جمع بين النجاح النقدي والجماهيري، وتمكن من حصد أكثر من مئة جائزة من بينها 13 جائزة إيمي برايم تايم، و5 جوائز في الجولدن جلوب؛ إنه مسلسل “Succession”، الذي بدأ عرض موسمه الأول في يونيو/حزيران 2018، وعُرض موسمه الرابع والأخير في مارس/آذار 2023، وصنفه بعض النقاد واحدا من أفضل المسلسلات التلفزيونية على الإطلاق.
على مدار 39 حلقة تابعنا على الشاشة قصة عائلة لوجان روي، الملياردير المتسلط الذي يتربع على عرش إمبراطورية إعلامية ضخمة، في حبكة معقدة ومستويات متعددة من الصراع، تنوعت بين صراع الأبناء على السلطة، والصراعات السياسية والاقتصادية، والصراع ما بين عالم الإعلام التقليدي ومتغيرات التكنولوجيا المتسارعة.
مقدمة لا يمكنك تخطيها
عادة ما يتخطى المشاهدون مقدمة المسلسل بعد الحلقة الأولى، لكن مقدمة “Succession” سرعان ما اقتنصت اهتمام متابعيه حول العالم، وأصبحت واحدة من أكثر الصيحات انتشارا على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن نشر محبو المسلسل العديد من النسخ المحاكية لها باستخدام لقطات لعائلات أخرى من عالم السلطة والمال والشهرة على حدٍّ سواء، لنشاهد نسخا للعائلة الملكية البريطانية، وعائلة دونالد ترامب، وعائلة الرئيس المصري المخلوع مبارك، بل وحتى عائلة كارديشيان وعائلة سيمبسون الكرتونية.
يكمن سر النجاح المدوي لهذه المقدمة في جانبيها الموسيقي والبصري، فمن ناحية فازت موسيقى المسلسل بجائزة الإيمي في دورتها الواحدة والسبعين بوصفها أفضل موسيقى أصلية لعمل تلفزيوني، كما أُدرجت في المرتبة الخامسة والعشرين ضمن قائمة رولينج ستون لأفضل 100 مقطوعة موسيقى تصويرية تلفزيونية، حيث استطاع الملحن نيكولاس بريتزل أن يقدم مقطوعات فائضة بمشاعر التوتر والفوضى، مزج فيها ما بين موسيقى البيانو ذات الطابع الكلاسيكي وموسيقى الهيب هوب، مع الكمان والآلات النحاسية وإيقاعات الطبول، وتميزت بالتباين ما بين النوتات العالية والمنخفضة، مما يخلق شعورا بالفوضى والتمرد الخارجين عن السيطرة.
أما من الناحية البصرية، فقد شكَّل التتابع البصري لمقاطع المقدمة جزءا أساسيا من العمل، وحمل مجموعة من المفاتيح الدلالية التي تساعد على فهم خطوط السرد والحبكة الأساسية، عبر مجموعة من اللقطات القديمة المصورة بكاميرا 8 ملم، تظهر مشاهد عائلية لأربعة أطفال يمارسون حياة تظهر فيها مظاهر البذخ والثراء، ورغم ذلك يبدو على وجوههم التوتر، لا تجمعهم أي لقطات مرحة، أو ابتسامات أو حميمية عائلية من أي نوع.
الأب هو الغائب الحاضر، نشاهده يسير مبتعدا، أو نشاهد إيماءات كفه، يبدو منعزلا وحاضرا في الوقت ذاته في إشارة لحضور سلطته وغيابه العاطفي عن أبنائه، الذين ظهروا في طفولتهم وهم يرتدون ملابس رسمية تشبه ملابس البالغين، ويبدو وكأنهم ظلوا على هذه الحال حتى بعد أن كبروا، مجرد أطفال مدللين في ثياب الكبار يحاولون كسب رضا أبيهم وتحقيق توقعاته المستحيلة. تقاطعت هذه اللقطات مع لقطات حديثة ومعاصرة لناطحات سحاب نيويورك، ومطابع الجرائد، وشاشات الأخبار، لتضعنا هذه المقدمة في قلب عالم عائلة لوجان روي، وصراعاتهم الممتدة منذ اللحظة الأولى. (1) (2)
ظلال شكسبيرية
أشار النقاد إلى العديد من التأثيرات الشكسبيرية في المسلسل، الذي يبدو لأول وهلة كأنه رؤية معاصرة لمسرحية “الملك لير” لشكسبير. في افتتاحية المسلسل وبينما يتحسس العجوز لوغان روي طريقه محاولا الوصول إلى الحمام، تكون عبارته الأولى هي “أين أنا؟”، ذلك السؤال يذكرنا بالملك لير المسن، الذي يفقد قدراته وتعبث به شيخوخته. وكذلك مثل الملك لير، يخفي لوجان روي الاحتياج إلى محبة أبنائه تحت طبقات متراكمة من التسلط والنرجسية. جدير بالذكر أن برايان كوكس الذي يلعب دور “لوجان روي” هو واحد من أنجح مَن قاموا بدور الملك لير على المسرح الوطني الملكي، في عرض طاف جميع أنحاء العالم، وقد أصدر كوكس كتابا عن التجربة حمل عنوان “يوميات لير”.(3)
ومن “الملك لير” إلى “ماكبث” رائعة أخرى من روائع شكسبير، حيث نرى إحالات عدة تربط المسلسل بهذه القطعة الشكسبيرية الخالدة، لنتذكر خطاب ليدي ماكبث لزوجها قائلة: “أنت تريد العظمة، ولست خاليا من الطموح، ولكنك خالٍ من الشر الذي لا بد أن يصحبه، ما تريده شامخا تريده قدسيا، لا تريد أن تغش في اللعب”. ألا يذكرنا هذا التساؤل بكيندال، الابن الطموح الذي يسعى للفوز بالسلطة، لكنه يسقط أمامنا مرة تلو الأخرى ويتركنا نتشكك في مقدار ما لديه من قسوة تمكنه من أن يحوز مكان أبيه؟
الظلال الماكبثية يمكننا رؤيتها أيضا في العلاقة بين الابنة شيف وزوجها توم، هو الآخر يبدو لنا وكأنه يمتلك طموحا دون ما يكفي من الشر، وشيف مثل ليدي ماكبث تستخدمه خنجرا، يمكنها أن تطعن به منافسيها كي تتمكن في النهاية من اقتناص السلطة. كلها تفاصيل تذكرنا بعمق المآسي الشكسبيرية الغارقة في عالم الصراعات العائلية والخيانة والجشع واشتهاء السلطة. (4)
الصورة أبلغ من ألف كلمة
سواء كانوا من محبي الفن ومقدريه أو مجرد رجال أعمال يسعون لامتلاك اللوحات الفنية فقط لقيمتها المادية، تزدان جدران قصور وشركات عائلة لوجان روي بالأعمال الفنية مثل غيرهم من الأثرياء. لكن الملاحظة الدقيقة تؤكد للمشاهد أن اختيار هذه اللوحات لم يأتِ اعتباطا، بل اختيرت عن عمد كي تمنح المشاهد دلالات صريحة حول خطوط الحبكة وتوجهات السرد المتنوعة.
بداية من الملصق الدعائي للموسم الأول نرى لوجان روي جالسا في المنتصف، محاطا بأبنائه الأربعة، وخلفهم تتصدر المشهد لوحة الفنان “بيتر بول روبنز” التي تحمل اسم “صيد النمر” (1616)، وتصور المواجهة بين الصيادين والوحوش المتعطشة للدماء، في لحظة كثيفة من القتال لا يمكن للرائي أن يميز فيها المفترس من الفريسة.
وفي الملصق الدعائي للموسم الثاني تستمر لعبة اللوحات الفنية، حيث التف الأبناء الأربعة على مائدة العشاء التي تحمل في منتصفها صدعا واضحا، وقد انضم إليهم توم وجريج، اللذان تحولا إلى لاعبين أساسيين بمرور الأحداث. خلف الأب الواقف يمكننا أن نرى لوحة “ويليام أدولف بوجيرو” التي تحمل عنوان “دانتي وفيرجيل” (1850) التي تصور مشهد صراع من جحيم دانتي، تحديدا في الدائرة الثامنة من الجحيم، وتُظهر دانتي ومرشده فيرجيل وهما ينظران لروحين ملعونتين، أحدهما زنديق، والآخر اغتصب هوية رجل متوفي للمطالبة بميراثه.
خلال الحلقات بإمكاننا أن نرى عددا كبيرا من الأعمال الفنية ذات الدلالة، يظهر أبرزها في الحلقة التجريبية، حيث نشاهد على الحائط خلف رأس لوجان روي صورة التقطها فرانك ثيل تصور منطقة سبيغازيني الأرجنتينية، وتعكس كما يقول المصور عنها “قوة وجلال العالم الطبيعي جنبا إلى جنب مع هشاشته وتعرضه للخطر”.
وفي الحلقة الخامسة من الموسم نفسه، بينما يخطط كيندال لسحب الثقة من والده والانقلاب عليه، نشاهد لوحة بيتر ليلي التي تظهر فيها لويس دي كيروال جاسوسة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، التي أصبحت بعد ذلك عشيقة تشارلز الثاني ملك إنجلترا، وهي تطل عليهم في الخلفية، وكأنها تبارك الخيانة القادمة. (5)
المياه كلها بلون الغرق
في اللقطة الأخيرة من المسلسل نشاهد كيندال الذي خسر كل شيء وهو يحدق في موجات نهر هدسون المضطربة. استُخدمت المياه في عدد من المشاهد المحورية لشخصية كيندال، بداية من نهاية الموسم الأول حين غرقت السيارة في البحيرة، وتسببت في قتل النادل الشاب، هذا الحادث الذي لم يغرق فيه كيندال روي، لكنه أغرق مؤامرته لإزاحة أبيه ووأدها في المهد.
المياه أيضا تظهر في أولى حلقات الموسم الثاني، حيث يُرسَل كيندال إلى عيادة إعادة التأهيل، وبينما يتأمل ما حدث له في المسبح الهادئ ويحاول أن يستعيد سكينته، يرسل والده مَن يخرجه منه ويعيده على وجه السرعة من مساحته الآمنة إلى قلب الأحداث، يبدأ كيندال في الانهيار يوما بعد آخر، وكأن خروجه من تلك المياه الهادئة بمنزلة خروج من منطقة أمانه.
كذلك في نهاية الموسم الثالث نشاهده على حافة الغرق في المسبح، بعد صراع شرس مع والده وإخوته. لطالما استُخدمت المياه رمزا في العديد من الأعمال الفنية والأدبية، وقد أجاد فريق المسلسل توظيفها هنا حتى لحظة الختام التي تتركنا نتساءل إن كان كيندال قادرا في النهاية على النجاة من الغرق؟
في حديثه لـ”فانيتي فير” يصف الممثل جيريمي سترونج الذي قام بأداء دور كيندال روي هذه الخاتمة بأنها تمثل رؤية الكاتب القاتمة للبشر، الذين يظلون عالقين للأبد في حلقات من العذاب الذي لا ينتهي، ويرى أن انهيار هذه الشخصية في أحد مستوياته يعكس موت النظام، ويترادف انطفاء الضوء في شخصية كيندال مع ظلام المرحلة المتأخرة من الرأسمالية في البلاد في هذه اللحظة، وهو ما يراه سترونج إنجازا مذهلا قام به جيسي أرمسترونج مع فريق الكتابة.
في الحوار نفسه حكى جيرمي سترونج أنه شعر وهو يسير باتجاه النهر بأن المياه تناديه، وفوجئ بذهابه إلى النهر والقفز عبر الحاجز، لكن الممثل الذي يلعب دور كولن تمكن من اللحاق به.(6) ربما لا يدهشنا ذلك إذا عرفنا أن جيريمي سترونج واحد من أهم أنصار ما يُعرف بـ”Method acting” أو ما يمكننا ترجمته في العربية بتكنيك التقمص أو الاندماج، حيث يتطرف الممثل في معايشة وتبني مشاعر ومواقف الشخصية التي يؤديها دون أن يضع حدا فاصلا. ولم تكن هذه هي الحادثة الأولى لسترونج، فقد سبق أن طلب رشه بغاز حقيقي مسيل للدموع أثناء تصوير مشاهد الاحتجاج في فيلم “The trial of the Chicago 7”. يقول جيريمي سترونج إنه شعر بأن المياه تنادي كيندال في هذه اللحظة، بعد أن خسر كل شيء. لكن صناع المسلسل اختاروا النهاية المفتوحة التي يقف فيها متأملا النهر دون أن يقفز فيه، ربما بذلك يمنحونه فرصة للتعافي والبدء من جديد بعد أن تحرر من سجن حلمه المستحيل.
مثل إيكاروس
على مدار 39 حلقة، شاهدنا تطور الصراع بين أبناء روي، في علاقة أخوة مبنية على التنافسية والقسوة، ورغم الصراع كانت الشخصيات أقرب للسكون منها إلى الديناميكية، فهي لا تنمو ولا تتطور، وتظل في عالم يحكمه الطمع وندوب الطفولة، والرغبة في الحصول على رضا الأب، البطريرك القاسي الذي استطاع أن يفرض سلطته على أبنائه حتى بعد وفاته، جميعهم حلقوا مثل إيكاروس بالقرب من الشمس، لكن سرعان ما ذابت أجنحتهم واحترقت ليسقطوا بلا أمل، تاركين لنا التساؤل ما إذا كان بمقدورهم التعافي من أبوة لوجان السامة.
سيتذكر المشاهدون دائما “كيندال روي” الذي يبدو وكأنه بطل لمأساة إغريقية، مسّه الحلم منذ طفولته، حين وعده أبوه بدور الرئيس التنفيذي في عمر السابعة، لتتوقف حياته في هذه اللحظة تقريبا، ليبقى طفلا يبحث بلا جدوى عن طريقة لارتداء عباءة أبيه التي لم تناسبه أبدا.
سنتذكر “رومان روي” بسخريته المريرة اللاذعة، وعودته في النهاية إلى نقطة البدء، رومان الذي ظل حبيس القفص في دور لم يرغب أبدا في لعبه. في أحد مشاهد حلقة الختام وبينما كان كيندال يعانق شقيقه رومان، بدا وكأنه يسحقه حتى انفتحت غرز الجرح في رأس رومان وبدأ في النزف، وكأن هذه القسوة هي جزء من لغة الحب التي تعلموها في هذه العائلة، حيث لا يستطيعون التعبير عن المحبة دون أن تكون ممتزجة بالقسوة. عاش “رومان” لسنوات مثل كيس رمل يفرغ فيه الآخرون قسوتهم، ويبذل ما بإمكانه للفوز بمحبة وقبول لم يحصل عليهما أبدا. (7)
أما شيف التي اختلفت تجربتها منذ الموسم الأول عن أشقائها، حيث كانت الابنة الوحيدة التي اختارت أن تحاول إيجاد قيمتها المهنية بعيدا عن أعمال العائلة، فسرعان ما انخرطت في لعبة الطموح والصراع على السلطة، مع زوجها توم الذي انتهى به الأمر وقد انتصر على الجميع. لقد حسمت شيف الصراع في النهاية، وتركتنا حائرين أمام مشهدها النهائي مع توم، هل فازت في النهاية بالسلطة حتى لو حققت فوزها عبر توم، باعتبارها زوجته وأُمًّا لطفله الوريث البيولوجي للجد لوجان روي؟ أم أنها تجدد الحلقة، وتسير في مسار والدتها الذي كرهته، زوجة تعيسة للرئيس التنفيذي، في علاقة بلا حب؟
————————————————————————-
المصادر:
1- Breaking Down the Succession Opening Credits (filmschoolrejects.com)
2- The secrets of the Succession opening credits – New Statesman
3- Why Are So Many Viewers Obsessed with HBO’s “Succession”? The Answer is (Maybe) Shakespeare | Screenwriting Magazine
4- Does Shakespeare tell us how Succession will end? | The Spectator
5- How the Art in Succession Paints a Picture of Power (hyperallergic.com)
6- Exclusive: Jeremy Strong on Succession’s Brutal Finale and Kendall’s Ending | Vanity Fair
7- ‘Succession’ finale: What was really going on with Kendall and Roman’s hug? – TV Shows (mashable.com)
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.