جامع قرطبة، أقامه العرب في غضون 75 عاما من فتحهم الأندلس عام 711 م، أسَّسه بنو أمية على مراحل بين أواخر القرن الثامن وأوائل القرن العاشر الميلاديين، وظلَّ لقرون طويلة مركزا للعلم والمعرفة في العالم، وتخرّج منه ثلة من كبار علماء المسلمين.
عدّه المؤرخون واحدا من عيون الكنوز المعمارية العالمية وروائعها، واقترنت بدايات تأسيسه باسم مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، وعملت في توسعاته المتتالية 7 أجيال من المعماريين، خلال 245 عاما.
فاخرت به قرطبة مدن العالم، فهو من آثارها الباقية منذ ما يزيد على 13 قرنا من الزمان، حيث حافظ على طابعه المعماري، رغم التوسعات والتجديدات التي لحقت به قبل وبعد تحوّله إلى كاتدرائية مسيحية سنة 1236 م.
التسمية
ما زال يحمل اسمه القديم “المسجد الجامع” (“ميثكيتا” كما يسميه الإسبان)، رغم محاولات مسح اسمه وتاريخه وهويته الإسلامية.
كان يسمى في البداية “جامع الحضرة” أي جامع الخليفة باعتباره الجامع الرسمي للدولة، وكان الخليفة يختار إمامه ويوقع على مرسوم تعيينه، وأطلق عليه مؤرخ الدولة الموحدية عبد الواحد المراكشي اسم “الجامع الأعظم”.
من إجلال وتعظيم قدره عند أهل الأندلس، سمّوه “الجامع المبارك” و”الجامع المكرَّم”، إذ لم ينفق فيه درهم إلا من خمس المغنم، حسب روايات المؤرخين، وقيل “لا يصلي فيه أحد ويدعو بشيء من أمر الدنيا والآخرة إلا استجيب له”، وعند رحيل أحدهم عن قرطبة كان يزوره متبركا به، كما سمي “مسجد النارنج”، لأن أشجار الليمون كانت تحيط به من جميع الجهات.
الموقع
يقع مسجد قرطبة الكبير جنوبي غربي مدينة قرطبة (جنوبي إسبانيا) فوق بقعة صخرية على ضفة الوادي الكبير، أمامه على امتداد الواجهة الشرقية قصر الإمارة (القصر الأسقفي حاليا)، وخلفه تقع الناعورة العملاقة العتيقة بعشرات الأمتار فقط.
كان يحيط به حي المدينة العليا آنذاك (قرطبة القديمة أو القصبة كما كانت تسمى) وسط شبكة من الدروب الأندلسية القديمة، وبابه الرئيسي كان أهم أبواب قصور الإمارة، ويعرف حديثا بـ”باب الغفران”.
بين الجامع وقصر الخلافة تمتد قنطرة مغطاة تسمى الساباط، كان يعبر عليها الأمير أو الخليفة إلى المسجد، واليوم بينهما شارع يسمى ثوريخوس (كان يسمى المحجة الكبرى أو السكة العظمى)، وهو يؤدي إلى القنطرة العربية القديمة أو الجسر العتيق الذي يصل أطراف الجامع الأموي بقلعة في الجهة المقابلة.
المساحة والبناء
كان الجزء الأول من الجامع -الذي أنشأه أمير قرطبة الأموي عبد الرحمن بن معاوية الملقب بـ”الداخل”- بعيدا عن ضفة الوادي الكبير، ثم توسّع المبنى على مدى أكثر من مئتي عام، حتى وصل شفة النهر في عهد المستنصر الخليفة الأموي الثامن.
لم تزد مساحته أول تشييده عن 4875 مترا مربعا، لتصل في نهاية الأمر إلى 23 ألفا و400 متر مربع، تسعُ 80 ألف مصل، 50 ألفا في الداخل و30 ألفا في الصحن.
بني المسجد القرطبي على طراز المسجد الأموي بدمشق، غير أن الدكتور حسين مؤنس في كتابه “رحلة الأندلس”، ينقل عن محمد لبيب البتنوني تأكيده أنه بني على نظام المسجد النبوي على نحو ما بناه الوليد بن عبد الملك بالمدينة المنورة.
مكانته
اتخذ متخصصو البناء في المغرب والأندلس من عناصره المعمارية والزخرفية مثلا احتذوه في منشآتهم الدينية. بينما يُعدُّ الآن النموذج الأولي للعمارة الأندلسية، فهو أقدم من قصر الحمراء بأكثر من 460 عاما، ومن مدينة الزهراء بنحو 150 عاما.
كان المسجد مكان عبادة، ومركزا للعلم والإدارة، ومقرًّا للسلطة والحكم، ودارًا للعدل والقضاء، وفي حرمه كانت تتم مراسيم أخذ البيعة للخلفاء، ومن فوق منبره كان يعلن عن القوانين والمراسيم الجديدة والإعلام بالمناسبات الدينية، ويحتفل فيه للخروج في حملات الجهاد، كما كان الشعراء يلقون قصائدهم بالساحات الخارجية للمسجد.
كان عدد العاملين في جامع قرطبة والمتصرفين فيه، من أئمة وخطباء ومقرئين ومؤذنين وسدنة وموقدين وخدم، 300 شخص، يتقاضون على اختلاف منازلهم 800 دينار في الشهر، ومكافأة على رتبتهم وأشغالهم.
النشأة والتأسيس
في العام 785 م (169 هـ) أعطى مؤسـس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) الأمر ببناء أول مسجد جامع في البلاد، وكان آخر عمل في عهده.
تذكر بعض المراجع التاريخية أن الأمير الأموي اشترى أرضا -كانت كنيسة- بمئة ألف دينار ليضمها إلى الجامع، وأنفق عليه نحو 80 ألف دينار، قدّرها المؤرخ ابن عذارى بنحو 300 ألف دولار.
كان موقع إنشائه على بقعة صخرية قريبة من القنطرة العربية، ويتيح ذلك الاختيار من الناحية المعمارية ثبات الأرضية ووفرة المياه. وأشرف التابعي حنش الصنعاني -مهندس المساجد الأندلسية- على بنائه وتأسيسه، لا سيما تحديد وتعديل وتقويم قبلته وتوجيه محرابه، وابتكر عقوده المزدوجة، فبقي هذا النظام البنائي فاعلا في التوسعات الأندلسية المتتالية.
وكان يعمل في بناء الجزء الأول من المسجد القرطبي كل يوم ألف شخص من حذاق الصناعة، منهم 300 بناء و200 نجار و500 أجير، في حين عهد إلى صاحب الصلاة صعصعة بن سلام الشامي بزراعة صحنه بأشجار البرتقال عملا بمذهب الإمام الأوزاعي الذي أجاز ذلك، ثم أوصل الماء إليها عبر قناة مدها من سفح جبل العروس قرب قرطبة، وأمست تقليدا أندلسيا منذ ذلك الحين.
وتكوّن الشكل الأصلي للمسجد خلال هذه المرحلة من الفناء وقاعة الصلاة و11 رواقا -وفي رواية أخرى 9 أروقة-، وأرجأ الأمير الملقب بـ”صقر قريش” بناء الصومعة إلى ما بعد زخرفته، فاتخذ مؤقتا أحد أبراج القصر صومعة، وأدى فيه الصلاة عام 786 م (170 هـ)، لكنه توفي قبل تمامه.
خلفه ابنه هشام الأول المعروف بـ”الراضي” فأتم البناء عام 787 م، وأورد صاحب “البيان المغرب” تفاصيله، فقال: “ثم زاد ابنه هشام صومعة كان ارتفاعها 40 ذراعا إلى موضع الأذان، وبنى بآخر المسجد سقائف لصلاة النساء، وأمر ببناء المَيْضَأة بشرقي الجامع”.
التوسعة والتجديد
التوسعة الأولى
توالى أمراء وخلفاء بني أمية على توسعة الجامع وتجديده على 3 مراحل رئيسية، كانت الأولى حين دفع تطور قرطبة التدريجي الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) في مرحلة أولى عام 833 م (218 هـ) إلى إضافة رواقين على جانبي المصلى، و8 صفوف جديدة من الأعمدة (بلاطات).
وفي مرحلة ثانية، هدم جدار القبلة وشرع في زخرفة الجامع، وتوفي قبل تمام هذه الأعمال، فأكمله ابنه الأمير محمد بن عبد الرحمن عام 855 م (241 هـ)، وأضاف عام 864 م (250 هـ) مقصورة بجوار المحراب.
رمّم وجدد الأمير المنذر بن محمد زخارف المسجد وأصلح سقائفه، وأدخل عليه بيت المال، ثم أقام الأمير عبد الله بن محمد أول جسر مسمى الساباط، وهو ممر ذو طابقين يتصل بقصر الخلافة، وكان أول من اتخذ ذلك من أمراء بني أمية، وفقا لرواية ابن عذارى.
التوسعة الثانية
في عام 951 ﻡ (340 هـ) تمت زيادة ثانية في عهد الخليفة عبد الرحمن الثالث (الناصر)، وقد تطرق المقري إلى تفاصيلها بالقول “أمر الناصر بهدم الصومعة الأولى، وأقام الصومعة البديعة، فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدة من 43 يوما، ولما كملت ركب إليها من مدينة الزهراء، وصعد في الصومعة من أحد درجيها ونزل من الثاني، ثم خرج وصلى ركعتين في المقصورة وانصرف”.
وبلغ ما أنفقه الناصر -آخر الأمراء وأول من لقب بالخليفة من الأمويين- في المئذنة وتعديل الجامع 7 أمداد وكيلين ونصف الكيل من الدراهم القاسمية، وبلغ ارتفاع المئذنة 80 ذراعا، أي ضعف ما كانت عليه المئذنة الأولى.
التوسعة الثالثة
في عام 965 م (355 هـ) جرت توسعة ثالثة اتخذ فيها الجامع شكله النهائي، وكان ذلك في عهد الخليفة هشام بن الحكم بن الناصر (المستنصر)، الذي أشرف بنفسه على تقدير الزيادة وتفصيل بنائها، وعهد إلى حاجبه جعفر بن عبد الرحمن الصقلي بمتابعة أعمالها.
كانت التوسعة طولية لقاعة الصلاة نحو الجنوب، مع بناء 4 قباب ومحراب ثالث ومنبر خشبي من 9 درجات.
ويذكر المؤرخون أن المحراب أحكم عمله ونقشه في 7 سنين، وكان يعمل فيه 8 صنّاع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي، فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير 10 آلاف مثقال و50 مثقالا.
كما زاد المستنصر في طول أروقة المصلى نحو الجنوب بعد هدم جدار القبلة مرة ثانية وإعادة بنائه، وأمر بعمل الظلة (المقصورة) على صحن الجامع، وأقام رصيفا على امتداد الجامع ليكون متنزها لأهالي قرطبة أسماه “الرصيف المستنصري”.
افتتح المستنصر عهده بهذه التوسعات التي استمرت 4 سنوات، وأنفق فيها 261 ألفا و537 دينارا، وبها “كملت محاسن هذا الجامع وصار في حد يقصر الوصف عنه”، حيث يرى المؤرخون أنها تمثل قمة تاريخ العمارة في الغرب الإسلامي.
بعد الانتهاء من البناء، أوقف على الجامع ربع ثروته التي ورثها عن أبيه الناصر، ونقل مؤرخ الدولة الموحدية عبد الواحد المراكشي أن أبا مروان بن حيان حكى “أن الحكم لما زاد زيادته المشهورة، اجتنب الناس الصلاة فيه أياما، فبلغ ذلك الحاكم فسأل عن علته، فقيل إنهم يقولون ما ندري هذه الدراهم التي أنفقها في هذا البنيان من أين اكتسبها، فاستحضر الشهود والقاضي أبا الحكم المنذر بن سعيد القرطبي، واستقبل القبلة وحلف باليمين الشرعية التي جرت العادة بها أنه ما أنفق فيه درهما إلا من خمس المغنم، وحينئذ صلى الناس فيه لمّا علموا بيمينه”.
التوسعة الرابعة
أما التوسعة النهائية فكانت عام 987 م في عهد محمد بن أبي عامر (حاجب المستنصر)، المشهور باسم المنصور الحاجب، وكانت التوسعة الكبرى من حيث المساحة، حيث تولى أعمالها صاحب الشرطة في قرطبة المسمى عبد الله بن سعيد بن بكري، الذي أضاف 245 عمودا وعقدا، كما زاد في مساحة الصحن، وأنفق فيها 161 ألف دينار.
الميزات الفنية للجامع
كان الجامع القرطبي أكثر المساجد أهمية معمارية وزخرفية، فقد ضم في عناصره أصول الفن الأموي طوال قرنين ونصف القرن من الزمان، منها:
- امتاز الجامع بظاهرة معمارية مبتكرة، تتعلق بالعقود (الأقواس) المزدوجة المقامة على دورين، أحدهما فوق الآخر، لزيادة ارتفاع السقف حتى يصبح متناسبا مع مساحته، وهما على شكل حذوة حصان يعلوها نصف دائرة، وتشتمل على قناة عرضها 54 سم تستخدم لتصريف مياه المطر.
- امتاز بنيانه باللون الآجر الأحمر ولون الكتل الحجرية الأصفر، وتربيع الزخارف الهندسية بثنائية اللونين الأحمر والأبيض (الأبيض لون الأمويين)، وهو أسلوب بنائي تقليدي أصبح إحدى خصائص عمارة الأمويين القرطبيين، التي جعلت الكثير من تصميماتهم التزيينية متفردة.
- 4 قباب متسلسلة على بلاط المحراب، وهو ابتكار أصيل، شكّل اللبنة الأولى في فن بناء القباب في تاريخ العمارة الأندلسية، وكان تخطيط المحراب على شكل مثمن الأضلاع لم يتبع أصولا سابقة، تعلوه 7 نوافذ تعبيرا عن السماوات السبع، أما مصباحه فكان مصنوعا من الذهب الخالص.
- كان المنبر يتألف من 37 ألف قطعة عاج ومن الأخشاب المعطرة النادرة مثل خشب الأبنوس وعود الند والصندل، وكلها مطعّمة بالجواهر، مع مسامير تثبت المنبر من الفضة والذهب.
- مئذنة تبلغ حوالي 80 مترا، وقبة كانت قائمة على 365 عمودا من المرمر، وهي عبارة عن برج ضخم له شرفتان للأذان، يُصعد إليها بسلم داخلي لا يزال قائما.
- كان بالجامع ما يقارب 360 نافذة، قيل إنها بعدد أيام السنة، وإن الشمس تدخل كل يوم من إحدى هذه النوافذ ثم تنتقل للتي تليها ولا تعود إلا في العام التالي، بينما كانت الإنارة في الليل بـ4700 مصباح، تستنفد كل عام 24 ألف رطل من الزيت و120 رطل من العنبر والعود، وقيل إن المسجد كان به تنور من نحاس أصفر يتسع لألف مصباح.
- ضم حرم المسجد 11 جناحا عموديا على الجدار القبلي، ويعد ذلك إبداعا متفردا، على عكس المساجد الأخرى، والتي كانت متصلة فيما بينها وموازية لجدار القبلة، كما كان يحتوي على أعمدة قدّر عددها بين 1200 و1400 عمود، وأكثر من ألف سارية، و21 بابا جميعها ملبسة بالنحاس الأصفر، وبقي منها اليوم 12 بابا على بعضها نقوشها الأصلية.
- عدد من المقصورات، منها مقصورة دار الصدقة غربي الجامع، جعلها عبد الرحمن الداخل مركزا لتوزيع الصدقات، ومقصورة أخرى أمام الباب الغربي كان الفقراء وعابرو السبيل يقيمون فيها.
- فناء الجامع زرع بأشجار الليمون والنارنج، وهو شجر مُعمر دائم الخضرة ويعرف في بلاد الشام باسم “شجر أبو صفير”، ولا يزال المكان يضم العديد منها إلى اليوم، حتى صار يطلق على الفناء صحن النارنج، وقد أصبح ذلك تقليدا متّبعا في تخطيط صحون المساجد الأندلسية.
منارة للعلم والمعرفة
احتل المسجد الجامع مكانة علمية مرموقة منذ بداية نشأته حتى صار جامعة لكل العلوم، وتابع أمراء الأندلس انطلاقة الجامع الثقافية حتى وصل إلى أوج تألقه الحضاري والثقافي في عهد الناصر وابنه المستنصر.
كانت به 27 مدرسة، تتبع نظام الزوايا العلمية، منها زاوية الشيخ أبي بكر بن معاوية القرشي في علوم الحديث، وزاوية أبي علي القالي الذي كان يقدم دروسا عن العرب قبل الإسلام وعن لغتهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يدرّس النحو.
كان الجامع أشبه بجامعة عصرية، تقدم العلوم الدينية والعلوم الطبيعية، فسمي دار العلوم ومجمع العلماء وكعبة المعرفة. وكان طلاب العلم يفدون بالآلاف من جميع أنحاء أوروبا وآسيا وأفريقيا، حتى وصل عددهم لأكثر من 4 آلاف طالب، وفّرت لهم الخدمات المختلفة كالإقامة والطعام، وصرفت لهم ولشيوخهم الرواتب.
ومن رحابها تخرّج كوكبة من العلماء أمثال رائد علم الطيران عباس بن فرناس، والمؤرخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي، والطبيب الجراح أبو القاسم الهراوي، والفقيه والوزير ابن حزم القرطبي، وشيخ الإسلام ابن عبد البر، والجغرافي الشريف الإدريسي وغيرهم، وكان البابا سلفستر الثاني عندما كان راهبا أشهر المسيحيين الذي تعلموا بها.
لذلك، كانت جامعة قرطبة النموذج الذي أقام الغربيون على أساسه جامعاتهم، كجامعة إكسفورد وكابردج وبادو وباريس. وحافظوا على تقاليدها بارتداء طلابهم زي التخرج الجامعي الأسود اللون وغطاء الرأس مربع الشكل، الذي كان يهدى لخريجي الجامعة عند حصولهم على درجة الأستاذية أو العالمية.
وقد كانت منصة العلم تعلوها لوحة رخامية تحمل الآية الكريمة “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”، وجدت منقوشة على إحدى شهادات التخرج التي كانت تصدرها جامعة قرطبة، وترجع إلى عام 890 م، ويحتفظ بها الآن في متحف إحدى الجامعات البريطانية.
كما كان الجامع يحتوي على مكتبة ضخمة تضم نحو 40 ألف مخطوطة وكتاب في مختلف الفنون والعلوم والآداب، انتقل الكثير منها إلى الجامعات الأوروبية ومتاحفها بعد خروج العرب من الأندلس.
أحداث مرت بالجامع
عام 400 هـ: تعرض للنهب عقب الصراع الذي دار بين أمراء أندلسيين.
عام 1326 م: تعرض للتخريب في حادث اجتياح قساوسة قرطبة، ومُنع المُسلمون من دخول المسجد.
عام 1523 م: هدمت أسقفية قرطبة جزءا كبيرا من توسعة عبد الرحمن الأوسط، وبنت كاتدرائية. وقيل إن الإمبراطور الروماني شارلز الخامس حين رآها بعدما أذن بالهدم قال “لو كنت أعلم ما تهدفون إليه لما سمحت بذلك، إن ما تفعلونه هنا يمكن العثور عليه في أي مكان، بينما ما كنتم تمتلكونه سابقا لا يوجد في أي مكان آخر في العالم”.
تعرضت منارة الجامع للتبديل في سنتي 1593 م و1664 م، وأزيلت القبة ومعها 163عمودا، كما أزيلت بعض سقفه؛ ونهب الفرنسيون في غارة نابليون الأول على إسبانيا 400 مصباح من الفضة الخالصة.
عام 1560: أصدر عمدة المدينة قرارا بإعدام كل من يشارك في هدم أعمدة الجامع، والذي دعا إليه الأسقف لإقامة كنيسة جامعة في منتصفها.
عام 1589: تعرض لزلزال أحدث شقا في جزء من الصومعة، فأنشئ بين عامي 1593 و1653 مبنى جديد حول المبنى الأصلي للجامع تقوية له.
عام 1932: زاره الشاعر الباكستاني محمد إقبال، وأذن له بالصلاة فيه، فكان أول مسلم يصلي في مسجد قرطبة بعد 6 قرون من تحوّله لكنيسة.
عام 1984: أدرج المسجد ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
عام 2006: أعلنت أسقفية قرطبة ملكيتها لمبنى الجامع القرطبي، ثم أزيل اسمه من المواقع الإلكترونية والنشرات والدليل السياحي.
عام 2007: تصدر قائمة كنوز إسبانيا الـ12.
عام 2014: صنفته اليونسكو إرثا ذا قيمة عالمية استثنائية.
عام 2015: أطلقت فرقة “مدينة الزهراء” الإسبانية أغنية على إيقاع الروك تحمل اسم “قرطبة هي الجامع” دفاعا عن مسجد قرطبة التاريخي، وقد أديت في ثمانينيات القرن الماضي بعنوان “أتنزه في المسجد”.
عام 2018: أكد تقرير لجنة خبراء تضم منظمة اليونسكو أن مسجد قرطبة التاريخي “لم يكن يوما ملكا للكنيسة الكاثوليكية”، بل يعدّ أحد أبرز المعالم الإسلامية في الأندلس.
عام 2021: نشر الباحث التاريخي خيسوس باديبا بحثا بعنوان “ملكيّة مسجد-كاتدرائية قرطبة”، كشف فيه أن الملكيّة التي تدعيها الكنيسة مبنية على أخطاء، لا سيما تلك الموجودة في المخطوطات القديمة، التي تذكر المسجد على مدى 600 عام.
عام 2023: اعترفت الحكومة الإسبانية رسميا بتبعية المبنى التاريخي للجامع، لتحسم الجدل الطويل بين المؤرخين والنشطاء والكنيسة.
في 28 فبراير/شباط 2023: كشفت صحيفة “التايمز” (The Times) البريطانية خططا لإنشاء مركز للزوّار تتضمن أهدافا للترويج لمزاعم تقول إن أصول المسجد مسيحية.
قالوا عن الجامع
قال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون “لا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة، مع ما أحدثه الإسبان فيه من التلف والفساد، ومع تلك الكنيسة الواسعة التي أقاموها فيه لتطهيره، ومما صنعه الإسبان أن كلسوا زخارف جداره وكتاباته، ونزعوا منه فسيفساء أرضه، وباعوا تحف سقفه الخشبية المحفورة المزوّقة، فيجب على من يرغب في تمثل ما كان عليه جامع قرطبة أن ينظر إلى محرابه الذي تفلت وحده من التخريب”.
وكتب أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي عبد الرحمن حجي “مسجدها الجامع هذا الذي لم يكن في بلاد الإسلام مثله، وأنت تزوره لولا أنه أمامك محتفظا شامخا ببعض شأنه، متماسكا ببقية من فنه، يلثم معماره شيئا من جماله، لا تكاد تصدق وجود هذا الفن المتفرد النادر أو العديم المثال، وهو يعلن عن ذلك ويناديك سلطانا وإيمانا وحنانا.. وهو كذلك حتى هذه اللحظة، وقد احتمل مواجع التشويه والتحريف والتصريف، فكيف وقد مضى على بنائه ما يعانق 13 قرنا، تزوره مذهولا مرة، ومأخوذا أخرى ومحزونا بعدها.. وقد تفنن فيه الواصفون، مؤرخين وجغرافيين وزائرين وشعراء وأدباء وعلماء، أقولا وأنغاما وأشجانا”.
وذكر المؤرخ الأميركي جوزيف ماك كيب “لم يبق من آثار قرطبة في القرون الوسطى إلا أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال إلى اليوم، جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجدا، ولولاه ما تجشم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة، ولو كانت 5 أميال منه، ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليه ليشاهدوه”.
وقال الشاعر القرطبي أنطونيو غالا “لو كان علي أن أحدد النصب الأثري من بين المتواضع والرائع الذي أثر فيَّ أكثر، لاخترت ودون تردد مسجد قرطبة، فلو أن حياتي لم تتفتح وتزهر في قرطبة، أو لو أن قرطبة لم تحتفظ بمسجدها لاختلفت حياتي كثيرا”.
وأفاد المستشرق الهولندي دوزي “أما جامعة جامع قرطبة فقد كانت يومئذ أشهر جامعات العالم، وتم فيها تدريس العلوم المختلفة، الدينية والطبيعية”.
وقال المفكر الفرنسي روجيه غارودي “إن مسجد قرطبة يحمل في صرحه الرسالة الكونية للإسلام الأندلسي، ففي غابة أعمدته يلتقي الزائر بالأبدية”.
وذكر المؤرخ طه الولي “درة المساجد وتاج المعابد وذروة الفن من طارف وتالد”.
كتب الشاعر والناقد الأدبي أدونيس، وفي زيارة سابقة، “كنت قد زرْت أكثر من مرّة الجامعَ “الأعجوبة الهندسيّة الفنيّة” جامع قرطبة. وتوقّفت، بخاصّة، عند عبقريّة اليد، مقرونة بعبقريّة المخيِّلة، كأنّ الجامع، في هذا المنظور، سماء على الأرض. ولهذه السّماء أبراج، ولها أقواس وأعمدة. هكذا يبدو كمثل كوكب من الأجنحة. ويبدو ما أُدخِلَ عليهِ من “أشكال” باسم الكنيسة، كأنّه حشد أقفاص وأغلال. إنّها أشكال (إضافات) في غير مكانها، جسدا وروحا”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.