القاهرة – موت، وفقد، ونزوح، ولجوء إلى دول الجوار أيضا؛ أشكال من معاناة الشعب السوداني جراء الحرب؛ غيرت الكثير.
البحث عن مكان آمن ساق بعض المثقفين إلى خارج البلاد، وكانت مصر الوجهة الأبرز للسودانيين محتضنة أعدادا كبيرة من أهل الفن والأدب والفاعلين الثقافيين، إضافة لمن كان مقيما بها قبل اندلاع الحرب في الخرطوم مثلما أقامت رموز كبيرة للثقافة السودانية من قبل.
التفاتات واعية
اهتمت وسائل الإعلام المصرية بما يدور في الجارة الجنوبية، وسيطرت الحرب وأخبارها على ما يُقدَّم، لكنها لم تقتصر عليها، بل تعددت أشكال الاهتمام لكل ما هو سوداني، وكانت الثقافة السودانية حاضرة في لقاءات فضائية وأخرى إذاعية، كما اهتم الإعلام المكتوب بذلك؛ فخصصت جريدة “أخبار الأدب” في عددها الصادر منتصف مايو/أيار ملفا أعده شعبان يوسف حمل اسم “سودانيون في مصر، ومصريون في السودان” وصفته المجلة بـ”محاولة لكسر حاجز الصمت حول تجربة أدبية عميقة وشاملة”.
في حين تمدد ملف كبير عن السودان في عدد يونيو/حزيران من مجلة “الثقافة الجديدة” أشرف عليه الشاعر والكاتب محمد المتيم الذي استكتب أقلاما سودانية، مع مقال له ومقال آخر للدكتور علاء جانب، وفي مقدمة الملف كتب المتيم “هذا الملف كُتب بأقلام سودانية، أغلبها تحت القصف، وفى ظرف شديد القسوة ترتجف معه الأقلام على السطور، وتبلغ فيه القلوب الحناجر. تتمثل أكبر العقبات التي واجهتني عند وضع خطة هذا الملف في استشعار الخجل من توجيه الدعوة للكتابة إلى شخص يحزم حقائبه للهروب من الجحيم”.
وأشركت المجلة في هذا الملف نخبة معتبرة ومتنوعة من شعراء وروائيين ونقاد وصحفيين سودانيين، نساء ورجالا، منهم من هو داخل السودان، ومن هو خارجه، ليقدم الملف صورة شاملة ودقيقة عن راهن الأدب السوداني وتاريخه ورموزه وعلاقته بنظيره المصري.
واستمر الاهتمام بالثقافة والفنون السودانية في الصحافة المصرية، فأعدت مجلة “جمعية نقاد السينما المصريين” ملفا خاصا للسينما السودانية تنوعت موضوعات مقالاته وخصص رئيس التحرير مقاله عن السينما السودانية والملف المخصص، خاتما حديثه عن جيل الشباب من صناع السينما السودانيين بقوله “إننا نقدم هذا العدد من مجلة جمعية نقاد السينما المصريين؛ تحية لهم ولوطنهم الغالي علينا جميعا”.
ضغوط الواقع
ضغوط كثيرة يعانيها السودانيون بسبب ما يدور في بلادهم؛ وهي أشد وقعا على أهل الثقافة؛ فهم مطالبون بالتكيف مع الواقع الجديد شأن الجميع وهم متنازعون بين العمل والعودة للإنتاج الثقافي عند من يرى حتمية ذلك، وبين من يرى أن الظرف غير مناسب لهذه الفنون والآداب.
أحد الأدباء السودانيين ممن ألجأته الحرب للقاهرة يرفض المشاركة في أي عمل، ويرفض حتى إيراد اسمه في هذا التقرير، إذ يرى أن الجو لا يسمح وأن الحزن والإحباط يسيطران عليه، وأنه غير مستعد نفسيا.
عوض الله بشير؛ موسيقي سوداني معروف وعضو مؤسس في إحدى أشهر الفرق الغنائية في السودان (عقد الجلاد)، لجأ للقاهرة فيمن لجأ، وتحدث للجزيرة نت عن هذا التنازع وعما يحس به المثقفون والفنانون بعد اللجوء وترك للبلاد وأنه ما من أحد كان مهيأ لذلك، لذا يجد بشير تبريرا لما يعتري المثقفين والفنانين الذين هم -وفق وصفه- “من أرهف الناس إحساسا وأكثرهم تأذيا بالحرب، فقد سخروا حياتهم وأعمالهم الفنية لحب البلاد وحسن الخلق والتحلي بالقيم السودانية”.
لكن بشير يرى ضرورة العمل الثقافي، وعدم الركون للإحباط. وهذا ما وضح في الحراك الثقافي والمساعي المتنوعة التي يقوم بها عدد من مبدعي السودان بالقاهرة والذين استطاعوا إخراج كثير من زملائهم من خانة الإحباط للفعل. يقول بشير “عانينا في لقاء الفنانين والحديث معهم، وجمْعهم في أفكار، وفي النهاية هزمنا اليأس وأسر البيوت والجدران الأربعة، واتجهنا نحو صناعة مشاريع ونشاطات فنية وثقافية”.
النهوض مرة أخرى
من جانبه، يمثل علي الزين نموذجا لمقاومة الحرب وآثارها، بخلاف من استكان للإحباط والضغط النفسي؛ فالموسيقي السوداني أسس عام 1997 مركزا ثقافيا في السودان لتعليم الموسيقى وأساسيات فنون إبداعية أخرى.
وانطلق المركز بشكل يمكن وصفه بالمستتر؛ إذ لا لافتة تدل عليه، ولا يشي به شيء. واستمر كذلك إلى أن تم تسجيله بشكل رسمي 2010، وسرعان ما أغلق بواسطة الأجهزة الأمنية لسنوات ثم أعيد افتتاحه 2015. ثم ها هو يفقد مركزه جراء الحرب في جملة ما فقد. سألنا علي الزين عن مركزه الكائن بمدينة الخرطوم بحري وما أصابه.
وكان رد الزين أنه فقد كل ما بالمركز من مؤلفات ورقية، وسمعية، ومناهج لتدريس جميع الآلات الموسيقية، على تنوعها، وقبل ذلك الآلات نفسها وتجهيزات المركز. لكن ذلك لم يهزم علي الزين، فأعاد افتتاح مركزه في القاهرة التي لجأ إليها من نار الحرب، يُعلم الشباب السوداني والمصري أساسيات الموسيقا والرسم وفنون المسرح، متحليا بروح المقاومة التي أعانته على النهوض رغم ثقل الفقد.
يقول الزين في إفادته للجزيرة نت “المبدعون وأهل الثقافة يرون النصف الممتلئ من الكوب، ولا بد من جانب إيجابي”.
ويضيف الزين” الأشياء تحدث قدرا لا صدفة، والإيمان بالله وقضائه وقدره والتعامل بواقعية معها هو ما يجعل الشخص متوكلا ومسؤولا عن ردات أفعاله، ولا بد أن تستمر المسيرة”.
وقد شكلت إعادة افتتاح مركز علي الزين وبداية التسجيل للدورات المتخصصة نموذجا إيجابيا، وحافزا لأهل الفن والثقافة من السودانيين الذين وفدوا إلى مصر على ضرورة الإنتاج الثقافي، ومقاومة الحرب بأدواتهم الفنية والثقافية.
البحث عن مظلة
ومع كثرة المبدعين الذين وفدوا إلى مصر، بدأ التفكير في مظلة تجمع شتاتهم، وتشكل جسما رسميا ينتمون إليه ويحظى باكتمال الإجراءات الرسمية في مصر، لتتبلور فكرة لجمعية واسعة الطيف؛ فكانت الجمعية السودانية للثقافة والفنون. وتم اختيار المخرج عادل حربي رئيسا فخريا لها، ومحمد السماني رئيسا، في حين اختير عوض الله بشير مساعدا للرئيس.
بشير تحدث للجزيرة نت عن ضرورة العمل الثقافي فقال “جذوة الفن في صدور الفنانين لا تنطفئ، وإنما تزيدها الأزمات اتقادا، فالفن مهموم بخدمة الإنسانية والمجتمع، لذا كان الحرص على الإنتاج ضد كل ما يهددهما”.
ووفق إفادات بشير فإنه بعد استقرار الرأي على تكوين الجمعية بدأت عمليات حصر المبدعين والفاعلين الثقافيين الذين وفدوا للقاهرة وتجاوز عددهم عند كتابة التقرير 200 فاعل ثقافي ومبدع، على اختلاف أنواع الإبداع. وأشار بشير إلى أنهم في مسعى مستمر للوصول إلى كل من وفد إلى القاهرة، وتحدث عن الدور الكبير الذي قام به السودانيون المقيمون بالقاهرة من أهل الإبداع بإنارة الدرب لهم، وفتح قنوات تواصل مع الهيئات والنقابات والأجسام الفنية في مصر والجهات الرسمية؛ ما سهل كثيرا من الإجراءات.
كما أن الجمعية على تواصل مع المبدعين السودانيين في الداخل السوداني وفي كل مكان ويتلقون اتصالات من مَهاجر شتى، وفق قول بشير. مع تنسيق عال مع المؤسسات والمنظمات التي تعمل على إزالة آثار الحرب وتخفيفها.
تعاون كبير وروح عالية
مكاسب كثيرة متوقعة التحقيق للمنتمين للجمعية السودانية للثقافة والفنون بمصر؛ أولها ممارسة أنشطة ثقافية جماهيرية في مصر، إذ من المفترض أن تعمل تحت مظلة اتحاد الفنانين العرب الذي أبدى تعاونا كبيرا وفق الإفادة المتصلة لعوض الله بشير الذي أثنى على ما وجدوه في مصر، وقال “المجتمع المصري رحب بنا شعبيا، وعلى المستوى الرسمي وفي النقابات الفنية ولقد لمسنا ذلك في لقاءاتنا معهم؛ إذ وجدنا ترحيبا ومساعدات ووعودا بمساعدات لوجستية.
كما عبَّر عن تطلعهم لقيام ورش عمل مشتركة ودور عرض للتشكيليين والمساعدة في التصديقات للقاء الجالية السودانية في المحافظات.
وفي انتظار الحصول التصديق النهائي والذي يتيح لأعضاء الجمعية التمتع بمزايا متعددة؛ ينتظم أعضاء الجمعية في لقاءات واجتماعات، وتتواصل البروفات التحضيرية لأعمال يتوقع عرضها في حفل استهلال الجمعية التي اتصفت بروح الجماعية والمحبة، ورغم الظروف التي يمر بها الموسيقيون؛ فإنهم يتحملون تكاليف ونفقات هذه التحضيرات بسعادة واضحة في وجوههم رغم الجراح التي اشتملت عليها القلوب؛ سعادة كان البحث عنها أول هموم الجمعية.
يقول مساعد رئيس الجمعية “أول الهموم كان إخراجهم من أجواء الإحباط وأصوات القنابل وهو أمر لا يمكن نسيانه، ولكننا نحاول التخفيف، وهذا ما سنحاول فعله للسودانيين المقيمين في القاهرة عن طريق أدوات فنية”. وتسعى الجمعية كذلك للمساهمة في علاج بعض الحالات لمنسوبيها الذين اجتمع فيهم اللجوء والمرض.
أمل العودة
تلك كانت مساعي جماعية وأخرى فردية للمثقفين السودانيين بالقاهرة للعودة للعمل الثقافي، وهو ما انتظم فيه المثقفون داخل السودان وفي مهاجر أخرى، لكن الأمل الأكبر الذي يعتمر في قلوبهم؛ هو عودة الأمن للديار وتنفس هواء الوطن.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.