منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها الروس إلى أوكرانيا، كان الظن السائد لدى الكرملين أنها عملية خاطفة سوف تستغرق قرابة أسبوعين إلى عدة أسابيع وتنتهي بسقوط كييف في أيديهم، لكنْ هناك عاملان تسبَّبا في تحوُّل تلك القناعة إلى أسطورة، الأول هو المقاومة الأوكرانية الكبيرة التي لم تتوقعها موسكو، والثاني هو الدعم الغربي غير المسبوق بالتدريب والسلاح للقوات الأوكرانية.
أدت هذه المتغيرات، وطول أمد الحرب وتكلفتها المادية والبشرية المرتفعة بالتبعية، إلى اهتزاز في وضع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية خلال العام الأول ومعظم العام الثاني من الغزو، خاصة مع تقدم ملحوظ للقوات الأوكرانية في عدد من المناطق الحاسمة، في أثناء ذلك كان الروس ينفقون ما يقارب 900 مليون دولار يوميا بحسب بعض التقارير، إلى جانب فقدان جذري في إمدادات المواد الخام المستخدمة في تصنيع السلاح بسبب الضغوط الغربية، ومع تأثر الاقتصاد الروسي، تسبب ذلك في اعتقاد لدى بعض سياسيي الطرف الآخر (الأوكرانيين ومن ورائهم الناتو) بأن روسيا قد تحاول إنهاء الحرب سريعا بأية طريقة سياسية مناسبة.
لكن ذلك أيضا لم يحدث، وبحسب تقرير بحثي صدر مؤخرا من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مؤسسة مختصة بالأمن والدفاع ومقرها لندن، فقد تكيَّف الروس مع تلك الصدمة بذكاء وبدأوا في توطين أنفسهم على خوض حرب طويلة، ومن ثم أعادوا تشكيل تكتيكاتهم للتكيف مع الواقع الجديد، ما مكَّنهم من التقدم مرة أخرى في بعض المناطق أو على الأقل الحفاظ على مكتسباتهم السابقة.
على أبواب زاباروجيا
بشكل أساسي، يتضح ذلك التعديل التكتيكي في تشكيلات المشاة الروسية، التي اعتادت التشكل على هيئة “مجموعات كتائب تكتيكية” أو ما يُعرف اختصارا باسم “بي تي جي” (BTG)، وهي وحدة مناورة مشتركة الأسلحة تُمثِّل أداة الجيش الروسي الرئيسية على الأرض، وهي تتألف عادة من كتيبة مشاة ميكانيكية نموذجية مكوَّنة من 2 إلى 4 سرايا معززة بوحدات للدفاع الجوي والمدفعية والهندسة والدعم اللوجستي مع سرية دبابات.
في أغسطس/آب 2021، صرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن البلاد لديها نحو 170 كتيبة من هذا النوع، تضم كلٌّ منها ما يقارب 600-800 ضابط وجندي، منهم ما يقرب من 200 من المشاة، وهم مزودون بنحو 10 دبابات و40 عربة مدرعة، انتشرت تلك الوحدات بالفعل خلال العام الأول للحرب، لكن مع الإرهاق الواضح لميزانية الجيش وظهور نقاط ضعف قاتلة في هذا النوع من الكتائب تتعلق بالتنسيق بين وحداتها، عاد الجيش الروسي إلى نظام غير رسمي يتضمن إنشاء أربع فئات مختلفة من رجال المشاة: المتخصص، والهجومي، والخطي، والقابل للتصرف.
فرقة المتخصصين تحصل على تدريب على أعلى مستوى خاص بالمهام المنوطة بهم، التي عادة ما تكون فِرَقا قناصة أو أسلحة ثقيلة، بينما تشمل المشاة الهجومية وحدات النخبة مثل المظليين ومشاة البحرية بالإضافة إلى بعض مرتزقة مجموعة فاغنر، وهؤلاء يتلقون تدريبا إضافيا ويعتبرهم الجيش الروسي “أصولا ماهرة قيّمة”.
أما المشاة الخطيون فعادة ما يتلقون تدريبا أضعف، ويُستخدمون لمهام لا تتطلب هذا التدريب مثل الحفر والمكوث في المناطق الدفاعية ودعم تشكيلات المشاة الأكثر قيمة (المتخصص والهجومي)، وفي أسفل التسلسل الهرمي للمشاة الروس يوجد “المشاة القابلة للتصرف”، ومن بين هؤلاء مجندون من منطقتي لوغانسك ودونيتسك شرقي أوكرانيا اللتين أعلنتهما روسيا جمهوريتين مستقلتين، وآخرون قادمون من سجون مجموعة فاغنر، إلى جانب مدنيين لديهم القليل من التدريب، وهؤلاء مجهزون فقط بأسلحة صغيرة، ويُرسلون فِرَقا صغيرة إلى المعركة.
حاليا، يعمل الروس على دمج فئات قوات المشاة هذه في المعارك وفقا للاحتياجات التكتيكية، وبدلا من دعم الجميع بالسلاح والتدريب الثقيل، اقتصر الأمر على فئات محددة، ما وفّر تكاليف مادية كبيرة ورفع من قدرات فرق بعينها تخصصت في أداء مهام أكثر صعوبة. ساعد ذلك في حل مشكلة مجموعة الكتائب التكتيكية، لكنه تسبب في مشكلة جديدة، وهي أن الفئات الأقل تدريبا أكثر عُرضة للخطر بشكل كبير، وبالتالي ارتفع تمثيلها بشكل كبير في تعداد الوفيات.
إله الحرب
التغير التكتيكي نفسه يمكن أن نلاحظه بوضوح في نمط عمل المدفعية الروسية، التي تُعَدُّ قلب الجيش الروسي أو كما سمَّاها جوزيف ستالين ذات مرة “إله الحرب”. خلال العام الأول من الغزو الروسي، جرى تخصيص ما بين بطارية واحدة إلى بطاريتين (6-16 قطعة) من مدافع الهاوتزر لكل مجموعة من مجموعات الكتائب التكتيكية، إلى جانب بطارية واحدة (6-8 قطع) من راجمات الصواريخ أو ما يُعرف بقاذفات الصواريخ المتعددة.
خلال الربع الأول من عام 2023، يمكن لنا ملاحظة أن معدل إطلاق النار من المدفعية الروسية قد انخفض بوضوح ليصبح بين 12000-38000 طلقة صاروخية في اليوم، مقارنة بمعدلات إطلاق بدأت من 20 ألفا ووصلت إلى 60 ألف طلقة صاروخية في اليوم الواحد في عام 2022. أضف إلى ذلك أنه قد لوحظ تحوُّل واضح في عيارات القذائف الأكثر استخداما من قِبَل المدفعية الروسية، حيث انخفض استخدام عيار 152 ملم، مع ظهور زيادة كبيرة في حجم النيران الصادرة من مدافع الهاون من عيار 120 ملم (أضعف من سابقتها).
سبب هذا التأثر لم يكن فقط ضعف إنتاج الطلقات المدفعية الروسية مقارنة بالمطلوب في أرض المعركة، أو عدم كفاية عدد الطلقات الصاروخية لتلبية الإمداد المطلوب، لكن كذلك بسبب ضربات بطاريات “هيمارس” (HIMARS) الأميركية التي تستخدمها القوات الأوكرانية، التي عطلت خطوط الإمداد ودمرت المخازن وقوات المدفعية نفسها، إلى جانب الأثر الكبير الذي تركته مدافع الهاوتزر الغربية بعيدة المدى دقيقة الاستهداف.
لكن القوات الروسية تكيَّفت مع الوقت مع هذه المتغيرات بشكل جيد أيضا، وذلك عن طريق إعادة النظر في خطط إطلاق المدفعية عبر إدخال تكتيكات جديدة تعتمد على تحويل القرار بالضرب المدفعي إلى مجموعة أكبر وأكثر تنوعا من نقاط القرار الأصغر التي تهتم بتحديد أفضل توقيت ممكن للضربة في سياق الإجراءات الأوسع للوحدة.
تسبب ذلك في ظهور أربع فئات لقوات المدفعية، أولها يطلق النيران من نقاط متحركة، غالبا من أجل تدمير بطاريات العدو المدفعية، والثانية تهدف إلى حماية القوات على الأرض عبر الإبقاء على وابل النيران مستمرا، والثالثة تقوم بمناورات متحركة على الأرض لضمان وصول الطلقات الأثقل إلى الأهداف بدقة أكبر (وفي هذه الحالة ترافق المدفعية بفرقة مشاة من فئة “المتخصصين” التي تحدثنا عنها قبل قليل).
أما الفئة الأخيرة من سلاح المدفعية فتستهدف قمع العدو، وفي هذا السياق يستخدم الروس تكتيكات متنوعة، فإذا علموا مثلا أن الأوكرانيين يعدون هجوما، فإنهم يُشبعون المنطقة بالنيران الكثيفة من مدفعيتهم لمنع تنفيذه، وإذا انسحب الروس من موقع يتعرض للهجوم فإنهم يُشبعونه ضربا بالنيران المدفعية بمجرد محاولة القوات الأوكرانية احتلاله.
إلى جانب ذلك، لم تعد مواقع بطاريات المدفعية عبارة عن حُفر في الأرض، بل تخفت المدافع في كتل خشبية فوق سطح الأرض، وباتت تنتقل إلى مواقع إطلاق مختلفة مع كل ضربة، وفي كل موقع من مواقع الإطلاق وضعت بشكل مسبق كمية من الطلقات تكفي الضربة المستهدفة فقط. خفَّف ما سبق من هدر الطلقات الخاصة بالمدفعية، وأوجد حلا مرنا لمشكلات ضرب المخازن وخطوط الإمداد، وعموما ساهمت تلك التكتيكات الجديدة في الإبقاء على القوة المدفعية الروسية بموضع سيادة على أرض المعركة رغم الانخفاض الواضح في معدلات الطلقات.
فاهليدار.. مجزرة الدبابات
يجري النمط نفسه من التغيير التكتيكي المرن على الدبابات، بعدما فقدت روسيا ما يقرب من 2000 دبابة منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وهي خسارة هائلة انتبه إليها الروس على وجه الخصوص بعد معركة بمدينة فاهليدار في مقاطعة دونيتسك شرقي البلاد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي وصفها المسؤولون الأوكرانيون بأنها “أكبر معركة دبابات في الحرب”، حيث تم تدمير أكثر من 130 دبابة.
لفترة طويلة، كانت القوات الروسية تميل إلى الدفع بأسراب دبابات غير مدعومة بشكل مباشر إلى الكمائن الأوكرانية، ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة من هذه الدبابات، خاصة مع استخدام الأوكرانيين لمنظومات رخيصة نسبيا لكنها فعالة جدا ضد الدبابات مثل “صاروخ جافلين” (FGM-148) (Javelin)، وهو نظام محمول مثل الآر بي جي، طُوِّر لخدمة الجيش الأميركي، يبلغ مداه ألفَيْ متر، ويتمتع بمزايا عديدة مثل خفة الوزن وسهولة التشغيل، لكن الأهم من ذلك أنه يتبع تقنية “أَطْلِق وانسَ” التي تُمكِّن المُطلِق من إصابة الهدف دون الحاجة إلى التصويب عليه بدقة، وذلك بفضل المعدات الإلكترونية والمستشعرات الحرارية والبصرية بداخل الصاروخ، التي تتتبع الحرارة الصادرة من محرك الدبابة أو أي مصدر للحرارة على متنها.
بدأت روسيا الحرب باستخدام الدبابات لأغراض “الاختراق في العمق العملياتي” بوصفها جزءا من مجموعات الكتائب التكتيكية التي تحدثنا عنها سابقا، لكن مع الخسائر الفادحة أصبحت روسيا تستخدم الدبابات في حالات الاختراق التي تبدو مناسبة فقط وباجتماع عدة نقاط قرار متنوعة، وفي حالة معركة باخموت التي انتهت لصالح روسيا مؤخرا، فإن الدبابات لم تُستخدم للاختراق بشكل واضح، ولكن استُخدمت إلى حدٍّ كبير بوصفها آلات مدفعية ودعما ناريا.
أضف إلى ذلك أن الروس زودوا دباباتهم بمواد مضادة للحرارة لتقليل دقة الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، كذلك وجدت القوات الروسية أن القتال بالدبابات عند الغسق والفجر يكون مناسبا، حيث تكون درجة حرارة جسم الدبابة أقرب إلى درجة حرارة البيئة المحيطة، ما يشتت صواريخ جافلين وغيرها من المنظومات التي يستخدمها الأوكرانيون بكثافة.
جحيم المسيرات
إلى جانب ما سبق، فإن القوات الروسية تطورت بحق في نطاق الحرب الإلكترونية، حيث ارتفعت مؤخرا معدلات إسقاط المسيرات الأوكرانية إلى نحو 10000 طائرة كل شهر، كانت حرب المسيرات جزءا رئيسيا من نجاح أوكرانيا المبكر في كبح التقدم الروسي، لكن بعد فترة كان من الواضح أن قدرات روسيا قد تطورت في هذا النطاق، فعلى طول ما يقرب من 750 كيلومترا من خط المواجهة، حافظت روسيا على نظام حرب إلكترونية رئيسي كل 10 كيلومترات تقريبا.
يرجع الفضل في ذلك إلى الأنظمة الروسية المتطورة مثل محطة تشويش “تشيبوفنيك-أيرو” (Shipovnik-Aero) التي يمكن تركيبها على شاحنة عابرة للضواحي ويصعب اكتشافها، ويمكنها قمع إشارات التحكم في المسيرات، واختراق الأنظمة الموجودة على متنها، وتحديد موقع التحكم في الطائرات بدون طيار بدقة تصل إلى بوصة واحدة، ضمن دائرة نصف قطرها 10 كيلومترات.
يُولِّد نظام “تشيبوفنيك-أيرو” تشويشا قويا يمنع إشارات التحكم في الطائرات بدون طيار تماما، وقد يؤدي حتى إلى قطع الطائرة عن الإشارة الأصلية واستبدالها بإشارة خاصة يمكنها أن توجه المسيرة وتدفعها للهبوط في أي مكان تحدده. الأهم أن عمل هذه المنظومة يستغرق أقل من دقيقة، من لحظة اكتشاف المسيرة حتى إخماد إشارة التحكم الخاصة بها. إلى جانب ذلك، صُمِّمت هذه المنظومة ليس فقط للحرب المضادة للمسيرات، ولكن أيضا لقمع مراكز التحكم في الاتصال وإشارات الشبكات الخلوية والواي فاي وغيرها من الشبكات.
وعموما، يبدو أن الروس أدركوا خلال عامهم الأول في أوكرانيا أن الحرب الإلكترونية ذات أهمية قصوى، فطوّروا هيكل الحرب الإلكترونية الخاص بهم يوميا، وتمكنوا من تحقيق اعتراض حقيقي للإشارات الكهرومغناطيسية الأوكرانية، وتمكنوا من اختراق أنظمة الاتصالات التكتيكية المشفرة بنظام 256 بت من موتورولا، التي تستخدمها القوات المسلحة الأوكرانية على نطاق واسع، إلى جانب القيام بعدد من إجراءات الخداع. ورغم أن أوكرانيا لا تزال تمتلك الأفضلية في نطاق المسيرات، فإنها مع تكيف الجيش الروسي تفقد قدرتها على إمالة كفة المعارك مقارنة بالأشهر الأولى من الحرب.
بالطبع كان ما سبق أمثلة فقط على تغيرات جذرية ومنهجية في تكتيكات القوات الروسية للتنسيق بين الوظائف المختلفة من أجل استعادة السيطرة على الأرض في أوكرانيا، وقد تمكنت بالفعل من تحقيق بعض التقدم خلال الأشهر القليلة الفائتة، وتحييد بعض المشكلات التي تعلق بعضها باستجابة الأوكرانيين، وتعلق البعض الآخر بالتنسيق بين القوات، وتعلق جزء كبير منها بالمشكلات الاقتصادية وخطوط إنتاج الذخيرة.
يبدو إذن أن الروس، على عكس ظن الكثيرين من جنرالات الحرب الغربيين، يتكيفون بمهارة مع التهديدات الناشئة، لكن ذلك بالطبع لم يحدث إلا بعد خسائر كبيرة، كما أنه لا يعني أن الحرب أصبحت نزهة بالنسبة إليهم، فلا تزال هناك مشكلات قائمة بشكل أكثر وضوحا في تنفيذ العمليات الهجومية، لكن هذا التغيير المرن يشير إلى أن جعبة الدب الروسي ما زالت تمتلك الكثير من الحِيَل التي يمكن أن تغير من خط سير الحرب وتوقعاتها.
——————————————————————————————–
المصادر:
1- هذا التقرير مبني بالأساس على ورقة بحثية صدرت من المعهد الملكي للخدمات المتحدة بعنوان Meatgrinder: Russian Tactics in the Second Year of Its Invasion of Ukraine
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.