بدأت الدولة العثمانية مسيرتها إمارةً صغيرة على حدود الدولة السلجوقية في مواجهة العدو البيزنطي الرومي، وهنالك، في تلك الإقطاعية الصغيرة والخطيرة، مرّستهم تجارب القتال المريرة، ورُزقوا فوق طبيعتهم التركية المؤثرة للقتال، والمعتادة عليه، تجارب فوق بعضها، ولم يمر قرن من الزمان حتى فلّوا عزائم البيزنطيين في غرب الأناضول، وسحقوهم مرارا، وأخذوا منهم أهم مدن هذا الإقليم، مثل أزنيق وبورصة وإسكيشهير، بل عبروا خليج القسطنطينية وبحر مرمرة ليستولوا على مناطق شاسعة من الرومللي في أوروبا الشرقية، وانتقلت عاصمتهم إلى بورصة ومنها إلى أدرنة.
أصبحت الدولة البيزنطية مطوّقة من الأمام والخلف من هؤلاء العثمانيين، وأمام هذا الخطر الكبير استغاث الأباطرة بإخوانهم في العقيدة من البلغار والصرب والمجريين والأوروبيين كافة، فجاءتهم الأمداد، وأعلنوا النفير العام، وأحيوا عصر الحروب الصليبية من بعد موات، ولكنها كانت في شرق القارة الأوروبية هذه المرة، حتى وقعت الواقعة في معركة قوصوة أو كوسوفا في عصر السلطان مراد الأول، الذي استُشهد فيها، وفي الوقت نفسه ظفر على العدو.
والحق أن السلطان مراد الأول كان أول سلطان عثماني مسلم يتمكن من العبور إلى أوروبا الشرقية ويجوس خلال ديارها، ويوسع ملك المسلمين في تلك الأقطار، يقول معاصره المؤرخ ابن خلدون: “ولي بعده ابنه مراد بك، وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج (البوسفور)، وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة (قرب إيطاليا)، وصار أكثرهم ذمّة ورعايا، وعاثَ في بلاد الصقالبة (السلاف في البلقان) بما لم يُعهد لمن قبله، وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها، وطلب منه الذمّة وأعطاه الجزية، ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة (في معركة قوصوة أو كوسوفا)، وولي بعده ابنه أبو يزيد (بايزيد)، وهو ملكهم لهذا العهد” [1].
بايزيد الصاعقة والطريق إلى نيكوبولس
حين اعتلى بايزيد العرش العثماني وهو ابن التاسعة والعشرين من عمره عام 1389م/791هـ، عزم على اتخاذ إستراتيجية أشد صرامة من أبيه في التعامل مع الدويلات التركمانية المتفرقة في الأناضول التي كانت تتراوح ما بين الولاء للمماليك في مصر والشام وبين التفرق والتشرذم، أو الخوف من العدو الشديد القادم من أقصى الشرق، وهو تيمورلنك، ولهذا السبب قرر أن يضم جميع هذه الدويلات المتناحرة التي وصفها بعض المؤرخين بملوك طوائف الأناضول، على غرار ملوك طوائف الأندلس، وبالفعل نجح في القضاء عليها وضمها إلى الدولة العثمانية واحدة تلو أخرى.
واللافت أن الدولة البيزنطية، التي أصبحت طوع بنان الدولة العثمانية في طور نهضتها وصعودها في ذلك الوقت، كان قد أجبرها السلطان مراد الأول وابنه السلطان بايزيد الأول على دعمها لهما بالجيش والسلاح في أوقات الحرب ضد الأعداء، ولهذا السبب استدعى بايزيد الأول الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بجيوشه في حملته لتوحيد الأناضول، ولم يكتفِ بهذا، بل قرر ضرب كل القوى اللاتينية المحيطة به، مثل البنادقة والأفلاق (الرومانيين) واليونان وغيرهم.
في عام 1391م اصطف 6 آلاف جندي عثماني على امتداد سور القسطنطينية، وحاصروه أملا في إخضاع القسطنطينية دون حرب، وفي صيف العام نفسه اجتاز بايزيد الخليج نحو الشمال، ودخل رومانيا وشتت الجيش الروماني في الحرب الميدانية، بل تمكن من أسر أمير رومانيا ميرسيا، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت رومانيا أرضا عثمانية لمدة 487 عاما وحتى سنة 1878م، وفي العام التالي نجح بايزيد في الاستيلاء على سلانيك في اليونان، وجزيرة هالكيدكيا، وقطع مقدونيا عن البيزنطيين، ثم توغل في الأراضي البلغارية واستولى على مناطق واسعة منها، مثل منطقة ترنوفا وفيدين [2].
وبين عامي 1392 و1395م، تمكن بايزيد من فرض الهيمنة العثمانية على مناطق شاسعة من رومانيا وبلغاريا ومقدونيا واليونان، وحصار القسطنطينية، وبناء قلعة “أناضولي حصار” أو قلعة الأناضول في الشطر الآسيوي من مضيق البوسفور في مواجهة أسوار القسطنطينية بهدف فرض الحصار الدائم والمستمر عليها، كل ذلك كان سببا كافيا لنشر الفزع بين الأوروبيين، وعلى رأس هؤلاء المضطربين ملك المجر “سيجسموند” الذي أرسل إلى أوروبا رسائل النجدة والاستغاثة لينقذوه من عدوه، وفي هذه المرة توحد الصليبيون لهدف واحد تمثل في استئصال قوة العثمانيين الصاعدة، وقد حشدت أوروبا 130 ألف جندي مجهّزين بصورة جيدة ، جاؤوا من المجر وفرنسا وإنجلترا وألمانيا وبولندا والبندقية وإسبانيا والنرويج وإسكتلندا، وعلى رأسهم الصرب والمجر وغيرها من الدول والجمهوريات والإقطاعيات الأوروبية الصغيرة والكبيرة.
وكان القائم على هذا الحشد ودعوته بابا روما، وهدف هذا الجمع إلى طرد الأتراك العثمانيين من البلقان بصورة نهائية والقضاء عليهم أو إعادتهم إلى الأناضول، ثم يأتي من بعد ذلك الجيش الصليبي الأكبر ليستمر في مسيره حتى يدخل إلى القدس ويعيد الاستيلاء عليها وطرد المماليك منها.
اجتاز الجيش الأوروبي نهر الدانوب، وعسكر حول مدينة نيكوبولي أو نيكوبولس، الواقعة اليوم بين رومانيا وبلغاريا، لمحاصرتها، فسَار إليهم السلطان بايزيد ومعه 200 ألف مقاتل، بهم كثير من أهالي الصرب تحت قيادة أميرهم، “وغيرهم من الأمم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين، وقاتلهم قتالا عنيفا في يوم 23 ذي القعدة 798هـ/27 سبتمبر 1396م، كانت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألبة عليهم، وأسر كثير من أشراف فرنسا، منهم الكونت دي نيفر نفسه، وقُتل أغلبهم، وأُطلق سراح الباقي والكونت دي نيفر بعد دفع فداء اتفق على مقداره، ويقال إن السلطان بايزيد لما أطلق سراح الكونت دي نيفر وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته، قال له إني أجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين، فأنت في حل من الرجوع لمحاربتي، إذ لا شيء أحبّ إلي من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم”، على ما يرويه محمد فريد في كتابه “تاريخ الدولة العلية العثمانية”[3].
ماركو بولو الألماني وشهادته على المعركة
ومن حسن حظّنا أن أسيرا ألمانيّا ورحالة سيجوب العالم لمدة 30 عاما فيما بعد سيكون أول تعرّفه على هذا العالم الخارجي -خلافا لبلده ألمانيا- من خلال معركة نيكوبولس بعدما وقع في أسر السلطان بايزيد الأول الصاعقة، ذلك هو الرحالة الألماني “يوهان شيلتبرغبر”، الشهير بـ”ماركو بولو” الألماني، الذي وقع جريحا منهزما مع أقرانه في تلكم المعركة وهو ابن 16 عاما، ليتعرف عن قرب على عادات المجتمع العثماني وأفكاره في تلك المرحلة المبكرة من نهضته وإنشاء دولته.
جاءت الأخبار بوصول مراد الأول وابنه السلطان بايزيد الصاعقة إلى أوروبا مغلّفة بهالة من الدعاية تثير الخوف والرعب في نفوس الناس، ومنددة بانتصاراتهما الباهرة على “إخوانهم المسيحيين” في البلقان والمجر وحتى على مشارف إيطاليا، حتى إن الإمبراطورية البيزنطية كادت تنهزم وتسقط جراء هجماتهما المتتالية، حتى أمسى الأباطرة البيزنطيون العظام تابعين لهذين السلطانين العثمانيين، يحاصران عاصمتهم متى شاءا، ويجبران أهلها على الانضمام إلى معاركهما العسكرية وحروبهما الظافرة متى أرادا، وأمام هذه الصورة السوداء التي رسمتها الدعاية الصليبية بين عموم الأوروبيين حول الأتراك العثمانيين، ولا سيما هذين السلطانين، راحت النقمة تملأ الصدور منهما، والغضب يلف الصغير والكبير.
وبالفعل وصلت طلائع الصليبيين إلى بلغاريا، وتمكنوا من استرجاع بعض القلاع والحصون التي استولى عليها الأتراك العثمانيون، واستمرت المعارك بين الفريقين حتى جاء السلطان بايزيد الأول بعد أسبوعين على رأس 200 ألف مقاتل، ويحكي لنا “يوهان شيلتبرغر” تنافس أمرائهم على البدء بالهجوم انتقاما من العثمانيين قائلا: “عندما سمع دوق بورغونديا بهذا، رفض التنازل عن هذا الشرف لأي شخص آخر للسبب نفسه الذي كان قد أتى به من مسافة بعيدة مع 6 آلاف رجل، والذي أنفق لأجله الكثير من المال في حملته”[4].
كانت روح الانتقام هي الغالبة في معسكر الصليبيين بدلا من التخطيط الجيد، فبينما قسّم العثمانيون جيوشهم إلى 20 لواء، تحت كل لواء 10 آلاف مقاتل منفصلين عن بعضهم بعضا، وفق خطة عسكرية مدروسة، يحكي “يوهان” أن دوق بورغونديا أصر، على الرغم من رفض قائد الحملة، الملك المجري “سيجسموند”، على اقتحام صفوف الجيوش العثمانية وضربها، رغم تحذير الملك المجري الذي كان يدرك أساليب العثمانيين في القتال والحرب ومدى خطورتها.
يقول شيلتبرغر عن هذا الأمير الصليبي المتعجل: “لم يفسح المجال للهنغار (المجريين)، فحشد رجاله وهاجم العدو وشقّ طريقه عبر فيلقين، وعندما وصل إلى الثالث استدار وكان على وشك التراجع، ولكنه وجد نفسه محاصرا، وكان أكثر من نصف خيّالته من دون جياد، لأن الأتراك صوّبوا أهدافهم على الخيول فقط، لذلك لم يستطع أن يفرّ، فوقع في الأسر، وعندما علم الملك المجري أن دوق بورغونديا أُجبر على الاستسلام أخذ بقيّة الرجال وهزم”.
يصف يوهان شيلتبرغر مشاهد القتال، وصليل السيوف، وأنين الجرحى الذي كان هو نفسه منهم، ففي هذا الالتحام العثماني الصليبي، “أصابت ضربة قاتلة حصان سيدي لينهارت ريخارتيتغر وأنا هانز شيلتبرغر ساعيه، عندما رأيتُ هذا انطلقتُ نحوه في هذا الحشد وساعدتُه على امتطاء جوادي الخاص ثم امتطيتُ جوادا آخر”. ويواصل يوهان سرده لتلك المهلَكة التي أوقع فيها ملك الصرب نفسه وجنوده وهزيمتهم من “مساعد الملك التركي” على حد وصفه، قائلا: “عندما رأى الملك المجري تتابع الهزائم على أصحابه فرّ بنفسه صوب نهر الدانوب، ومن هنالك ركب سفينة شراعية مولّيا وجهه شطر القسطنطينية”.
وأمام هذه الفوضى وسقوط الملوك والدوقات وكبار الفرسان والنبلاء، بل وهروب زعيم الحملة الصليبية الملك المجري، “هرب العديد من المقاتلين الأوروبيين الفارين إلى الدانوب وصعدوا على متن السفن، ولكن السفن كانت ممتلئة جدا لدرجة أنها لا يمكنها حملهم جميعا، لذا حاولوا الركوب على متنها، فضربوهم على أيديهم وغرقوا في النهر، وقُتل العديد منهم في الجبل وهم في طريقهم إلى الدانوب، وقُتل سيدي لينهارت ريخارتينغر…، وجميع القادة في القتال، بالإضافة إلى العديد من الفرسان والجنود الشجعان والذين لم يتمكّنوا من عبور النهر والوصول إلى السفن، قُتل قسم منهم، ولكن العدد الأكبر أُخذوا أسرى”[5].
ما بعد المعركة
عدّد شيلتبرغر أسماء مشاهير القادة الذين سقطوا في أسر السلطان بايزيد العثماني، وجلهم من كبار دوقات وقادة إيطاليا وفرنسا والمجر، وأمام سقوط أعداد كبيرة من قتلى العثمانيين أقسم بايزيد أنه سيثأر لقتلاه، وأمر بقتل هؤلاء الأسرى، كل يوم عدد محدود، وفقا لما يرويه شيلتبرغر الذي يقول عن نفسه: “كنتُ واحدا من 3 مقيّدين بحبل واحد، وقادنا الشخص الذي أسرنا، فعندما جُلب الأسرى أمام الملك… ثم أُمر كل واحد أن يقتل أسراه، وأخذوا رفاقي بعد ذلك وقطعوا رؤوسهم، وعندما جاء دوري رآني ابن الملك (العثماني)، وأمر بأني يجب أن أُترك حيّا، وأُخذت إلى شُبّان آخرين لأنه لا يُقتل أحد تحت سن العشرين، وأنا كنتُ بالكاد قد بلغت السادسة عشرة من عمري”[6].
يحصي شيلتبرغر أو ماركو بولو الألماني عدد قتلى الصليبيين من الأسرى في ذلك اليوم بعشرة آلاف قتيل، بينما سيق البقية إلى أدرنة ووقع هو نفسه ضمن حصّة السلطان بايزيد الأول التي أرسلت إلى العاصمة بورصة في غرب الأناضول، وكانت إصابته سببا في بقائه في بورصة والتصاقه بمواكب السلطان بايزيد الثاني، حتى مكث في حضرته 12 عاما كما يقول، وهو وهم منه، لأن بايزيد الأول أُسر بعد هذه المعركة ببضع سنين على يد تيمورلنك سنة 1402م في معركة أنقرة التي وقعت بينهما.
تمدنا رحلة يوهان شيلتبرغر بمعلومات في غاية الأهمية عن تلك الفترة المهمة، وهي تفاصيل سجلها عودته إلى بلاده بافاريا في ألمانيا بعدما لفّ قارات العالم القديم. وقد أدلى بمعلومات مهمة عن الإستراتيجية العثمانية التي تولى أمرها بايزيد في توحيده للأناضول وقضائه على الإمارات التركمانية التي استقلت منذ زوال دولة سلاجقة الروم بقوة وصرامة وحزم منه، وإعجابه بتكتيكاته، وكلها تؤيدها المصادر العربية والتركية المعاصرة لتلك الأحداث.
وهكذا عرفنا منه، على خلاف المصادر الموجزة الأخرى، وباعتباره شاهد عيان أيضا، وأحد أسرى معركة نيكوبولس الشهيرة التي قضى فيها بايزيد على تحالف الصليبيين القوي ذاك؛ مقدار التخلف العسكري الصليبي أمام التنظيم القوي للعثمانيين، ومهارتهم، ووحدة جبهتهم، ومدى الرعب الذي أوقعوه في قلوب أعدائهم في أوروبا قاطبة، ويبدو لنا أن تيمورلنك لو لم يظهر في ذلك العهد لتمكن بايزيد من فتح القسطنطينية قبل مجيء حفيد حفيده محمد الفاتح بنصف قرن أو يزيد، ولكن أقدار السماء غالبة.
____________________________________
المصادر:
[1] تاريخ ابن خلدون 5/635.
[2] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية 1/104، 105.
[3] محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص144.
[4] رحلة يوهان شيلتبرغر، ص59.
[5] رحلة يوهان شيلتبرغر ص61.
[6] السابق ص63.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.