في بدايات القرن الحادي والعشرين، وبين ثلوج وأعاصير العاصمة الإنجليزية، لندن، قرر أحد رجال الاقتصاد المخضرمين، واسمه “ستان كرونكي”، أن يضم نادي أرسنال إلى قائمة ممتلكاته الخاصة حول العالم.. لحظة واحدة، قف مكانك، وحاول أن تعيد النظر في الجملة السابقة بعين التجرد، والسبب ببساطة أننا لا يمكننا غض الطرف عن السياق التاريخي الذي يصل بنا في النهاية إلى تلك الحالة المأساوية: ديكلان رايس يواصل المسيرة الزاهية مقابل 120 مليون يورو كاملة في عالم يعيش أكثر من ثلثيه على مشارف خط الفقر، وفي نادٍ كان نفسه محمّلا بالدّيون قبل سنوات قليلة.
حسنا، حاول فقط إعادة ترتيب الجملة السابقة بهذا الشكل: هناك رجل واحد وحيد، قرر تحويل نادٍ مملوك بالأصل لمشجعيه إلى أبعدية خاصة، وبناء على قرار شخصي منه. نحن نعلم أن الصورة لم تزل ضبابية، وأن الأمر متشابك ومعقد، وهذا لا يعني أننا سنغلق المقال عند هذا الحد، لكننا سننسحب قليلا لنترك المجال لشخص مختلف يتمكن من تأصيل بعض الأفكار، لأن أحداث الساحة الاقتصادية العالمية -دون استثناء كرة القدم- تشتبك مع ما حذر منه منظّر الشيوعية الأول “كارل ماركس” قديما، خاصة ما يتعلق بأساليب الملكية الخاصة، وظهور الشركات العابرة للقارات والملكيات العملاقة.
شيء ما ظهر في البرية
في كتابه “حول المسألة اليهودية” يُعرف كارل ماركس الملكية الخاصة باعتبارها إحدى إشكاليات المجتمع الرأسمالي، حيث للإنسان حق أصيل في الاستمتاع بثروته كما يريد، وهو حق مكفول للجميع بالفعل، لكن مع مرور الوقت ستبدأ تلك الممتلكات في الانسجام مع غريزة التسلط الإنسانية، محولة نفسها إلى ساحة للاقتتال بين الطبقات المختلفة حول كيفية الاستفادة منها ونهبها حتى الرمق الأخير(2).
لم تتوقف رؤية ماركس عند هذا الحد، بل تطورت نحو حلول أكثر تطرفا من الناحية الاقتصادية، بلغت حد المطالبة بإلغاء الملكية الخاصة تماما ليحدث الانصهار بين الطبقات المختلفة (3). تلك الأفكار ظلت تأسيسية وفارقة فيما سيحدث بعد ذلك، حيث خرج من نقيضها نموذج يؤمن تمام الإيمان بترك الأسواق مفتوحةً على مصاريعها لتفاعلات أصحاب رؤوس الأموال، وتداخلات السوق الحر والشركات الكبيرة، ليبدأ الاستقطاب الشديد بين شيوعية ماركس ورأسمالية آدم سميث، خاصة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم بين الطرفين(6).
وبالطبع لم تكن كرة القدم بمعزل عن هذا الاستقطاب، خاصة أن الرحلة انطوت في نهايتها على انتصار ساحق للملكيات الخاصة والرأسمالية المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الممثل الحصري للأفكار اليسارية، ليصبح الطريق ممهدا أمام الأندية لمزيد من السيطرة، وتدخل، بمحض إرادتها، كما دخل العالم، في مرحلة السوق الحر، والإمبراطوريات الاقتصادية العملاقة والعالمية(7). وحتى نفهم كيف وصلنا لتلك النهاية، يجب علينا العودة لما قبل ذلك، حيث كانت ملكيات العالم على المشاع.
“الثورة الحقيقية في الكرة الأوكرانية كانت في شاختار، النادي القادم من المدينة الوحيدة التي تحمل استعدادات رأسمالية وسط سياق اشتراكي كاسح يمثله دينامو كييف”.
سيرخيو بولخوفسكي، نائب رئيس نادي دينامو كييف الأوكراني
بدأت كرة القدم كما بدأ الإنسان غريبا عن الدنيا، لا يعرف من دروبها أو دهاليزها الكثير، وتفتقد حياته إلى التنظيم الكافي. في كتابه “العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري”، يطرح البروفيسور “يوفال نوح” نظرية مفادها أن الثورة الذهنية للإنسان القديم قد قامت في الأصل على وجود كيانات اعتبارية يلتف حولها البشر، وعن طريقها يأتي شعور الفرد بالتحقق لأنه سيصبح جزءا من مهمة ضخمة تتجاوزه(8).
ومن هنا بدأت الدول والجماعات المنظمة في الظهور على الساحة، وبدأ ارتباط البشر بالمهمات الثقيلة، كإنقاذ الدول من الانهيار أو إشهار السيوف لخدمة الجماعات، إنها دوائر تتلو دوائر، ولأنه الإنسان ذاته الذي فضّل الارتباط بالأرض والموارد على حياة التنقل والترحال، فإنه فضّل أيضا ممارسة اللعبة عن طريق كيانات واضحة المعالم تستند إلى شرعية الأرض أو المدينة، وتتخذ من أبناء البلدة جمهورا يشد أزر اللاعبين.
ومع تزايد عجلات الإنتاج إبان الثورة الصناعية، وتراكم الثروات في يد قلة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال، بدأت الملامح النهائية للعبة في التشكل بأقدام الطبقة الأرستقراطية من مرتادي المدارس والجامعات كنوع حميد من أنواع الترفيه، حينها كان هذا الترفيه مقتصرا على المالك الرأسمالي وصحبته فقط، ودون إشراك العمال في أي ممارسة حقيقية، باعتبار أن اللعب لفترات طويلة قد يُلهي العمال عن مهمتهم الأساسية: إنتاج المزيد من الثروة للمالك الرأسمالي(9) (10).
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عملت جهود الإصلاحيين على التخفيف من وطأة الأمر ولو قليلا، خاصة بعد ظهور النقابات العمالية والتكاتف من أجل تحديد ساعات العمل، ليبدأ العمال في اكتساب المزيد من أوقات الفراغ تدريجيا، وبدلا من إهداره في الرذائل كشرب الخمر أو المقامرة، بدا للكنيسة وحلفائها من أصحاب المصانع والشركات أن كرة القدم هي الحل الأمثل لتمضية ذلك الوقت، لتبدأ اللعبة مباشرة في استقطاب الطبقات العاملة، وتتأسس الأندية بشكلها الحالي على سواعد العمال(11).
للمرة الأولى والأخيرة، ستبدأ الأندية في الظهور ككيانات ديمقراطية يمتلكها ويسيطر عليها اللاعبون والأعضاء من أبناء الطبقات الفقيرة، كما ستسن القوانين لخدمة هؤلاء العمال فيصبح من حقهم شراء القليل من الأسهم ليباشروا الدفاع عن النادي كملكية خاصة، لكنهم رغم ذلك لن يتمكنوا من فرض السيطرة على كامل مقدرات الأندية لاعتبارات اقتصادية، ولأنهم، كما وصفهم البعض حينها، “أقلية تتستر في عدد كبير من البشر”، أي كثيرون في العدد، وأقلية بالنسبة إلى رجل واحد يمتلك أضعاف ما يمتلكونه(12).
هنا يقرر الرأسمالي استغلال تلك المزية، على أن يشد الرحال باكرا نحو مكتب البلدية، حاملا في يده سيجارا، وفي اليد الأخرى شيكا به ثمن نصف أسهم النادي دفعة واحدة دون احتساب الضرائب، لتتمخض اللعبة بعد سنوات طويلة من اعتبارها لعبة الغوغاء والرعاع، وتلد رجلا واحدا يتحكم في مزاج الملايين، وسواء كان اسمه بروس أوسترمان في العصور الغابرة -أول أجنبي يشتري نادي كرة قدم في إنجلترا- أو ستان كرونكي في عصرنا الحالي، ستظل التقاليد القديمة هي اللاعب الرئيسي في كل شيء(13).
شيء ما يتماس مع الحداثة
لا تقلق، هذه ليست قصة أخرى عن الصراع الأميركي-الروسي أو السوفيتي، لذا دعنا ننحي السياسة جانبا، ونرحب بعودة كرة القدم مرة أخرى لمجال الحديث. منذ سنوات وجد نادي أرسنال نفسه في موقف غريب بعض الشيء، بعد أن أصبح مملوكا لاثنين من رجال الأعمال يكرهان بعضهما لأسباب خفية، أحدهم هو ستان كرونكي صاحب الملكية الأكبر واليد العليا في كل كبيرة وصغيرة تحدث بنسبة 67.0% من مجموع الأسهم، أما الثاني فهو رجل الأعمال أليشر عثمانوف بنسبة تقدر بـ30.0% فقط(16)(17).
ورغم أنها نسبة كبيرة نسبيا، فإن قوة رأس المال الحقيقية كانت تتركز في يد كرونكي وحده، حيث استطاع من خلالها تقويض صلاحيات شريكه، ومنعه من المشاركة في اتخاذ أي من القرارات المصيرية، ليتحول الرجل في النهاية إلى دمية يُحركها كرونكي، وتتحول تلك النسبة الكبيرة في الملكية إلى رقم مجرد من أي معنى في حسابه البنكي.
الأزمة الكبرى ظهرت عام 2018، عندما قرر كرونكي الاستغناء عن خدمات المدرب الفرنسي آرسين فينجر بعد سنوات الضياع الأخيرة، على عكس رغبة شريكه، وما إن مُرر القرار حتى أدرك الرجل أن لا فائدة حقيقية من وجوده شريكا في النادي في ظل أجواء مسمومة كهذه، وهنا ستظهر الصدمة الثانية، لأنه أدرك سريعا استحالة بيع حصته لأي من رجال الأعمال في وجود شريك متسلط، ما أجبره في النهاية على بيع الحصة إلى كرونكي نفسه مقابل 550 مليون جنيه إسترليني(18). لحظة واحدة.. أميركي وروسي على طاولة مفاوضات واحدة.. ها.. ها.. يبدو أننا عدنا مرة أخرى إلى الأزمة التاريخية نفسها بين البلدين.
كرونكي رجل طاعن في السن، شاهد بأم عينه أحداث الحرب الباردة حتى نهايتها، ولم يستطع تجاوزها مع هذا الرجل تحديدا، لماذا؟ لأنه أوليغارشي روسي من بقايا رجال أعمال الاتحاد السوفيتي، كما يعمل حاليا تحت مظلة الحكومة الروسية بصفة واضحة(19)(20)، هل تعلم لماذا تُعد كرة القدم مادة خصبة للكتابة؟ لأن العالم بأسره ينصهر داخلها في تناغم عجيب، ما يجعلها مفتاحا مهما لفهم العديد من الألغاز.
المفاجأة السعيدة هنا أن تحذيرات ماركس قد ألقت بظلالها أخيرا على المملكة المتحدة، ما حدا بالجماهير للوقوف في وجه إتمام تلك الصفقة، خاصة أن القواعد الخاصة بسوق الأوراق المالية ستجبر صغار المُلّاك من المشجعين على بيع أسهمهم قسريا لكرونكي، مع إعادة تشكيل النادي باعتباره شركة خاصة مملوكة بالكامل لرجل واحد فقط، وليس شركة مساهمة تطرح أسهمها في البورصة للتداول كما كان مسبقا، ومن ثم لن تكون هناك حسابات عامة، ولن يتمكن أي شخص في العالم من تحميل كرونكي أيا من المسؤوليات، ولن تكون هناك طريقة لمنع المالك الجديد -القديم- من التلاعب بخزانة النادي في المستقبل(21).
“أسوأ ما في هذا الإعلان هو أن كرونكي يعتزم شراء الأسهم التي يملكها أنصار النادي بالقوة. الكثير من هؤلاء الأنصار هم أعضاء في مجلس الأمناء ويملكون أسهما في النادي، ليس بسبب قيمتها المالية، بل لكونهم مؤتمنين على مستقبل النادي”.
من بيان مجلس أمناء مشجعي نادي أرسنال
فرضت هذه الصفقة هالة من السرية والغموض على كل شيء، كما سمحت لكرونكي بالعبث بأرصدة النادي الجماهيري كما يحلو له دون محاسبة أو رقابة، وهذا -كما تعلم- نمط خطير للغاية، بل ويعمل في كثير من الأحيان على إسقاط دول بأكملها، كما يحمل في داخله نزعة للتحول من الشكل المؤسسي إلى السلطوي، هذا لأنك ستمضي في الطريق رهنا لترهات رجل وحيد، ستمسي في حال، لتصبح في حال آخر، اعتمادا على حالته المزاجية(22).
ما عضّد تلك النظرية هو اعتماد الصفقة بالأساس على قرض طويل الأجل، ومن ثم فهناك احتمال لا يستهان به لدخول النادي في مراحل تقشف طويلة حتى الانتهاء من سداد الديون، ولكن لأن الرياح تجري كما تشتهي سفينتنا، سيظهر المنقذ سريعا في صورة مختلفة على الطرف الآخر من كوكب الأرض، لماذا؟ لأن الرجل استدان من نفسه في حقيقة الأمر، وبمساعدة بسيطة من “دويتشه بنك”. أهلا بك في إمبراطورية كرونكي الرياضية، حيث يفوز “دنفر ناغتس” بدوري كرة السلة الأميركي، لينعم أرسنال بالرخاء الاقتصادي.
No other sports empire comes close.
Total value of Kroenke Sports & Entertainment: $12.75 billion
• Rams: $6.2 billion
• Arsenal: $2.26 billion
• Nuggets: $2.13 billion
• Avalanche: $875 million
• Rapids: $400 million pic.twitter.com/hHHjL81iIP— Morning Brew ☕️ (@MorningBrew) June 13, 2023
شيء ما لم يعد في مكانه
هل سألت نفسك: لماذا تزداد حصيلة أرسنال النقطية بشكل ثابت في المواسم الثلاثة الأخيرة؟ ولماذا ظل متربعا على عرش البطولة لما يقرب من 30 جولة في الموسم الماضي قبل السقوط في اللحظات الأخيرة؟ وهل أحالك هذا الصعود والهبوط الدراماتيكي إلى إعادة النظر في تجربة فريق دنفر ناغتس في دوري السلة الأميركي المملوك للـ”كرونكي” نفسه؟ خاصة مع وجود الخطوط الدرامية المتشابهة بين الناديين، وسلسلة الرهانات التي بدأت مع تعيين مايكل مالون مدربا جديدا للناغتس عام 2015 رغم خبرته الضعيفة، ولن تنتهي بوضع ميكيل أرتيتا على رأس القيادة الفنية للغانرز رغم السبب نفسه، أو للسبب نفسه إن أردنا الدقة(23)(24).
Stan Kroenke owned teams that now have won four championships in the past year and a half:
🏈 Rams: Super Bowl Champs (2/13/2022)
🥍 Colorado Mammoth: National Lacrosse League Champs (6/18/2022)
🏒 Colorado Avalanche: Stanley Cup Champs (6/26/2022)
🏀 Denver Nuggets: NBA Champs… pic.twitter.com/tpJKFuGAW4— Adam Schefter (@AdamSchefter) June 13, 2023
ورغم أن الحديث يدور حول مالك رأسمالي يُفضّل مسارات النجاح طويلة الأمد على الكسب المادي السريع، ويعمل بجد على تحديد المكاسب والاتجاهات بدقة، وهو لغز محير في ظل تلك الظروف الاقتصادية، فإن هذا اللغز لن يصمد طويلا أمام وهج ليلة الثالث عشر من يونيو/ حزيران لعام 2023، حين استطاع الناغتس اقتناص بطولة الدوري الأميركي لكرة السلة للمرة الأولى في تاريخهم، وبعد سنوات الإحباط والتفكك(25).
كانت ليلة تاريخية لعشاق كرة السلة بلا شك، لكنها فتحت باب التساؤلات: هل ستتوقف الكرة الأرضية عن الدوران إن نجح نادي أرسنال في الفوز بلقب الدوري هو الآخر؟ هل ستحترق النجوم؟ هل ستفنى العوالم؟ هل ستتعرض نظريات ماركس وأنغلز إلى التفكك والانحلال؟ أم سيحدث.. لا، لن يحدث شيء، فما بُني على باطل سيظل باطلا حتى لو احترقت العوالم وتوقفت الكرة الأرضية عن الدوران، رغم أننا لم نزل في حاجة إليه لنفض الغبار عن تلك العلاقة المتشابكة.
3 سنوات من الفقد والتيه والسقوط في اللحظات الأخيرة والكد والاجتهاد تحت قيادة مدرب حديث العهد، “من بعدها التاريخُ يرجعُ أخضرا”(15). معذرة، نقصد أن النهاية تصبح أكثر منطقية بحصول دنفر على اللقب، خاصة مع فتح الخزائن لجلب التعاقدات. ولأنها الحياة، ستعتمد السردية أيضا على وجود لاعب ارتكاز يراهن عليه كرونكي بكل قوته من البداية، ومن يدري؟ فربما تعمل منهجيات العولمة على تحويله من مجرد “نيكولا يوفيتش” في سجلات دنفر ناغتس إلى أكثر من “ديكلان رايس” في سجلات أرسنال.
Is there a lesson to be gleaned from Stan Kroenke’s teams winning championships in multiple sports?
Probably not, but if so, it is this for ownership:
Put up the money, hire good people, let them do their job. and stay out of the way!
— Andrew Brandt (@AndrewBrandt) June 13, 2023
يرى فريدريك أنغلز -شريك ماركس في كتابة البيان الشيوعي- أن الأساليب التنافسية للشركات الرأسمالية قد أجبرتها في لحظة ما على الاندماج مع بعضها بعضا، مولدة بذلك شركات احتكارية كبرى تعبر القارات، وتتخذ من سهولة انتقال رؤوس الأموال بين الحدود والدول المختلفة أساسا مهما للسيطرة على الأسواق، وهنا يكمن الفارق الضخم بين العولمة الرأسمالية والأممية الاشتراكية(26) التي وصفها لينين بأنها عملية اندماج الطبقات العاملة لتشكيل طبقة جديدة تعمل وفقا لمصالح العمال المشتركة، ويناضل فيها كل فرد باعتباره ترسا من تروس كثيرة تنتشر وتتحد على كلمة اشتراكية واحدة؛ ضرورة قصوى لمواجهة هذا التشعب الرأسمالي(27).
بعيدا عن النظريات، من المؤكد أن إمبراطورية كرونكي نموذجا واضحا لاقتصاد العولمة، حيث تنتقل الأموال بين الأندية المختلفة في سهولة ويسر، ويستخدمها الرجل للتلاعب بقوانين اللعب المالي النظيف، وللحفاظ على ثرواته من الجفاف (28)(29). في تقرير نشرته مؤسسة “The Swiss Ramble” عام 2020، وبناء على صافي الإنفاق لأندية الدوري الإنجليزي من عام 2015 وحتى سنة النشر، اتضح لجماهير أرسنال أن كرونكي لم يدفع من جيبه الخاص بنسا واحدا لدعم أي صفقة من صفقات النادي طوال تلك الفترة، رغم أن ما حدث فعلا هو استقطاب العديد من الأسماء الكبيرة، مثل أوباميانغ من دورتموند مقابل 56 مليون جنيه إسترليني، ونيكولاس بيبي من ليل مقابل 80 مليون دون حساب المتغيرات، وبالطبع لن ننسى فاتورة الديون المقدرة بـ101 مليون يورو دون حساب الفوائد(30).
#AFC received no funding in last 5 years, either from Kroenke or the bank. In contrast, they made £101m payments (debt £40m & interest £61m). Also paid KSE £6m for “advisory services”. Recently KSE repaid £160m bonds, replaced with owner loan, presumably at a lower interest rate. pic.twitter.com/c6c9rC79mE
— Swiss Ramble (@SwissRamble) September 14, 2020
فاتورة مدفوعات ضخمة نسبيا، إلا أن النادي يظل آمنا فيما يتعلق بقوانين اللعب المالي النظيف، بل وأصبح يتباهى أمام الجميع بامتلاكه “ما يكفي من الأموال لإحداث الفارق في سوق الانتقالات” على حد تعبير الرئيس التنفيذي فيناي فينكاتيشام. هل تظن أننا نهين ذكاءك؟ لا تقلق، لأن التقرير السابق قد اكتشف أيضا أن هناك شيكا تم تحريره بقيمة 6 ملايين جنيه إسترليني مقابل بعض الخدمات الاستشارية، لصالح من؟ بالضبط كما توقعت لصالح مؤسسة كرونكي للرياضة والترفيه.
شيء ما أصبح خفيا
“الحسابات التي يمكننا رؤيتها لأرسنال لا تُظهر ما حدث في الأشهر الـ12 الماضية”.
دان بلوملي، خبير التمويل الرياضي والمحاضر في جامعة شيفيلد هالام
“صُنعت القوانين لتُخرق”، قاعدة ذهبية في العالم الرأسمالي، خاصة أن هزائم القانون تنطلق بالأساس من داخل القانون نفسه. كل ما عليك هو التوقف عن سرد البكائيات، لتبدأ مباشرة في إيجاد الثغرة، شرط أن تمتلك المال اللازم للتلاعب بعقول المستمعين. المعلومة التالية هي أن قوانين اللعب المالي النظيف لا تستثني نفسها من ذلك، وتمتلك أيضا بعض الأساليب التي تساعد الأندية الأغنى على تمرير أفكارها وصفقاتها دون اكتراث لطبيعة القانون.
على سبيل المثال، كلفت صفقة غابرييل جيسوس خزائن أرسنال مبلغا يُقدر بـ45 مليون جنيه إسترليني عند انضمامه من مانشستر سيتي الصيف الماضي، لكن هذا لا يعني أن الصفقة قد كلفت خزائن النادي مبلغا يُقدر بـ45 مليون جنيه إسترليني الصيف الماضي، لأن التكلفة سيتم توزيعها على مدة العقد، لتتحول إلى 9 ملايين في الموسم الواحد، ولمدة 5 سنوات بين عامي 2022 و2027(31).
كما أن هناك العديد من البنود التي لا تدخل مباشرة في حيز النفقات، مثل “تكاليف التمويل المنسوبة مباشرة إلى الإنشاءات، أو “تعديل الأصول الثابتة الملموسة” بما تشمله من مبانٍ مثل ملعب الإمارات، ومنشآت التدريب في لندن كولوني. هذه النفقات يعتبرها القانون “خارج الميزانية” لأغراض الاستدامة، أو هكذا قيل لنا، لأن ما حدث فعلا هو تقديمها آلية مختلفة للملاك يمكنهم بموجبها ضرب عرض الحائط بالقانون نفسه، من خلال إضافة المزيد من النفقات على الورق فقط لتحسين جودة الملعب ومرافق التدريب، مع استغلال تلك الأموال حقيقة في جلب المزيد من الصفقات. هل تتذكر مشهد “ميزانية المبنى الجديد” بين علاء ولي الدين وحسن حسني في فيلم “الناظر”؟ لا يهم، سنتركك دقيقة واحدة لمشاهدته، باعتباره معبرا عن تلك الحالة(32).
سنضيف إلى تلك المداخيل أرباح الموسم الماضي بعد العودة إلى دوري أبطال أوروبا، وانتعاش الميزانية في حالة الخروج من مرحلة المجموعات فقط بما لا يقل عن 50 مليون جنيه إسترليني، وربما أكثر من ذلك إن ذهبوا بعيدا في المنافسة. حسنا، هناك استدراك يصعب تجاهله في هذا الصدد، وهو أن ضريبة العودة إلى دوري أبطال أوروبا للحصول على تلك المداخيل يقترن بوجود لاعبين من طراز معين، وهذا يعني افتقار النادي لأهم عوامل ضبط الميزانية: انخفاض فاتورة الأجور.
شكّلت الأجور المدفوعة في موسم 2021-2022 نسبة 58% فقط من قيمة الأعمال، وهو رقم ضئيل يقدر بـ212 مليون جنيه إسترليني مقارنة بفاتورة أجور باقي الفرق، مثل مانشستر يونايتد الذي تصل فاتورته ‘لى 384 مليون جنيه إسترليني، ومانشستر سيتي صاحب الـ354 مليون جنيه إسترليني، وتشيلسي بـ 340 مليون جنيه إسترليني، ومع وصول زينتشينكو وجيسوس، ورايس وهافرتز وتمبر سيصبح من الصعب الإبقاء على تلك الحالة، ما سيؤدي قطعا إلى مزيد من الالتزامات المالية.
هل تشعر بالدوار؟ معك كامل الحق، فهذا الكم من المعلومات يظل مبعثرا وبلا سياق واضح لصعوبة الوصول إلى خلفية اقتصادية “رسمية” تبنى عليها العلاقة بين ملكيات كرونكي المختلفة، لذلك ستظل الأقاويل والمعلومات تكهنا بلا دليل، لكنها في الوقت ذاته ستحمل بين طياتها مئات الأدلة الخفية بناءً على المفاهيم العامة لاقتصاد السوق الحر، وتلك أزمة رأسمالية أخرى.
فعندما تشغل التلفاز على إحدى القنوات غير معروفة الهوية، والتي تذيع أفلاما مقرصنة بجودات منخفضة، تتكهن مباشرة بأن هذه طريقة أخرى لغسيل الأموال بناء على مشاهدة الكثير من الحالات المماثلة، ودون أن تمتلك دليلا واضحا يُصبح استنتاجك صحيحا، وكذلك الأمر عندما تشاهد ناديا يدفع 120 مليون يورو في صفقة واحدة دون أن يرف له جفن، ورغم الديون وفاتورة الرواتب، يصبح الاستنتاج بأن في الأمر حيلة ما بين مجموعة شركات مختلفة أمرا ذا قيمة(34).
“نحن لا ننفق الأموال، لقد قمنا باستثمارات كبيرة، ونفعل ما بوسعنا كي يكون لدينا فريق يمكن تمويله بشكل مستدام من تلقاء نفسه، هذا هو الهدف “
ميكيل أرتيتا
هناك ورقة قدّمها عضو حزب العمال البريطاني السابق توني بن في خطابه الأخير أمام البرلمان، تحتوي على 5 أسئلة يجب على كل مرشح لمنصب قيادي أن يجيب عنها بوضوح وشفافية: ما القوة التي تستند إليها؟ من أين حصلت عليها؟ ولمصلحة من؟ وما مسؤولياتك؟ وكيف نتخلص منك؟ وبناء على التفاصيل قد تصبح إجابات كرونكي هكذا: المال، من حساب عائلة كرونكي المصرفي، إلى حساب عائلة كرونكي المصرفي، لا شيء، لا نستطيع(35).
في عام 2006، أُقرِض أرسنال مبلغ 260 مليون جنيه إسترليني لتمويل الانتقال إلى ملعب “الإمارات”، تُسترد على هيئة أقساط سنوية تنتهي بحلول عام 2031. في عام 2020 اتضح لكرونكي -بعد الهزيمة في سباق التعاقد مع المهاجم الألماني تيمو فيرنر- أن وجود تلك الديون على قائمة المصروفات سيشكل عائقا ضخما في رحلة البحث عن اللقب الغائب، خاصة مع وجودها رفقة أقساط أخرى، أبسطها هو قيمة التعاقد مع نيكولاس بيبي من نادي ليل، 80 مليون جنيه إسترليني موزعة على 3 سنوات(36).
Nicolas Pepe in 2017: “Chelsea is a club that makes me dream. It’s the only club in England that I would sign for.” 🔵
Nicolas Pepe in 2019: Signs for Arsenal. 🔴
🤷♂️ pic.twitter.com/eZEtjAPzeP
— GOAL (@goal) August 2, 2019
لهذا سيقرر ستان الصامت أو “Silent Stan”، كما يُطلَق عليه، إعادة هيكلة الديون عن طريق السداد والاقتراض، سداد الديون البالغة قيمتها 144 مليون جنيه إسترليني دفعة واحدة، من خلال الحصول على قرض آخر من مؤسسة “كرونكي للرياضة والترفيه” سالفة الذكر، والتي تجلب أموالها من مداخيل الأندية التابعة لها حول العالم كدنفر ناغتس(37).
لعبة بسيطة، أجبره النظام الرأسمالي المتشابك على دخولها، حوّلت الديون من يد حاملي السندات إلى يده هو شخصيا، ليصبح بذلك مدينا لنفسه، ويصبح -للمفاجأة- متساهلا مع نفسه في مواقيت سداد ديونه بنفسه ولنفسه، أثناء رحلة البحث عن المجد، ليستمر رأس المال -كما الحياة- في الدوران والتلاعب، ودون العثور على فاسد واحد في القصة كلها سوى رأس المال نفسه.
———————————————————-
المصادر:
1- تعريف و معنى الفعل “مَلَكَ” – معجم المعاني الجامع.
2- “On the Jewish Question”,Marx: Early Political Writings, Karl Marx – cambridge university.
3- Critique of Hegel’s ‘Philosophy Of Right’, Karl Marx – Amazon.
4- نظرة على الوظيفة الاجتماعية للغة – عربي بوست.
5- نفس المصدر رقم (3).
6- The Great Rebirth: Lessons from the Victory of Capitalism over Communism, Anders Åslund – Amazon.
7- Adam Smith on Capitalism and the Common Good- econlib.
8- العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري، يوفال نوح هراري – أمازون.
9- شيفيلد فوتبول: سِفر التكوين – المحطة.
10- نفس المصدر رقم (8).
11- In the beginning: The rise of fan ownership in English football, football pink.
12- Football clubs were born to represent communities and fans, not owners, Jonathan Wilson – The Guardian.
13- The Fascinating Story of the First Foreigner to Buy a Football Team – cnet.
14- Profile of “Silent Stan” Kroenke – reuters.
15- “ما لم تقله زرقاء اليمامة”، محمد عبد الباري – بوابة الشعراء.
16- U.S. Billionaire Gets Full Control of Arsenal, Buying Out Russian Rival – THE NEW York times.
17- الأميركي كرونكي يستحوذ على الارسنال بعد شراء حصة شريكه عثمانوف – قنوات الكأس الرياضية.
18- Stan Kroenke’s £550m offer to buy outright ownership of Arsenal is accepted – The Guardian.
19- Alisher Usmanov – forbes.
20- What is a Russian oligarch, and how is their wealth connected to Russia’s war in Ukraine? – cbs news.
21- Arsenal fans urged not to sell shares to Kroenke – Reuters.
22- Understanding the Global Rise of Authoritarianism – stanford University.
23- Nuggets’ Michael Malone’s coaching traits born during days as ‘stubborn’ point guard – the athletic.
24- Mikel Arteta appointed Arsenal head coach – skysports.
25- The Denver Nuggets have won the NBA Finals for the first time in the team’s history – npr.
26- The Communist Manifesto, Karl Marx, Friedrich Engels – Amazon.
27- On the National Question and Proletarian Internationalism, vladimir lenin – Amazon.
28- Theses on the National Question, vladimir lenin – marxists archive.
29- analysis of stan kroenke and his sports franchises – just Arsenal.
30- KROENKE OUT OF CASH, Stan Kroenke hasn’t put a penny into Arsenal in last FIVE YEARS with every transfer paid from club earnings – the Sun.
31- نيكولاس بيبي .. هل وجد أرسنال ضالته؟ – الجزيرة.
32- CAN ARSENAL’S OWNERS IMPROVE THE CLUB’S FORTUNES BY INVESTING THEIR OWN MONEY? – Arse blog.
33- The Kroenkes are spending at Arsenal – does it matter why? – the Athletic.
34- Declan Rice to complete Arsenal transfer today as Gunners finally get deal worth up to £120m over the line – Goal.
35- Tony Benn and the Five Essential Questions of Democracy – The nation.
36- Why have Arsenal not paid their Emirates debt in full yet? You asked, we answered – tribuna.
37- Kroenke pays off Emirates debt but it does not mean Arsenal are Man City now: one-minute explainer – tribuna.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.