القاهرة- “ادفع مقدما لتحصل على المياه.. تركيب عداد مياه مسبق الدفع يتم بشكل إجباري”. بهذه الطريقة صدمت تعليمات شركة مياه القاهرة الكبرى حامد أبو المجد، المزارع بمنطقة الوراق التي تقع في حضن نهر النيل.
وقف أبو المجد مندهشا على باب منزله الذي بناه بشكل عشوائي (دون ترخيص) في أرضه الزراعية التي تعانق نيل الجيزة، وقال للجزيرة نت متسائلا “هل تقطع الحكومة المياه عنّا إذا لم نشحن البطاقة المدفوعة مقدما؟”، وأضاف مستنكرا “والأرض الزراعية سيحين عليها الدور قريبا”.
لا يعرف المزارع البسيط شيئا عن توجهات البنك الدولي نحو ما يعرف بـ”تسليع المياه”، وتحويلها إلى سلعة لمن يدفع، بحيث تُعرض في البورصات العالمية شأنها شأن أي شيء يُباع ويشترى.
لكنه انتهى إلى النتيجة نفسها التي جاءت ضمن ورقة بحثية للدكتور محمد حافظ، أستاذ هندسة السدود والسواحل الطينية بجامعة “تناغا” الوطنية في ماليزيا.
مخططات لبيع مياه الأنهار
يقول حافظ للجزيرة نت إن البنك الدولي أطلق مبدأ “تسليع المياه”، بينما تحركت كينيا وبريطانيا على أرض الواقع من خلال اتفاقية تم التوقيع عليها في مايو/أيار لاستكمال 3 سدود، أهمها سد “الشلال العظيم”، وذلك بهدف بيع المياه. ووفق الباحث، سيكون هذا السد أول نموذج أفريقي يطبق مبدأ بيع مياه الأنهار.
كما تشير الورقة البحثية إلى أن المفاوضات المصرية الإثيوبية بشأن سد النهضة تطرقت -في مرحلة من المراحل وعبر وسطاء- إلى مقترح، تشتري بموجبه مصر ما تحتاجه من مياه من الجانب الإثيوبي بأسعار تفضيلية.
ولفت حافظ أيضا إلى أن الصين وقعت مؤخرا اتفاقا مماثلا مع دولة جنوب السودان، لإنشاء “بنك” للمياه بعد تحويل مجرى النيل الأبيض، وذلك بمشاركة كل من كينيا وبوروندي وأوغندا وروندا وتنزانيا.
ويهدف تأسيس البنك الأفريقي لبيع المياه لبناء عدد من السدود في تلك الدول، بهدف بيع المياه لدولة المصب ولمن يطلب.
وفي هذا السياق، تتوقع الورقة أن تبدأ الصين بناء سد كهرومائي على أحد روافد النيل الأبيض بدولة جنوب السودان، لتخزين 15 مليار متر مكعب من الماء، وذلك ضمن حزمة من السدود التي سيتوالى بناؤها على روافد النيل الأبيض المتجهة إلى دولة السودان ومن بعدها إلى مصر.
كما تتحدث عن تزايد نفوذ الصين في قطاع المرافق والبنى التحتية بالدول الأفريقية لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، موضحة أن ذلك يتماشى مع أجندة وتوجهات البنك الدولي صاحب التوجه الأصيل في “تسليع المياه”.
“مؤامرة” قديمة
ويضع وزير الري المصري السابق نصر علام، القضية في سياق ما يسميه “المؤامرات القديمة” على مياه مصر، والتي لم تتوقف منذ خمسينيات القرن الماضي، كما يقول في منشور على صفحته في فيسبوك.
ويشير علام إلى أن البنك الدولي الذي يروّج لتسليع المياه حاليا حاول تعجيز مصر لدى بدء مشروع السد العالي. واتهم الوزير السابق قوى غربية لم يسمّها بالسعي لإنجاح “مخطط اتفاق عنتيبي” بهدف إعادة تقسيم حصص مياه النيل، “في مغامرة استمرت أكثر من 10 سنوات”، معتبرا أن السد الأثيوبي محاولة صريحة في هذا الاتجاه.
وحذّر من أن السدود التي تقام بدون اتفاقيات دولية قانونية واضحة وملزمة لملئها وتشغيلها، من السهل نسبيا تغيير وظائفها بما قد يسبب أضرارا بالغة للدول المجاورة، “فلا يجب أن تسمح دولة لنفسها بأن تكون مشاريع تنميتها على حساب حياة شعوب أخرى مجاورة ومشاركة لها بنفس المورد المائي”.
تغليب المقاربات السياسية
ويذهب أستاذ هندسة الري بجامعة الفيوم جمال عبد العال، إلى أن دخول صندوق النقد والبنك الدوليين على خط ما يسمى التنمية في العديد من البلدان الأفريقية، غيّر ملامح وخطط استخدام المياه، فبدأت دول المنبع تخطط لتحقيق الاستفادة القصوى من الأنهار حتى لو كان ذلك على حساب دول المصب، واتهم البنك الدولي بتغليب “المقاربات السياسية” على حساب مصالح الدول والشعوب.
وخلافا للقانون الدولي الذي ينص على مبدأ الاستخدام المنصف وعدم الإضرار بالغير، انطلقت دعوة البنك الدولي لتسليع المياه منذ عام 1993 كما يقول عبد العال الذي يشير إلى ربط المنح والقروض بالتزام الدول بالسياسات الجديدة.
كما يرى أستاذ العلاقات الدولية علي جميل، أن أزمة المياه لا تؤثر على مصر والسودان فقط، مبيّنا أن أنهار العراق والصومال تعاني لنفس السبب.
وقال جميل للجزيرة نت إن إخضاع عصب الحياة للبيع والشراء في البورصات العالمية فكرة لا سابق لها في تاريخ العلاقات المائية الدولية، ولا توجد أية معاهدة ثنائية أو متعددة الأطراف في هذا الصدد. ودعا الدول العربية إلى التعامل بحسم وذكاء مع هذه المخططات التي قد تأخذ طريقها إلى التنفيذ قريبا، وحذّر قائلا “قد يصبح من حق الجميع في العالم وفي أوروبا وإسرائيل على سبيل المثال، شراء ما كان يوما حقا للمصريين في المياه”.
في هذا السياق، يتحدث الأكاديمي المصري عما وصفه بالمستقبل البائس لأزمة المياه إذا سارت الأمور على النحو الراهن ودون حل جذري، معتبرا أن الهدف الأهم لسد النهضة الإثيوبي هو توصيل المياه لإسرائيل بيعا وشراءً، وستكون الأراضي المصرية “مجرد معبر”.
وأضاف قائلا “ربما نحصل من عبور المياه على حق أو رسوم بعد أن نتحول إلى مجرد مرفق لذلك”. وذكر أن إقرار مبدأ تسليع المياه دوليا يعني أن من حق إسرائيل شراء المياه من إثيوبيا، و”على مصر توصيلها”.
نوايا إثيوبيا
وبينما تتزايد المخاوف من تداعيات سد النهضة وتأثيراته السلبية على حياة المصريين، يؤكد أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة عباس شراقي (القريب من الحكومة) أن مصر أعلنت كثيرا أنها ليست ضد التنمية في إثيوبيا أو أي دولة أخرى، بشرط عدم الإضرار بالآخرين، موضحا أن بناء سد “جوليوس نيريري” في تنزانيا شاهد على ذلك، ومن قبله العديد من المشروعات مثل سد “أوين” في أوغندا عام 1953.
ويرى شراقي في تصريحات للصحف المحلية، أن موقف الجامعة العربية الداعم لمصر والسودان كان ضروريا، معتبرا أن أديس أبابا لم تراعِ مخاوف القاهرة والخرطوم خلال عمليات الملء الثلاث السابقة لسد النهضة. وقال إن على إثيوبيا استخدام المياه في إنتاج الكهرباء دون التأثير على تدفقات النهر الطبيعية، إلا بالتوافق بين دولتي المصب المتضررتين من أي نقص.
ورغم وضوح نوايا إثيوبيا، كما تقول الصحفية والباحثة في شؤون الري أسماء يحيى، فإن مصر لم تتعامل مع الأزمة بما يتناسب مع خطورتها.
وتوضح أسماء للجزيرة نت، قائلة “ثبت للقاهرة أن سدّ النهضة ليس من أجل الطاقة فقط، وإنما لإنشاء أكبر بنك مائي في العالم”، وتحذر من أن مصر قد تجد نفسها مضطرة لشراء المياه التي تحتاجها للشرب والزراعة، موضحة أن تكلفة تحلية مياه البحر ومعالجة الصرف الصحي ستكون عالية جدا ولن توفر المطلوب.
تحلية المياه المكلفة
ووفقا لبيانات وزارة الإسكان المصرية، فإن إجمالي عدد محطات التحلية القائمة حاليا يصل إلى 60 في محافظات شمال وجنوب سيناء، والبحر الأحمر، ومطروح، والإسماعيلية.
ويصل إجمالي طاقة محطات التحلية إلى نحو 1.7 مليون متر مكعب من المياه يوميا، وتمثل هذه نحو 6% من إجمالي الاستهلاك الحالي لمياه الشرب.
وتشير الباحثة في شؤون الري أسماء يحيى إلى أن خطة تحلية المياه بلغت تكلفتها 3 مليارات دولار، وتضيف “لاحظ إنفاق 3 مليارات دولار للحصول فقط على أقل من مليار متر مكعب سنويا، بينما كانت المياه الطبيعية تأتي بشكل مجاني من النيل”.
ومع ثبات حصة مصر من مياه النيل والبالغة 55.5 مليار متر مكعب في العام، ينخفض نصيب الفرد من المياه إلى 600 متر مكعب سنويا، فيما يبلغ المعدل العالمي للفرد ألف متر مكعب سنويا.
وتقول أسماء يحيى ساخرة إن إجبار الحكومة المصريين على الحصول على المياه عن طريق الدفع المسبق وبأسعار عالمية، لا يختلف كثيرا عن “تسليع” البنك الدولي لعصب الحياة وجعله محورا مهما في علاقات الدول المائية ومفجّرا لحروب قادمة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.