ببصيرة أدبية، وحس فكاهة قل نظيره، ووعي سياسي بدأ بالتكون منذ مراحل العمر الأولى، تمكّن أستاذ الصحافة والكاتب والروائي السوري الدكتور ممدوح حمادة (مواليد 1959، هضبة الجولان المحتلة) من إدخال البهجة الممزوجة بالحكمة إلى بيوت ملايين العرب على مدى عقود عبر أعماله الدرامية الكوميدية ذات الطابع النقدي السياسي والاجتماعي.
فمن “عيلة ست نجوم”، مرورا بـ”بطل من هذا الزمان” و”ضيعة ضايعة” و”الواق واق”، وصولا إلى آخر أعماله “بستان الشرق”، اتسم مشروع حمادة الدرامي بالنقد اللاذع لمظاهر الفقر والاستبداد والفساد ومسبباتها في مجتمعات وأمكنة أرادها في معظم الأحيان متخيلة، لكنها في الوقت نفسه مليئة بالإسقاطات من واقعنا العربي المتخم بتلك المظاهر.
ولأنه يفضل “الأدب دائما” وسيلة للتعبير، جاءت قصص حمادة ورواياته انعكاسا لحياته في الوطن والغربة؛ تبدأ بظلال من تلك الحياة والتجربة وتنهض شخوصا وأحداثا متخيلة لتنتهي إلى عبرة أدبية لا تخلو من السخرية التي تطبع أسلوب الأديب في معظم الأحيان.
وإلى جانب رواياته الثلاث “المحطة الأخيرة” (1999) و”ضمانات المستقبل” (2019) و”جلنار”، تميز مشروع حمادة الأدبي بسلسلة من مجموعات القصص التي حملت عنوان “دفاتر ممدوح حمادة”، وكان أبرزها “دفتر الحرب” و”دفتر الأباطرة” و”دفتر الغربة” التي قدم من خلالها مجموعة من القصص الإنسانية والاجتماعية والسياسية بأساليب وقوالب متعددة كالرمزية والساخرة والتراجيدية.
وعن الدراما والأدب وروايته جلنار، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع ممدوح حمادة:
-
صدرت مؤخرا قصتك “جلنار” عن دار موزاييك للدراسات والنشر بصيغة جديدة (رواية قصيرة). هل يمكن أن تحدثنا عن فكرة هذه الرواية القديمة/ الجديدة، وسبب إعادة نشرها تحت جنس الرواية القصيرة؟
إن سبب إعادة نشر هذه القصة الطويلة، كما يطلق عليها البعض، أو الرواية القصيرة، كما يسميها البعض الآخر، هو مرور ما يقارب ربع قرن على نشرها للمرة الأولى ونفادها من المكتبات، ولذلك ارتأت دار موزاييك إعادة نشرها في طبعة ثانية، أما فكرتها فتتلخص في سعي الإنسان دائما ليعود إلى ماضيه من أجل استرداد فرصه الضائعة.
-
يخوض يوسف -بطل رواية جلنار- رحلة تعقب تشبه المتاهة سعيا خلف فتاة أحبها قبل 47 عاما، بعدما لمحها صدفة من خلف زجاج المقهى وهي تقطع الشارع، لتنغلق الأحداث على نهاية غير متوقعة. فهل هي رواية عن لعنة الحب أم القدر؟
يوسف هنا يبحث عن شبابه متمثلا في جلنار التي فقدها شابا ليحاول استردادها شيخا، وباختصار فإن يوسف يريد أن يستعيد هذا الشباب، وطريق العودة إلى هناك عبر جلنار أمر مستحيل، فما فقدناه أيام الشباب لا يمكن استعادته لأن الساعة لا تعود إلى الوراء، وبالتالي فإن بحث يوسف عن جلنار هو في الحقيقة نوع من العبث الذي لن يؤدي إلى نتيجة.
أما شبه المتاهة التي دخلها يوسف كانت غايتها منعه من العودة، فهي الواقع الوحيد في ما يحصل. ولكن يمكننا التوقف عند نقطة أخرى في حياة يوسف، وهي أنه رغم عدم تمكنه من استرداد شبابه عبر جلنار، فإنه تمكن من استعادة مشاعر العشق التي اعترته أيام شبابه، ولكن ليس كما كانت عليه آنذاك حيث كان طابعها الأمل والتفاؤل، لأنها الآن تشبه سلوكا مازوخيا يستسيغ فيه يوسف عذاباته رغم الإشارات الكثيرة والدامغة على عدم وجود الأمل.
-
تميز مشروعك الأدبي بسلسلة الدفاتر التي أصدرتها تباعا (دفتر الحرب، دفتر الأباطرة، دفتر الغربة)، ويلاحظ قارئ تلك النصوص ارتباطها الجلي ببعض مراحل حياتك. فما الحدود بين الواقع والمتخيل في هذه النصوص؟ ولماذا اخترت لها عنوانا جامعا “دفاتر ممدوح حمادة”؟
مشروع سلسلة “دفاتر ممدوح حمادة” تحوّلٌ حدث لمسار مشروع آخر كان اسمه “ألف شاردة وواردة” كان يحتوي على فكرة ربما لم تكن واقعية، وهي إصدار كتاب يحتوي على ألف قصة وقصة، وعند نقاش الموضوع مع دار ممدوح عدوان للنشر رأينا أن هذا المشروع سيكون صعب التحقيق، فاخترنا تسمية “دفاتر”، وسبب هذه التسمية هو أن غالبية هذه القصص كانت مكتوبة سابقا، وكانت مكتوبة على دفاتر محفوظة في أدراجي ولا يزال قسم منها يتهيأ للخروج تحت عناوين جديدة.
هذه الدفاتر -بطبيعة الحال- ليست مكتوبة بالترتيب الذي تنشر فيه، ففي الدفاتر حبيسة الأدراج قصص مختلفة، ما يجمعها في الدفتر هو تاريخ الكتابة فقط، أما الدفاتر التي تصدر فيجمعها الموضوع، ففي دفتر الأباطرة نجد قصصا متخيلة بالكامل أبطالها جميعا من الأباطرة الذين يرمزون إلى السلطة، وكتبت معظم قصصه في فترة الثمانينيات التي كان من الصعب فيها نشر مثل تلك القصص المفعمة بالنقد عبر إسقاطات.
وبطبيعة الحال، تم رفض نشر كثير منها ولم ينشر منها إلا بعض القصص في مجلة مغمورة كانت تصدر في بيروت اسمها “إشراقات عشتروت”، أما في “دفتر الحرب” فجميع القصص كان موضوعها الحرب، وهكذا فإنه في كل دفتر موضوع محدد، وقد بلغ عدد الدفاتر التي صدرت حتى الآن 7 دفاتر: الأباطرة، الحرب، القرية، الغربة، الهذيان، الإجباري، الحب. وقيد التحضير دفتر الدراما ودفتر السجن وغيرهما.
لقد استفدت في كتابة هذه القصص من تجربتي الشخصية باستعارة بعض التفاصيل، ولكن القصص في المجمل هي قصص متخيلة. وقد يعتقد القارئ أحيانا أنها قصص حدثت معي بسبب اعتمادي على واقعية وحميمية السرد، ولكنها في الحقيقة قصص متخيلة، وإن وجد فيها شيء مما حدث معي فهو لا يشكل أكثر من كونه بذرة.
-
متى تختار الأدب للتعبير؟ ومتى يقع اختيارك على الكتابة الدرامية؟
أختار الأدب دائما.. وإذا تحدثنا عن التعبير البصري فإنني أختار السينما، ففي هذين النوعين أنا حر، في الأدب أقدم خلاصة فكري من دون أن تخضع هذه الخلاصة لتدخل أحد، ولا يهمني لا رقابة ولا شركات إنتاج ولا حتى دور النشر، لأنه في زمننا هناك كثير من المنابر التي يستطيع الإنسان استخدامها للنشر من دون الاعتماد على أحد، وتحديدا الإلكترونية منها.
وطبعا ليس لي باع طويل في السينما، ولكنني درست الإخراج السينمائي لكي أتمكن من تقديم الأفلام القصيرة التي لا تخضع لرقابة أحد، ولأن بإمكاني تقديم رؤيتي البصرية من خلالها. أما الكتابة للدراما التلفزيونية، فأمارسها لأنها تشكل بالنسبة لي مصدر دخل يساعدني على البقاء أنا ومن معي.
-
خضت في “بستان الشرق” (2022) أول تجربة كتابة لعمل درامي عربي مشترك تدور أحداثه حول مجموعة من الشخصيات من جنسيات عربية مختلفة تقيم في فندق واحد، فكيف تصف هذه التجربة؟ وما أوجه الاختلاف بين الكتابة عن المجتمع السوري والكتابة عن المجتمعات العربية؟
“بستان الشرق” كانت تجربة مأساوية لم يكتب لها أن تظهر إلى النور بالشكل المرسوم لها، فما شاهدناه على الشاشة كانت بمثابة إنقاذ موقف، إذ قمنا بتصوير عمل درامي كُتبَ وأُخرجَ وتم تمثيله بسرعة، لكي يتم ملأ ساعات بث رمضانية مدرجة في الدورة البرامجية.
لقد كانت هناك رغبة كبيرة في أن نقدم عملا ناجحا كما كنا نتمنى، ولكن كان من المستحيل فعل ذلك في بيئة هيَّأت لك كل أسباب الفشل، “بستان الشرق” لم يكن من نوعية الأعمال التي يطلق عليها “بان آراب” (pan-Arab) -أي وحدة عربية عابرة للوطنيات- فأحداثه تدور في فندق ويحتمل وجود نزلاء من كل الجنسيات العربية وغير العربية، وكان بالأساس يرمز إلى البلد التي انتقل حكمها من يد إلى يد، ويتحدث عن مراحل تاريخية تصور ما بعد الاستقلال حتى وقتنا الحاضر، ولكن بسبب المنغصات التي شملت كل تفاصيل العمل تقريبا بدءا من تأليف النص وانتهاء بالإدارة ومرورا بالإخراج والملابس والديكور، كل ذلك جعل العمل يبدو وكأنه “بان آراب” وهو ليس كذلك.
أما الفرق بين الكتابة للمجتمع السوري والكتابة للمجتمعات العربية، فهو مرتبط بالتفاصيل: عمّ نكتب؟ وماذا نريد؟ فإذا كان التنوع طبيعيا ومبررا فإنني لا أجد مشكلة، أما إن كان مفبركا ومفتعلا من أجل جمع عدد من نجوم الدراما، فإنه سيُنتج -في الغالب- عملا سخيفا.
-
يتميز أسلوبك في الكتابة الدرامية بالتكثيف الدلالي للشخصيات والأحداث (الخربة، الواق واق، بستان الشرق) بحيث تحيل إلى عدة مدلولات حسب مستوى التلقي. فلماذا تتوخى هذا الأسلوب؟ وما القيمة التي يضيفها للعمل الدرامي؟
صحيح أن جزءا كبيرا من دوافعي للكتابة الدرامية هو كونها مهنة تؤمن لي الدخل، ولكنني لا أفعل ذلك من دون هدف، بل أسعى بكل ما أملك، لكي يكون ما أكتبه مشروعا فكريا يقدم للمشاهد مساحة معرفية وفكرية إضافة إلى العملية الترفيهية. ولذلك، فإن أي عمل أقدمه أحمله بالدلالات والإشارات والإسقاطات وأسعى عبره لتحريض المشاهد على التقصي وقراءة ما بين السطور، وأحمله رسائل مختلفة المستويات بحيث يجد صدى لدى كل من يشاهده.
-
كثيرا ما تصادمت وتنافست في “الواق واق” السرديات الكبرى (الليبرالية والماركسية)، وأساليب التفكير والعيش (المحافظة والمتحررة)، وأنماط الحكم (الديمقراطية والمستبدة) من خلال أقوال وأفعال الشخصيات/ الممثلين في محاولة لتقديم نموذج يمكن لسكان الجزيرة تطبيقه نظريا وعمليا للعيش في سلام، ولكن دون أن تفلح أي منها في تحقيق ذلك. فهل العيب في تلك المرجعيات أم في سكان الجزيرة أم المكان الذي جاؤوا منه؟
شخصيات العمل أو سكان الجزيرة هم مجموعة أفراد هاربون عبر البحر من ضغوط مختلفة، ولم تعد لديهم القدرة على التعايش معها (الاستبداد، الفساد، الفقر، الظلم، إلخ)، وهم يعكسون شرائح مختلفة تمثل معظم فئات المجتمع، ووصلوا إلى جزيرة فيها كل مقومات الحياة عمليا من حيوانات تنتج لهم الألبان والبيض، وأشجار مثمرة، وغير ذلك مما يلزمهم.
كان باستطاعتهم بناء المجتمع الذي يخلو من أمراض المجتمعات التي هربوا منها، ولكنهم بقوا أسرى أفكارهم ومعتقداتهم وأيديولوجياتهم، وبدلا من إنتاج مجتمع يعوض أفراده عما عانوه، نرى كل فرد يسعى لتطبيق ما يعتقد به؛ الشيوعي يريد كومونة رغم أن هناك تجربة واحدة لمجتمع أو نظام الكومونة تمثَل في كومونة باريس التي لم تصمد أكثر من 3 أشهر أواخر مارس/آذار حتى أواخر مايو/أيار 1871، قبل أن تسقط كنظام اجتماعي وكتجربة لم تتكرر بعدها، والإسلامي يريد أن يبنى خلافة، والعسكري يريد فرض نظام دكتاتوري، والليبرالي يريد مجتمعا مفتوحا وإلخ.. وكل ذلك من دون محاولة البحث عن حل جديد، مما أدى في نهاية المطاف إلى ما هو متوقَع، فحين حصل العسكري على السلاح فعل كما يفعل العسكر في بلادنا، إذ أراد إخضاع المجتمع لترهاته، مما جعل أفراد الشعب يكررون تجربتهم بالهرب عبر البحر.
وهكذا فإن العيب هنا مزدوج فهو موجود في المرجعيات التي يستوحون منها أولا، وموجود فيهم ثانيا، لأنهم نتاج تلك المرجعيات أصلا، وهنا يمكن ذكر ما جاء في الآية الكريمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وهذا ينطبق على المرجعيات والأفراد.
-
ارتبط اسمك بالكوميديا وأنواعها ارتباطا وثيقا منذ أولى أعمالك التلفزيونية “عيلة 6 نجوم”. فلماذا اخترت الكوميديا؟ وهل هي ذوق شخصي أم مقاربة فنية لحال المجتمعات وأفرادها؟
أنا أكتب من دون اختيار النوع، بسبب قلة عدد كتاب الكوميديا فإنني لا أجد الوقت لأكتب نوعا آخر، إذ يطلب مني الجميع كتابة الأعمال الكوميدية. ولكنني كتبت في مسلسل “أهل الغرام الجزء الثالث” خماسية “يا جارة الوادي” وهي ليست كوميدية. وباختصار العملية ميكانيكية لا أكثر.
-
حققت الأعمال الدرامية السورية في هذا الموسم الرمضاني نسب مشاهدات عالية مقارنة بالأعوام العشرة الأخيرة. فهل يمكننا الحديث عن صحوة للدراما السورية؟ وما مستقبل هذه الدراما على ضوء انتعاش هذه الصنعة عربيا وعالميا؟
الدراما السورية لم تمت، بل تأثرت بظروف البلد مثلها مثل بقية القطاعات، لدينا ممثلون نخب أول، ومخرجون مهرة، وفنيون لهم باع طويل، وكل عناصر البنية التحتية متوفرة بنوعية عالية، وعندما تتوفر بعض الشروط فإنها ستعود إلى سابق عهدها. ولو كانت عندنا حرية إعلام، ومن ثم محطات تلفزيونية متعددة، لقدمنا ما يذهل المشاهد. ففي مصر ولبنان والخليج، حيث تكثر المحطات، نرى إنتاجا غزيرا.. وهو ما ينقصنا مع الأسف.
-
قلما تُنشر كتب وأبحاث تتناول الدراما والأعمال الدرامية العربية تناولا أكاديميا بغرض النقد والارتقاء الفني، وأنت ممَن يكتبون النقد -وربما الانتقاد في كثير من الأحيان- لبعض الأعمال أو الأنواع السائدة. فهل نحن بحاجة إلى مؤسسة نقدية أو منابر متخصصة تتصدى لهذا الوابل من الأعمال السنوية؟
قلة هذه الأعمال وندرتها نابع من قلة النقاد والمؤسسات التي ترعى موضوع النقد، والنقد مجال يحتاج لدراسة وله قواعده وأصوله ولا يكفي الحديث عن عمل درامي أو غير درامي، لكي نصنف ما قيل تحت عنوان النقد، فهناك كثير من المقالات النقدية تصلح مادة للسخرية لسذاجتها وعدم مهنيتها، ولكن الصحف -مع الأسف- تنشر، والقارئ يطلع على هذه المقالات ويتبنى في كثير من الحالات ما يرد فيها بسبب الثقة المسبقة بوسيلة النشر.
ومن المؤسف أن هذا النوع من النقد هو الأكثر، وعدد النقاد الحقيقيين الذين درسوا هذا المجال ويمسكون خيوطه قليلون جدا، ولذلك فإن الاهتمام بهذا الموضوع أمر في غاية الأهمية، وإنشاء مؤسسات تهتم به أمر جيد، ولعل قسم النقد في المعاهد المسرحية خطوة ممتازة، ولكن من المهم تطويرها لتشمل الفنون الأخرى إضافة إلى المسرح.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.