؤرخين في روسيا. في أحد تلك اللقاءات مثلا، تحدث سيرغي كرافتسوف، وزير التعليم الروسي، إلى المراهقين الأوكرانيين قائلا: “الكثيرون منكم لا يعرفون أنه كان هناك وقت عشنا فيه في البلد نفسه، وكان لدينا انتصارات وإنجازات وثقافة ولغة مشتركة”.
تُعَدُّ التدريبات العسكرية أيضا جزءا من معسكرات المراهقين؛ ففي شبه جزيرة القرم مثلا، نُظِّم معسكر بعنوان “مدرسة قادة المستقبل” من قِبل حركة “يونارميا” (Yunarmia)، وهي حركة وطنية روسية يتقن أعضاؤها أساسيات العسكرية، وعضويتها مفتوحة لكل طفل روسي يبلغ من العمر 8 سنوات أو أكثر. وخلال هذا المعسكر الذي حضره ما يقرب من 50 طفلا أوكرانيا، كان الأطفال قادرين على التعامل مع المعدات العسكرية وقيادة الشاحنات، كما درسوا الأسلحة النارية. كذلك قام ممثلو يونارميا بزيارة أطفال إحدى مدارس إقليم خيرسون الذي تسيطر عليه روسيا، حيث تحدثوا أيضا عن مفهوم الوطن الأم، والمتطلبات التي يجب أن تتوفر في المدافعين المستقبليين عن روسيا.
أيتام دونباس
بحسب تقرير مرصد النزاعات الأميركي، تكمن الأزمة الحقيقية في الأطفال الذين تعتبرهم موسكو أيتاما أو أولئك الذين فقدوا ذويهم بسبب الحرب، خاصة في ظل وجود مزاعم مفادها أن ليس كل هؤلاء الأطفال أيتاما بالفعل. وكانت الحكومة الأوكرانية أبلغت الأمم المتحدة قبل الغزو أن بعض الأطفال في دور الأيتام في أوكرانيا ليسوا أيتاما ولا يعانون من مرض، وهم في مؤسسة لأن أسرهم تعاني فقط من ظروف صعبة، أو أنها حُرمت من حق رعاية الأبناء بموجب القانون الأوكراني.
يُطلق على هؤلاء اسم “الأيتام الاجتماعيين”، ويشكلون 9 من بين كل 10 نزلاء في دور الأيتام الأوكرانية. يشير مرصد النزاعات إلى نقل مجموعة أيتام مزعومين تتراوح أعمارهم بين تسعة أشهر وخمس سنوات، من إقليم دونيتسك إلى إقليم موسكو عبر طائرة تابعة لقوات الفضاء الروسية، برفقة مفوضة حقوق الأطفال، ماريا لفوفا بيلوفا خلال أكتوبر/تشرين الأول 2022. وتُعَدُّ ماريا بيلوفا المنظم الأول والمشرف على ترحيل الأطفال من الأراضي الأوكرانية، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكما بتوقيفها في وقت سابق، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، كان على رأسها الترحيل القسري للأطفال.
الجدير بالذكر أن بيلوفا لديها 5 أطفال من زوجها عالم الحاسوب الذي تحوّل إلى كاهن أرثوذكسي فيما بعد، كما تبنت 5 أطفال آخرين بينهم مراهقة أوكرانية من مدينة ماريوبول، وهي أيضا الوصية القانونية على عدد من الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين يتلقون الرعاية في المنظمات الخيرية التي أسستها ماريا بنفسها. وتقدم بيلوفا نموذجا لمصير الأيتام الأوكرانيين أو أولئك الذين لا يملكون عائلات واضحة حيث يندرج العديد منهم في معسكرات التثقيف، قبل أن تتبناهم أسر روسية وتدمجهم في المجتمع الروسي، ما يجعل التعرف عليهم أو عودتهم مستقبلا إلى أوكرانيا أمرا بعيد المنال.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.