آخر معارك الحملة الصليبية السابعة، وقعت عام 1250م في مدينة “فارسكور” المصرية، بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع والسلطان الأيوبي توران شاه، وكان الهدف من الحملة الاستيلاء على مصر، معقل السلطة الإسلامية في الشرق، لتكون بوابة الصليبيين لاحتلال بيت المقدس.
وأسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة للصليبيين، ووضعت حدًّا نهائيًا للحملة الصليبية السابعة، وأعلنت إخفاقها وأدّتْ إلى مقتل نحو 30 ألفًا وجرح عشرات الآلاف من الصليبيين، كما سقط آلاف الأسرى بأيدي المسلمين، من بينهم: ملك فرنسا لويس التاسع.
الحملة الصليبية السابعة
أحدث استرجاع المسلمين بيت المقدس سنة 1244م رِدّة فعل عنيفة في الغرب، ما دفع البابوية للدعوة إلى حملة صليبية جديدة، واستجاب لهذه الدعوة لويس التاسع ملك فرنسا، الذي عُرف -لاحقًا- باسم “القديس لويس”.
وكان لويس التاسع طامعًا بدخول التاريخ بصفة “أقوى ملك في أوروبا” في تلك الحقبة. وكان قد أُصيب بمرض شديد كاد يهلك بسببه، فأراد أن يقوم بحملة صليبية “تقربًا إلى الله”، عَلَّهُ يُشفى من مرضه، فبدأ بالتجهيز لحملة صليبية كبرى.
وأعدّ الملك الفرنسي حملته بعناية كبيرة، وزوّدها بخيرة الفرسان الفرنسيين والخيول والسلاح، واكتملت استعدادات “الحملة الصليبية السابعة” في 25 أغسطس/آب 1248م، وانطلقت الجيوش من ميناء مرسيليا الفرنسي إلى جزيرة قبرص.
ومكثت الحملة في قبرص بضعة أشهر، لإعادة التنظيم وتنسيق الإمدادات، واستكمال التعزيزات من المقاتلين الذين قدِموا من مختلف أنحاء أوروبا، ومن عكا وطرابلس وأنطاكية التي كانت تحت سيطرتهم.
وتجهّزت قوات الحملة الصليبية، المقدّر عددها بنحو 50 ألف جندي بحلول ربيع 1249م، وانطلقت باتجاه الشواطئ المصرية، حيث قرّر لويس التاسع احتلال مصر أولًا، لتكون بوابته إلى القدس.
وكلتاهما كانتا تحت سيطرة الأسرة الأيوبية، فأرسل برسالة متغطرسة إلى سلطان مصر الأيوبي، يبلغه فيها بأنه لا ينوي انتزاع القدس مجددًا فقط؛ بل وغزو مصر والشام.
ومع عِلْم السلطان الصالح أيوب حاكم مصر بالزحف الصليبي؛ أرسل جيشًا بقيادة فخر الدين يوسف، حيث عسكر بقواته جنوب دمياط في بلدة صغيرة تسمى “أشموم طناح” بمحافظة الدقهلية، وكان السلطان الصالح وقت بدء الحملة على فراش الموت.
وفي يونيو/حزيران 1249م وصل الأسطول الصليبي إلى شاطئ دمياط، وظنّت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم قد مات، فانسحبوا انسحابًا غير مسوّغ، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وتملّكوها دون قتال.
وعلِم بذلك السلطان الصالح، فتدارك الوضع، وتوقّع أن الصليبيين سيتّجهون إلى القاهرة، فاختار للقائهم مدينة المنصورة؛ كونها تقع على النيل، وكان من الطبيعي أن يستغلّ الصليبيون النيل للإبحار بسفنهم الكثيرة، فأمر السلطان بالسفن الحربية أن ترابط فيه، وصدقت توقعاته، واستطاعت سفن المسلمين أن تحاصر الحملة، وتقطع خطوط إمدادها لنحو ستة أشهر.
وفى تلك الأثناء تُوفي السلطان الصالح أيوب يوم 23 نوفمبر/تشرين ثاني 1249م في المنصورة، فكتمتْ زوجته شجرة الدّر خبر وفاته، وأعلنت لأمراء الجيش أن السلطان مريض، والأطباء منعوا زيارته.
وأرسلت إلى توران شاه ابن الملك الصالح، وفقًا لمشورة كبار الأمراء والقادة، ودعته للعودة سريعًا لتسلّم مقاليد الحكم، وكلّفتْ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد لمعركة المنصورة، التي وقعت يوم 11 فبراير/شباط 1250م، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا.
وتوالت المواجهات بين المسلمين والصليبيين بين كرٍّ وفرٍّ، حتى وصل توران شاه -وكان ذلك بعد معركة المنصورة بنحو 10 أيام- وقد كان واليًا على مدينة “حصن كيفا” (بلدة تقع جنوب تركيا سُمّيت فيما بعدُ حسن كيف)، فأُعلنت رسميًا وفاة الملك الصالح، وتسلّم توران شاه مقاليد الحكم في مصر والشام.
أحداث المعركة
كانت معنويات جيش المسلمين قد ارتفعت بسبب الانتصارات التي حقّقوها، وكان وصول توران شاه إلى المنصورة في الوقت المناسب، فتيمّن الناس بطلعته، ونجح في السيطرة على زمام الأمور، وبدأ بالإعداد للمعركة التالية “معركة فارسكور”، وإكمال مسيرة التصدي للحملة الصليبية السابعة.
وأمر توران شاه بإنشاء جيش من السفن الخفيفة، ونقلها إلى فروع النيل السفلى، وإنزالها في القنوات، فأخذت تلك السفن تعترض طرق السفن الصليبية التي تجلب المؤونة للجنود وتقطع الطريق عليها، وبذلك منعت اتصال الصليبيين بقاعدتهم الرئيسة في دمياط.
وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت بعد معركة المنصورة، وتكبّد خسائر فادحة، ومع اشتداد الحصار ساد الغلاء وتفشّتْ المجاعة واستشرى المرض في صفوف الصليبيين، وصاروا محاصرين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب.
وتيقّن الملك لويس من استحالة الزحف نحو القاهرة في ظلّ هذه الأوضاع، وبدأ يفكر بالعودة إلى دمياط، وبالفعل أحرقوا ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم، وبدؤوا بالارتداد.
ولكن لويس التاسع أدرك أن عملية الانسحاب لن تكون سهلة؛ لأن المسلمين سوف يطاردون جيشه، وكان في وضع يائس، ففتح باب المفاوضات مع السلطان توران شاه، وعرض تسليم دمياط مقابل القدس وبعض مدن سواحل الشام، غير أن الوقت كان قد فات على مثل تلك المساومة، وكان طبيعيًا رفض توران شاه لهذا الاقتراح.
ولم يكن أمام الصليبيين وقائدهم إلا محاولة الفرار تحت جنح الظلام، وفي 5 أبريل/نيسان 1250م بدأت عملية الانسحاب وإخلاء المعسكرات والتراجع باتجاه دمياط، وأنستْهم حالة الذعر التي أُصيبوا بها أن يدمروا الجسر العائم الذي أنشؤوه على القناة لاجتيازها، ولم يلبث المماليك أن عبروا وراءهم، وطاردوهم وهاجموهم من كل ناحية.
ومع ذلك، استطاع الصليبيون الاستمرار بالانسحاب، ووصلوا إلى “شرمساح” عند منتصف الطريق بين المنصورة ودمياط، فطاردهم المسلمون ولحقوا بهم عند مدينة “فارسكور” التابعة لمحافظة دمياط يوم 6 أبريل/نيسان 1250م، حيث اندلعت المعركة التي تحمل اسم المدينة.
وكان للمماليك دور بارز في المعركة، إذ دارت جيوشهم حول الصليبيين، وهاجموا بشكل ساحق، واستخدموا في القتال النيران اليونانية “النفط”، ودمّروا واستولوا على العديد من سفن الصليبيين ومراكب إمداداتهم، وأبلتْ القوات البحرية -ولا سيما الظاهر بيبرس- بلاءً حسنًا.
نتائج المعركة
انتهت المعركة بانتصار ساحق للمسلمين، وغنموا من الأموال والسفن الحربية والمؤن والخيل والبغال شيئًا كثيرًا، كما تكبّد الصليبيون خسائر كبيرة في الأرواح، إذ قُتل منهم نحو 30 ألفًا وجُرح عشرات الآلاف، كما أُسر الآلاف، وكان من بينهم: ملك فرنسا لويس التاسع، الذي بقي في قرية منية عبد الله (ميت الخولي عبد الله) شمال مدينة المنصورة، ثم نُقل إلى دار القاضي فخر الدين ابن لقمان.
ووُضعت شروط قاسية على الملك ليفتدي نفسه من الأسْر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بـ800 ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها قبل الإفراج عنه، وأن يحتفظ توران شاه بأسرى الصليبيين إلى أن تُدفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط لهم، وعقد هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات.
وبعد نحو شهر في السجن، سُمح للويس التاسع بمغادرة مصر، مقابل تسليم دمياط، والتعهّد بعدم العودة إلى مصر مرة أخرى، بالإضافة إلى دفع نصف الفدية (400 ألف دينار).
وتوجّه الملك المهزوم في 8 مايو/أيار 1250م إلى عكّا بصحبة 1200 أسير حرب، بما في ذلك أسرى كانوا قد سقطوا في معارك سابقة، ولم يرجع إلى فرنسا، بل ظلّ في الشرق الأوسط لمدة 4 سنوات أخرى، أشرف خلالها على إعادة تحصين قاعدته في عكّا، وكذلك المعاقل الصليبية الأخرى؛ مثل: صيدا وقيصرية.
وكانت معركة “فارسكور” آخر معارك الحملة الصليبية السابعة، وأذِنتْ بإخفاقها، فلم يستطع الصليبيون تحقيق هدفهم بالاستيلاء على بيت المقدس، أو السيطرة على مصر وبلاد الشام، وعُدّتْ من أشد الهزائم التي نزلت بهم، وعمَّ إثرها حزن عميق في فرنسا وأوروبا.
وكان من نتائجها أن ارتفع شأن المماليك، الذين أبلوا بلاء حسنًا في المعركة، وكان ثباتهم في الجهاد واستماتتهم في الدفاع عن حمى الإسلام قد أمدَّهم بسند تاريخي للوصول إلى العرش، حيث استطاعوا القضاء على الأسرة الأيوبية، والوصول إلى الحكم في العام ذاته الذي وقعت فيه معركة “فارسكور”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.