على مدار قرنين ونصف قرن هي تاريخ بقاء الإمبراطورية الصفوية الفارسية التي انطلقت من أذربيجان بجنوب القوقاز وسيطرت على إيران ثم أفغانستان ومناطق من تركمانستان والعراق اليوم، كان التنافس السياسي والاقتصادي والعسكري والمذهبي بينها وبين الإمبراطورية العثمانية هو السبب الأكثر حضورا في معاركها، حيث تماست حدود العثمانيين الشرقية مع دولة الصفويين في العراق وأقصى شرقي الأناضول وأذربيجان وفي مياه جزيرة العرب.
وقد عُرفت تنظيمات الصفويين العسكرية باسم “القِزلباش” (أصحاب القلانِس الحُمر بالتركية)، ودانت بالمذهب الشيعي الاثني عشري، ودافعت عنه بحمية كبيرة، وقامت دولتهم على تطبيق هذا المذهب بكل صرامة في إيران، التي اعتنق معظم أهلها المذهب السني قبل مجيء الصفويين. ثم راحت الدولة الصفوية تستغل الساحة في شرقي الأناضول لتنشر المذهب الشيعي، واستطاعت أن تستقطب التركمان إلى صفوفها، وكان جزء كبير من هؤلاء التركمان جندا مخلصين للصفويين أثناء المرحلة الأولى قبل إعلان دولتهم.
لكن ما لا يعرفه كثيرون أن الطريقة الصفوية بدأت طريقة سنية، قبل أن تتحول على يد “الشيخ الجُنَيْد” (جد إسماعيل الصفوي) إلى طريقة شيعية، كما أورد “كولِن تيرنر” في كتابه “التشيُّع والتحوُّل في العصر الصفوي”: “بدأت الطريقة الصفوية طريقة سُنية، ونالت في عهد قادتها الأربعة الأوائل احترام العامة والحُكَّام على حد سواء…، ومع وصول الجُنيد الصفوي (الإمام الرابع للطريقة) تحوَّلت الطريقة إلى تنظيم عسكري ذي توجه ديني وطابع سافر من الغلو شيعي الهَوى”[1].
من معركة تشالديران إلى اتفاقية أماسيا
بعد أن تحولت الطريقة الصفوية مذهبيا وتنظيميا، مكَّنها ذلك من ولوج المعتركات السياسية والعسكرية، لكن العثمانيين في الجهة المقابلة في الأناضول وشرق أوروبا كانوا حاضرين بوصفهم قوة سُنيَّة تتوسع وتحمل راية الإسلام في أوروبا والقوقاز والأناضول. وقد رأت إسطنبول دخول الصفويين إلى شرقي الأناضول تهديدا خطيرا لوجودها السياسي ودورها الديني منذ عهد المؤسس عثمان الذي “تسلَّم من حميه أَدَه بالي، رئيس المشايخ الصوفية، منطقة الجهاد والسيف بوصفه مجاهدا في سبيل الله، كما فعل السلاطين العثمانيون في إستانبول فيما بعد”[2]، على حد وصف المؤرخ الألماني “كارل بروكِلمان”.
ولما كان السلطان بايزيد الثاني، على عكس والده السلطان محمد الفاتح، رجلا مسالما مُحبا للتفاهم مع الجيران، لم يتحرك إلى جنوب الأناضول وشرقها لتوحيدها ودرء خطر الصفويين، وكل ما انشغل به حين ظهر الصفويون في أذربيجان وترسخت أقدامهم في إيران وأقصى شرقي الأناضول وحتى بلاد الكُرج (جورجيا) في جنوبي القوقاز، كان انخراطه الأساسي في الصراع مع المماليك في مصر وبلاد الشام، ثم التصالح معهم والتعاون.
بيد أن سياسة ابنه سليم الأول كانت على خلاف ذلك، لقد انتزع سليم الحكم انتزاعا، وأدرك خطورة الوجود السياسي والديني للصفويين في شرقي الأناضول، الذي كان قد توسَّع آنذاك إلى الوسط والجنوب، بل وإلى بعض مناطق غرب الأناضول والرومللي. كما عَلِم السلطان سليم من خلال مخابراته باتصالات المماليك الجراكسة في بلاد الشام ومصر بالصفويين. ولهذا بدأت المسألة “الشرقية” تأخذ حظها الكبير من سياسة السلطان سليم الأول بن بايزيد الثاني، وتكلَّلت هذه السياسة بمعركة تشالديران (جالديران) التي تقع اليوم في أقصى شرقي تركيا ضمن محافظة “وان”، وهناك انتصر العثمانيون على الصفويين، واستطاعوا دخول العاصمة الصفوية تبريز، ثم أكّدوا سيطرتهم على “ديار بكر” و”ماردين” ومناطق وسط جنوب الأناضول التي حكمها من قبل تركمان تابعون اسميا للمماليك[3].
على أن التنافس العثماني الصفوي لم ينحصر في التباين المذهبي بين الفريقين، ومحاولة كل منهما اجتذاب السكان المحليين إلى مذهبه، ولم يقف حتى عند حدود الصراع العسكري، بل امتد إلى التنافس الاقتصادي. فمن أفغانستان وإيران وحتى شرقي الأناضول، امتد طريق الحرير الذي سيطر الصفويون على نصيب كبير منه، وتطلَّع إليه العثمانيون. وقد سار هذا الطريق على استقامته من شرق آسيا إلى العراق، هذه الولاية العربية الإستراتيجية التي كانت أيضا مثار تنازع بين العثمانيين والصفويين طوال عقود، فتارة استولى عليها الصفويون، ثم استعادها العثمانيون، حتى استقرت في نهاية المطاف ضمن السيادة العثمانية.
بخلاف ذلك، رأى العثمانيون الأتراك أن الصفويين يقفون حائلا دون اتصالهم بالشعوب التركية في وسط آسيا، سواء عن طريق بحر قزوين وأذربيجان أو من خلال الطرق البرية في شمال بلاد فارس، وقد زاد هذا من الأهمية الجيوسياسية لأذربيجان بالنسبة إلى العثمانيين، ولهذا السبب نرى السلاطين سليم الأول وابنه سليمان القانوني وحفيده سليم الثاني وابنه مراد الثالث يحرصون جميعهم على هزيمة الصفويين وتأكيد سيادتهم على أذربيجان والعراق وشرق الأناضول ومناطق بشمال إيران مثل لورستان ونهاوند، وفي المقابل استغل الصفويون انشغال العثمانيين بالجبهة الأوروبية كي يستعيدوا تبريز وأذربيجان، ويسيطروا على العراق وديار بكر وشرق الأناضول.
استمرت الصراعات بين الطرفين على هذا المنوال، لا سيما بين السلطان سليمان القانوني والشاه طَهْماسب الأول بن إسماعيل الصفوي، حتى قرَّرا عقد أول اتفاق سلام بين الدولتين في عام 1555م، وهو “صلح أماسيا”. ونلحظ في هذا الصلح التركيز على قضية الحدود بين الدولتين، فقد بقيت أرمينيا الغربية وعاصمتها يريفان وأذربيجان الغربية ومركزها في تبريز وكُرجستان الغربية والعراق تحت النفوذ العثماني، بينما آلت أرمينيا الشرقية وأذربيجان الشرقية وكرجستان الشرقية إلى السيادة الصفوية، على أن تكون ولاية قارص حدّا فاصلا بين الدولتين مع تبعيتها للدولة العثمانية. وقد سمح صلح أماسيا بمرور الحُجَّاج الإيرانيين ضمن الأراضي العثمانية، واشترط امتناع الصفويين عن لَعْن أم المؤمنين عائشة والخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، وإظهار الاحترام لهم. وبسبب استيلاء العثمانيين على تبريز، اتخذ الصفويون قزوين عاصمة جديدة لهم، واستمرت هذه المعاهدة نافذة لمدة 25 عاما حتى وفاة الشاه طَهماسب في عام 1576م[4].
اشتعال المعارك من جديد
دخلت الدولة الصفوية بعد وفاة طَهماسِب في صراعات الأبناء ومؤيديهم من طوائف القزلباش على السلطة، وفي نهاية المطاف نجح الشاه إسماعيل الثاني بن طهماسب في اعتلاء العرش لمدة 18 شهرا ارتكب فيها مجازر بحق عدد من إخوته وأبنائهم، وكذلك ضد طوائف عسكرية تمرّدت عليه في الأقاليم. وفي نهاية المطاف لقي إسماعيل الثاني حتفه مسموما من أعدائه وإخوته، ومن ثَمّ قرروا تنصيب أخيه “محمد خُدابنده” الكفيف في منصب الشاه، فكان ألعوبة بيد أخته “بريخان خانم” وقادة القزلباش، لكن زوجة الشاه الجديد “خير النساء مهد عليا” لم ترضَ باستيلاء أخت الشاه على مقاليد الأمور، ولذا اشتدت الصراعات من جديد، وانتهت بمقتل زوجة الشاه[5].
في ظل هذه الصراعات الداخلية عند الصفويين، اختلَّ الأمن، وسادت الفتن والاضطرابات، وعلا صوت التشيُّع مرة أخرى، لا سيما أن الشاه إسماعيل الثاني كان ممن ينفرون من الخلافات الطائفية، وعمل على تقريب السُّنة. ولكنه في المقابل نجح في استقطاب عدد من الأمراء الأكراد على الحدود العثمانية، فأعطاهم الوظائف وعاملهم معاملة حسنة وبالغ في ذلك، وفي الوقت ذاته استطاع العثمانيون أن يستقطبوا حاكم ولاية لورستان الإيرانية، فانضم إليهم وأعلن تبعيته لهم، ومن ثم عاد التوتر من جديد[6].
في خضم التوترات، اعتُدي على القوافل العثمانية القادمة من الصين ووسط آسيا والمارة بأراضي الدولة الصفوية في مناطق “زنجان” الإيرانية، وكان الاعتداء خرقا لصُلح أماسيا. وفي المقابل، تبوَّأ السلطنةَ العثمانية مراد الثالث بن سليم الثاني والأجواء في الدولة الصفوية على أشُدّها بين أبناء محمد خُدابنده. وقد استغل العثمانيون تعدي الصفويين على قوافلهم واستقطابهم لبعض الأمراء الأكراد بالتزامن مع حالة التطاحن الداخلي، فتحرّكت قواتهم بقيادة “أوزدمير أوغلو عثمان” باشا، حتى بلغت تبريز، فعملت على ضبطها، ومن ثم توسيع سيطرتها على المناطق المجاورة[7].
والحق أنه حين أعلن السلطان مراد الثالث عن بدء حملة عسكرية على الدولة الصفوية، لم يكن يدرك أنها ستستمر اثني عشر عاما من الصراعات الدموية والهدن المؤقتة، لكنها رغم ذلك حققت العديد من المنجزات للعثمانيين. وقد عهد السلطان العثماني بقيادة الحملة العسكرية إلى “لالا مصطفى” باشا، وأمره بالسيطرة على كُرجستان (جورجيا) وشيروان وباكو (عاصمة أذربيجان الحالية)، وبالفعل انطلقت الجيوش العثمانية في عام 985هـ/1577م صوب كُرجستان حيث تمركزت قوات صفوية بقيادة “دُقماق خان”، الذي أراد أن يهجم على مؤخرة الجيش العثماني، لكن خُطته فشلت. وتمكَّن لالا مصطفى باشا من السيطرة على كُرجستان وأعلنها ولاية عثمانية، ثم اتجه جنوبا صوب تبريز وأكد السيادة العثمانية عليها. ونظرا لدخول الشتاء، عاد لالا مصطفى باشا وترك والي ديار بكر “أوزدمير أوغلو عثمان” باشا نائبا له لاستكمال العمليات العسكرية في مناطق دولة أذربيجان الحالية[8].
وبالفعل نجح العثمانيون في السيطرة على شماخي وشيروان ودَربَند، وعلى مناطق جورجيا وشمالي إيران، لكن القوات الصفوية بقيادة “أوروس خان” جاءت لاستعادة شيروان، ووقعت حرب طاحنة بين الجانبين استمرت ثلاثة أيام جاء فيها دعم هائل من خان القرم “محمد قِراي” المتحالف مع العثمانيين، فاستطاعوا هزيمة القوات الصفوية. ونظرا لأن هذه القوات خلَّفت وراءها غنائم ضخمة، تتبَّعهم أخو خان القرم “عادل قِراي”، غير أن الصفويين أسروه حينئذ. وقد أدرك “أوزدمير أوغلو عثمان” باشا أن قواته لن تتمكن من الحفاظ على شيروان، فقرر الانسحاب شمالا والاستقرار في دربند، وقضى فيها فصل الشتاء، ولمّا لم يأتِه مدد من قوات القرم، أرسل إلى إسطنبول وأدرنة يطلب المدد، حتى جاءه بالفعل بقيادة جعفر باشا في حدود عام 990هـ/1582م[9].
العثمانيون يفرضون شروطهم كاملة
على الجانب الصفوي، قاد “إمام قولو”، والي غنجه (تقع ضمن دولة أذربيجان اليوم)، العمليات العسكرية ضد الوجود العثماني في المنطقة، وحاصر تبريز لمدة أربعة أشهر أملا في استعادتها، ولما فشل انطلق شمالا صوب جورجيا وداغِستان للقضاء على الجيش العثماني بقيادة “أوزدمير أوغلو عثمان” باشا. وقد وقعت بين الفريقين حرب كبيرة عُرفت بموقعة المشاعل لأنها جرت في الليل تحت أضوائها، وفيها تمكّن العثمانيون من هزيمة الصفويين وقتل 7 آلاف جندي منهم، فاضطر إمام قولو إلى الهروب نحو الجنوب. وبفضل هذه المعركة استطاع العثمانيون السيطرة على باكو وشماخي ومعظم مناطق دولة أذربيجان الحالية في أشهر عام 991هـ/1583م.
استمرت المعارك بين الفريقين على مناطق تبريز والحدود من الشمال وحتى الحدود الإيرانية العراقية اليوم، واستطاع العثمانيون إرسال “فرهاد” باشا من الرومللي لقيادة العمليات العسكرية ضد الصفويين انطلاقا من شرق الأناضول، ثم إلى تبريز لضمان السيادة العثمانية على قره باغ وأذربيجان كاملة بما فيها محافظة أذربيجان الإيرانية اليوم. كما أرسل السلطان مراد الثالث “تشالغا زاده سِنان” باشا كي يتولى جبهة العراق، حيث قاد عمليات ناجحة في العمق الإيراني، واستطاع الاستيلاء على منطقة نهاوند في غرب إيران وتسكين حامية عسكرية عثمانية بها. وفي تلك الأثناء ارتقى الشاه عباس إلى قيادة الدولة الصفوية، وكان شاهدا على حجم الاكتساح العثماني ونجاحات الدولة العثمانية في مناطق كردستان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وشمال وغرب إيران، ولهذا السبب سلّم بقوة العثمانيين، وأرسل سفارة كبيرة على رأسها ابن أخيه الأمير “حيدر ميرزا” إلى إسطنبول تطلب إبرام معاهدة صلح. وقد أصر العثمانيون أن تدخل هذه السفارة إسطنبول بمعية فرهاد باشا الذي أبرزهم للعامة والخاصة في صورة المنهزمين[10].
وبالفعل أبرم العثمانيون مع الصفويين اتفاقية جديدة في مارس 1590م (998هـ)، فرض فيها العثمانيون شروطهم كاملة، وتحققت فيها سيادتهم على كل مناطق أذربيجان وقره باغ وغنجه وقارص وتبريز وشَهرِزور ونهاوند ولورستان. وقد وافق الشاه عباس على هذه الشروط، بل أيضا أبقى لدى العثمانيين على بعض الرهائن من أمراء الصفويين لضمان تحقق الشروط واستمرارها[11]. وما فعل عباس ذلك إلا لأسباب كثيرة قاهرة: أولها تخلف الجيوش الصفوية من ناحية العتاد والتنظيم مقارنة بالجيوش العثمانية، وثانيها الانقسامات السياسية داخل الدولة الصفوية، وثالثها تربُّص الأوزبك به، وهم أعداؤه الخطرون الموجودون في مناطق وسط آسيا وهدّدوا الصفويين من الشرق.
لأجل هذا كله، أراد الشاه عباس أن يعيد ترتيب الدولة الصفوية من الداخل، ويقوي جيشها، ومن ثم أتته بعد ثلاث عشرة سنة أخرى فرصة ذهبية لخوض صراع جديد مع العثمانيين أثناء انشغالهم بمعارك أوروبا، وتولّى الإنجليز والألمان والنمساويون والباباوية وجمهورية البندقية وغيرها من القوى الأوروبية تحريضه ودعمه ضد العثمانيين في تلك المعارك، وتلك قصة أخرى سنقف عليها في مقالة قادمة إن شاء الله.
_____________________________________________
المصادر:
- [1] كولن تيرنر: التشيع والتحول في العصر الصفوي ص127.
- [2] كارل بروكلمان: الأتراك العثمانيون وحضارتهم ص14.
- [3] سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية النشأة والازدهار ص235-240.
- [4] A. Ekber, İlk Osmanlı – İran Anlaşması 1555, Amasya Mühahedesi, İstanbul 1971.
- [5] محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة الصفوية في إيران ص117.
- [6] İsmail Uzunçarşılı, Osmanlı Tarihi, Cilt3,s56.
- [7] İsmail Uzunçarşılı, c3 s57.
- [8] İsmail Uzunçarşılı, c3 s58.
- [9] İsmail Uzunçarşılı, c3 s60.
- [10] İsmail Uzunçarşılı, c3 s62,63.
- [11] عباس إسماعيل صباغ: تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية ص143.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.