تسير الأمير ديانا وحدها مطلع الثمانينيات في وسط لندن قبل أن تلفت انتباه الصحفيين فيطاردونها صائحين بالأسئلة لنيل تصريح منها. تجري الأميرة خائفة مذعورة هربا منهم وتدخل إلى مبنى سكني بأقصى سرعة مغلقة الباب ورائها. ولم تجد من شقق البناية سوى شقة واحدة مفتوحة فتدخلها على حذر ليتبين أنها شقة طلاب عرب مغتربين من جنسيات مختلفة.
ينتاب الطلاب شعور مختلط من الذهول والإعجاب في آن واحد بعدما تبين لهم من دخل عليهم البيت من دون ميعاد. يجلس الطلاب حول الأميرة يعرفونها بأنفسهم ويعرضون عليها المساعدة للخروج بأمان بعيدا عن أعين الصحفيين الذين تجمهروا في الخارج في مسلسل “دفعة لندن” للمخرج المصري محمد بكير وإنتاج عام 2023.
المسلسل من إنتاج منصة شاهد للكاتبة الكويتية هبة مشاري، ويصور حياة طلاب عرب يعيشون في لندن لدراسة الطب من جنسيات عربية شتى وتنشب بينهم صراعات وخلافات مختلفة بسبب التباينات الطبقية والسياسية وأيضا بسبب الرواسب التاريخية. وقد أثار ضجة بعد بدء عرضه الشهر الماضي بسبب اتهامه بتصوير العراقيين في شكل غير لائق، وتدخلت على خط الجدل وزارة الإعلام الكويتية معلنة أنه لا يمت للكويت بصلة.
وبعيدا عن هذا الجدل الذي دفع أخبار المسلسل للواجهة عدة أسابيع، فإن المسلسل يعد نوعية من المسلسلات التلفزيونية تظهر على فترات متباعدة وتتناول حياة العرب في العاصمة البريطانية لندن، والتي تركز قصتها وحبكتها ومواقع تصويرها على حياة العرب هناك، وهي تختلف عن تلك التي تتناول قصصا من العالم العربي مطعمة ببعض المشاهد المصورة في العاصمة البريطانية.
قبل أكثر من 100 عام استفاد الشعر العربي من هجرة شعراء المشرق لأميركا الشمالية وتأسست حينها ظاهرة شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وأسسوا روابط شهيرة مثل الرابطة القلمية
واكب مسلسل “دفعة لندن” ظاهرة زيادة عدد الطلاب العرب في العاصمة لندن خاصة بعد استفادة عديد من الطلاب الخليجيين من برامج الابتعاث الحكومي خلال السنوات العشر الماضية، وإن كان زمن المسلسل يعود لمطلع الثمانينات. وربما يكون اختيار زمن في الماضي قبل 4 عقود لتجنب أية حساسيات متعلقة بالمتغيرات السياسية والاجتماعية الهائلة التي شهدها العالم العربي وشهدتها لندن أيضا خلال هذا العقد.
بدأ المسلسل بالمشهد المذكور أعلاه وهو مشهد سريالي كوميدي من ناحية الحبكة ومن ناحية التصوير في تقنية الخطاف hook التي يستخدمها المخرجون والمؤلفون، لإبهار المشاهد من البداية كي يجذبونه لمتابعة المسلسل. وهو وإن كان مغرقا في الخيال، فإنه يعبر عن حالة الولع العربي الشديد من المحيط إلى الخليج بالعائلة المالكة البريطانية وخاصة بالأميرة الراحلة ديانا، وهو إعجاب بدأ منذ ظهورها في الحياة العامة مطلع الثمانينات ولم ينته بوفاتها التي مضى عليها الآن أكثر من ربع قرن. وقد عبرت جمل الحوار بين الأميرة والطلاب العرب في شقتهم عن عبارات الإعجاب ذاتها التي لا يزال العرب من جنسيات مختلفة يرددونها حتى الآن عن الأميرة ديانا.
دراما المهجر العربي
ويعد هذا المسلسل من المسلسلات المعبرة عن دراما العرب في المهجر وتحديدا مدينة لندن التي أصبحت ما يشبه عاصمة غير رسمية للعرب في أوروبا يقصدها الطلاب والسياسيون والسائحون والصحفيون والأطباء وغيرهم من العرب. وهي مسلسلات تجذب شريحة واسعة من المشاهدين لكنها مكلفة من الناحية المادية وربما يفسر هذا الفترات الزمنية المتباعدة التي تظهر فيها. فمسلسل “عرب لندن” مثلا كان إنتاج 2008 للمخرج السوري البريطاني أنور القوادري وقد عرض تحليلا عميقا لمشاكل الهوية والتربية وأبناء الجيل الثاني من العرب في لندن.
وهي تجربة من المؤسف أنها لم تتكرر على مدار 15 سنة حتى إنتاج “دفعة لندن”. والأكثر أسفا أن الدراما والسينما العربية محرومة من إنتاج حديث لمخرجه الموهوب أنور القوادري الذي لا يزال يعيش في لندن، وهو غياب تسأل عنه شركات الإنتاج والمنصات والقنوات التلفزيونية.
كان مسلسل “نزار قباني” للمخرج السوري باسل الخطيب إنتاج عام 2005 أيضا أحد هذه المسلسلات أيضا. وقد تناول المسلسل السيرة الذاتية للشاعر السوري الراحل نزار قباني الذي يعد من عرب لندن. وقد خلط المؤلف والمخرج ببراعة بين الشرق والغرب من الناحية البصرية والحبكة والشخصيات وصورت كثير أو معظم مشاهده تقريبا في العاصمة البريطانية.
لم تستفد الدراما العربية كثيرا من موجات الهجرة العربية للخارج التي اجتاحت العالم العربي خلال السنوات الماضية لسببين، أولهما أن هجرة المبدعين كانت هجرة فردية وكثير من الأسماء الكبيرة في الإنتاج والإخراج لم تغادر العالم العربي. الأمر الذي وضع المبدع العربي في المهجر في أزمة بين قصص شيقة وتحولات ثقافية واجتماعية عميقة تجتاح المهاجرين العرب وتصلح أن تكون أعمالا درامية متميزة وبين غياب الإمكانيات لتحويل هذه الأفكار إلى واقع عملي ملموس.
وثانيا لأن تجربة الدراما العربية لا تزال متعلقة بعنصر الممول والإنتاج والمحكومة بالسوق التلفزيوني مما يجعل المبدع أسيرا لهذا المعادلة. والسوق التلفزيونية بشكل عام لا تعترف إحصائيا بكل من هو مقيم خارج العالم العربي جغرافيا، لأنه ليس ضمن الفئات المستهدفة بالإعلانات أو المستهدفة بالتأثير إن كان العامل التجاري غير موجود.
قبل أكثر من 100 عام استفاد الشعر العربي من هجرة شعراء المشرق لأميركا الشمالية، وتأسست حينها ظاهرة شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، وأسسوا روابط شهيرة مثل الرابطة القلمية، وقدموا تجربة إبداعية لا تزال مرجعا للشعر العربي الحديث. ولم تكن وسائل الاتصال حينها أو الإمكانيات تسمح بدوام التواصل مع العالم العربي أو عرض الإنتاج الشعري المباشر بشكل لحظي كما يحدث الآن عبر الإنترنت، لكن التجربة الإبداعية حققت نجاحا كبيرا وانتشرت.
تحتاج الدراما العربية أن تحقق ولو جزءا يسيرا من هذه الظاهرة مع ازدياد أعداد العرب في المهجر من مختلف الجنسيات العربية وتطور تقنيات البث والعرض.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.