بعد توقف دام 4 سنوات، يعود مسلسل الخيال العلمي “المرآة السوداء (Black mirror)”، الحائز على 6 جوائز إيمي برايم تايم، إلى متابعيه في موسم سادس جديد، عبر منصة البث التلفزيوني نتفليكس. وقد أتى الموسم السادس -المكوّن من 5 حلقات- مختلفا بعض الشيء عن المواسم السابقة، وجاءت أغلب حلقاته بعيدة عن طرح المخاوف من عالم مستقبلي، تسيطر فيه التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي على جنس البشر، كشأن المواسم السابقة.
على النقيض تماما، تدور اثنتان من حلقات الموسم الجديد حول أحداث في القرن الماضي، إلا أنه ورغم ذلك لا يزال محافظا على الطابع العام للسلسلة، حيث الرؤية السوداوية والتجسيد القاسي لأطماع البشر ونزوعهم إلى الأنانية في أسوأ صورة، كذلك تأطير عزلة الإنسان وهشاشته في عالم يقوم على المادية، مع حضور روح الدعابة القاسية التي يتميز بها المسلسل.
كان الظهور الأول لسلسلة “بلاك ميرور” على القناة الرابعة البريطانية في عام 2011، وتلاه الموسم الثاني في عام 2013. وعلى الرغم من النجاح الذي رافق السلسلة منذ البداية، رفضت الشركة المنتجة إنتاج المزيد من المواسم بعد هذين الموسمين، نتيجة التكلفة الباهظة لإنتاج حلقات منفصلة، يتغير خلالها الأبطال والملابس ومواقع التصوير في كل حلقة، لينتقل إنتاج السلسلة إلى شبكة نتفليكس بدءا من الموسم الثالث في 2016، والتي استغلت نجاح السلسلة في إنتاج فيلم تفاعلي بعنوان: “باندرسناتش (Bandersnatch black mirror)” في عام 2018، حيث يستطيع المشاهد أن يختار مسار القصة من بين عدة مسارات، ويستكشف في كل مرة نتائج اختياره، وهو النمط الذي استُخدم من قبل في ألعاب الفيديو.
تأثير رود سيرلينج
الرؤية التي انطلقت منها سلسلة “بلاك ميرور” أوضحها مبتكر السلسلة والمشرف العام على كتابة الحلقات “تشارلي بروكر” في عام 2011 إبان عرض الموسم الأول، إذ استلهمها، بشكل غير مباشر، من مسلسل “The Twilight Zone” لرود سيرلينج، الذي ناقش قضايا معاصرة خلال خمسينيات القرن الماضي، مثل مسألة العنصرية، لكنه طرح تلك القضايا عبر أماكن وأحداث خيالية للالتفاف حول مراقبي التلفزيون في ذلك الوقت. وبالمثل، فإن “بروكر” يعلق على قضايا حديثة، مع التركيز بشكل خاص على مشكلات التكنولوجيا، فيما يساعده القالب الخيالي في تقديم طابع سوداوي وتسليط الضوء على الأماكن المعتمة في نفوس البشر.
في هذا الصدد، يقول بروكر: “لقد سئم [رود] خضوع عروضه للرقابة بشكل روتيني من أجل إرضاء الشركات الراعية، وأدرك أنه إن كتب عن العنصرية في بلدة جنوبية، فإن عليه محاربة الشبكة التلفزيونية من أجل كل سطر يكتبه، لكن إن كتب عن العنصرية في عالم مجازي وشبه خيالي، فإن في إمكانه أن يقول ما يريد”.
نتفليكس تسخر من نتفليكس
“في العنوان إحالة إلى كل شاشة تلفزيون باردة وإلى كل شاشة هاتف ذكي، موجودة فوق كل جدار أو على أي مكتب أو في راحة كل يد”
تشارلي بروكر متحدثا عن عنوان سلسلة “بلاك ميرور”
يطرح بروكر مساوئ التكنولوجيا ويدق ناقوس الخطر، يحتج على رضوخ العالم للتأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي، ويشير إلى مستقبل مظلم تضمر فيه العاطفة والروح الإنسانية أمام شاشات سوداء باردة باتت تتحكم في حياتنا وتملي علينا الأوامر، لكن يبدو أن الخوف من تسلّط تلك الشاشات، خاصة بعد العزلة التي ضربت العالم أثناء جائحة كورونا، لم يعد كما السابق، لقد تغير العالم خلال 12 عاما منذ بدء حلقات بلاك ميرور، والسلسلة حادت عن رؤيتها الأصلية خلال الموسم الحالي، إلى درجة ربما تدفع المشاهد ليتساءل: أين المرآة السوداء؟!
بالتأكيد كان هذا التغير في مجرى السلسلة جراء قرار واعٍ من جانب بروكر، الذي علّق في وقت سابق قائلا إن “بلاك ميرور” لا بد أن “تستمر في مفاجأة الناس ومفاجأتي أنا أيضا”. والملاحظ أن عدد الحلقات التي تناقش الأثر السلبي للشاشات قد تراجع بالفعل، وصار حلقة واحدة في الموسم الحالي، وهي الحلقة الافتتاحية المغلفة بطابع كوميدي ساخر، والتي تحكي عن منصة بث تلفزيوني تُدعى “ستريمبري”، تشبه “نتفلكيس” إلى حد كبير من حيث الشعار وكيفية عرض المحتوى داخل المنصة. و”ستريمبري” شبكة تتلصص على حياة مشاهديها وتعيد تقديمها بصورة محرَّفة، عبر ممثلين رقميين، تم تصميم أدائهم وانفعالاتهم بواسطى برامج الذكاء الاصطناعي.
Watch yourself. pic.twitter.com/kqrjI3kwu0
— Black Mirror (@blackmirror) June 5, 2023
تدور حبكة الحلقة حول يوم عادي في حياة “جون”، التي تؤدي دورها الممثلة الكندية “أني ميرفي”، لكن بحلول الليل ومع عودة “جون” إلى منزلها، تتفاجأ أن حياتها وتفاصيل يومها تُذاع عبر شبكة البث “ستريمبري”، في مسلسل من بطولة صورة رقمية للنجمة “سلمى حايك”، ولا تكتفي الشبكة بسرد وقائع اليوم كما جرت فقط، بل ثمة لمسة إضافية تجعل من “جون” شخصية بشعة.
تنقلب حياة “جون” رأسا على عقب، تخسر وظيفتها ويهجرها حبيبها بعدما يرى خيانتها معروضة على الشاشة. وتحاول أن توقف العرض، لكن يتبين لها أن موقف الشبكة سليم قانونيّا، حيث إن أحد البنود التي وقّعت عليها وقت الاشتراك يتيح للشبكة استغلال حياة مشاهديها وإعادة تقديمها في أعمال درامية.
رعب التحوّل إلى محتوى
تطرح الحلقة تساؤلات تتعلق بتسليع واختراق خصوصية الأفراد، وهو ما تقوم به التكنولوجيا الحاليّة، وعلى الأخص وسائل التواصل الاجتماعي التي تتغذى على حياة البشر وأسرارهم، كذلك تسخر من خدعة الاتفاقيات الطويلة الموجودة في مواقع التواصل وشبكات البثّ ونُظم التشغيل، والتي يضغط المرء بالموافقة عليها دون قراءة البنود كافة، وكأنه يضغط فوق زر قنبلة موقوتة!
ثمة رعب تصوره الحلقة بشكل مقصود في تحول حياة المرء إلى محتوى معروض من أجل تسلية الناس، خلال الأحداث تعلّق المسؤولة عن الحاسوب الذي يقوم بتحويل حياة الناس إلى قصص بأن تصوير البشر بشكل كريه أو بشع يجتذب فضول المشاهدين ويحقق نسب مشاهدات أعلى، مقارنة بتقديم هؤلاء الأشخاص بشكل طبيعي أو مثالي.
الفكرة ذاتها تحضر في الحلقة الثانية من الموسم، والتي جاءت بعنوان “لوخ هنري (Loch Henry)”، ولن يخفى على المشاهد الرابط بين عنوان الحلقة وبين أسطورة وحش بحيرة “لوخ نس”. خلال الأحداث يسافر الشابان “بيا” و”ديفز” إلى مسقط رأس الأخير، وهي بلدة إسكتلندية ريفية، بغرض صناعة فيلم وثائقي عن الطبيعة، لكنهما يصطدمان بقصة من الماضي، عن جريمة تسببت في إزاحة البلدة عن الخريطة السياحية، ويقرران عوضا عن ذلك صناعة فيلم عن تلك الجريمة، وبمُضيّ الأحداث يكتشف الشابان أسرارا مخيفة، لكن تلك الاكتشافات ترتبط بمصير مأساوي لـ”بيا” ولعائلة “ديفز”.
هكذا يتحوّل ديفز، الذي أراد إخراج فيلم، من صانع محتوى إلى المحتوى ذاته، وبالإمكان أن تستثمر الشركة المنتجة مأساته في اجتذاب مشاهدات أعلى وحصد الجوائز، كأن بروكر يسخر من الأفلام التي تصرخ بالقضايا مباشرة وفي سطحية لاجتذاب الجوائز دون اعتبار لمستوى الفن، وهي الصيحة التي اعتدناها كل عام مع حلول موسم الأوسكار.
يظهر ذلك بوضوح في المشهد الختامي في الحلقة، الذي يصوّر “ديفز” الفنان الغارق في أحزانه، فيما تقبع جواره جائزة الـ”بافتا (BAFTA)” التي نالها على الفيلم الذي صنعه (في دلالة أخرى قد تكون مقصودة وماكرة). يجبرنا ذلك على التمييز بين نوعين من الفن، أحدهما لفنان يأخذ من أحزانه الخاصة ويبني من خلالها مشاعر شخصياته التي يتخفّى وراءها، بينما الآخر لفنان تسوقه ضغوط السوق كي يستثمر فجيعته وتفاصيل حياته علانية بلا مواربات، مثل متسوّل يسرد مآسيه أمام كل عابر سبيل كي ينال صدقة.
تفضّل واجلس على مقعد مماثل
تشترك الحلقتان الأولى والثانية من المسلسل إذن في فكرة التحوّل إلى محتوى واستباحة الخصوصية، بينما الحلقتان الأخيرتان، الرابعة “Mazey Day” والخامسة “Demon 79″، هما قصتان عن الرعب الشيطاني وحضور قوى خارقة للطبيعة.
وربما تعدّ الحلقة الرابعة الأضعف فنيا في الموسم، وهي الحلقة الأقل تقييما على موقع “IMDB”، وتناقش “ميزي داي” ظاهرة الباباراتزي أو مطاردي النجوم، من خلال قصة المصورة الصحفية “بو”، التي تطارد الممثلة المختفية “ميزي داي” لالتقاط صورة تساوي 30 ألف دولار، فيما يتكشّف السبب وراء اختفاء الممثلة وهروبها بعيدا عن المجتمع، فهي تتحول في الليل ومع اكتمال القمر إلى مستذئبة متوحشة. الأفكار التي تطرحها الحلقة تأتي بشكل مباشر أحادي البُعد، على غرار الأذى الذي تسببه مطاردات الصحفيين للنجوم، أو ما يعانيه المشاهير من عزلة تجعلهم مثل المستذئبين، وهي عموما لا تماثل تشابك الأفكار أو عمقها المعتادين في السلسلة.
أما الحلقة الثالثة، وهي الأطول زمنا في العمل (80 دقيقة)، فقد أتت تحت عنوان “ما وراء البحر (Beyond the Sea)”، وهي الحلقة الحائزة على التقييم الأعلى بين حلقات الموسم، متساوية في ذلك مع الحلقة الافتتاحية. وتدور حول رائدَي الفضاء “كليف” و”ديفيد”، اللذين يعيشان في واقع بديل عام 1969، وبينما يسافران في مهمة استكشاف فضائية تستغرق نحو 6 أعوام، توجد نسخة أرضية لكل منهما، يستطيع من خلالها أن يتواصل مع عائلته والعيش على الأرض بصورة طبيعية، دون أن يشعر بالعزلة التي يفرضها السفر الطويل في مكوك الفضاء.
تتأزم الأمور حين تهاجم مجموعة من الهيبيين منزل ديفيد، تُحرق نسخته الأرضية بعد أن يُذبح أفراد عائلته، يفقد ديفيد عائلته كما يفقد ميزة الاتصال بالأرض، ويواجه عزلة قاسية في الفضاء تزيد من معاناته ومن خسائره. وفي سبيل التخفيف عنه، يقترح زميله “كليف” أن يعيره نسخته الأرضية لعدة ساعات أسبوعيّا، يوافق ديفيد، بينما لا يطرأ على عقل كليف أنه بهذا يفتح باب الضغينة والحسد، بعد أن يلقى ديفيد عائلة كليف في الأرض، ويقارن سعادة تلك الأسرة بمأساته الحالية.
بالتأكيد تستدعي تلك القصة حادثة هابيل وقابيل، أول حاسد وقاتل من جنس البشر، خاصة حين تدفع مشاعر الحسد ديفيد إلى انتقام أسوأ من انتقام قابيل، وكأن سنوات الحضارة علمت الإنسان أن الوحدة جحيم، وأسوأ كثيرا من موت فوري.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.