القاهرة– لم يتوقف الجدل في مصر منذ قيام الحكومة بتطوير شبكة الطرق بالقاهرة التاريخية قبل 3 سنوات، والذي صاحبه انتشار صور ومقاطع مصورة لعمليات هدم بالجرافات لمقابر ومدافن يعتقد أنها أثرية وهو ما ينفيه المسؤولون.
وتقول الحكومة المصرية إن مثل تلك المحاور المرورية والطرق الجديدة والتوسعة الجارية ضرورية لحل أزمة الزحام والاختناق المروري، واختصار الوقت، وربط القاهرة القديمة بالطرق الرئيسة وصولا إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
تطّلب إنشاء المحاور والطرق والتوسعات في تلك المناطق إزالة بعض المقابر التي تتوسط المخطط، وصدر قرار من محافظة القاهرة بإزالة 2700 مقبرة ونقلها إلى أماكن جديدة في مدينتي 15 مايو والعاشر من رمضان.
طرح ثالث للأزمة
ومع استمرار الجدل وتبادل الاتهامات بين الطرفين منذ نحو 3 سنوات، تدخل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أخيرا لمعالجة الأزمة من خلال طرح جديد، وأمر بتشكيل لجنة لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر بمنطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي.
وذكر المتحدث باسم رئاسة الجمهورية أن السيسي أمر أيضا بإنشاء “مقبرة الخالدين”، في موقع مناسب، لتكون صرحا يضم رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة، على أن تتضمن أيضا متحفا للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية.
اتهامات متبادلة
إزاء الاتهامات التي يوجهها ناشطون ومعنيون ومختصون بالآثار ورواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى الحكومة بهدم المقابر والمدافن الأثرية في مناطق الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والسيدة عائشة وصحراء المماليك وغيرها، أكد المسؤولون أنه “لم ولن يتم هدم أي أثر مسجل”.
ولكن تبرير هدم تلك المقابر بأنها “غير مسجلة” لم يكن كافيا أو مقنعا، بل يضع الحكومة أمام تساؤل آخر عن سبب عدم تسجيلها في قائمة الآثار في ظل وجود عدد من القوانين لحماية تراث العمارة المتميز، ومن ذلك المقابر المتميزة بعمارتها أو التاريخية أو المرتبطة بشخصيات تمثل رموزا مصرية لها بصمة في تاريخ مصر.
رفض دعوى وقف أعمال الهدم
قبل أيام، رفض القضاء الإداري بمجلس الدولة نظر الشق العاجل في دعوى المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مؤسسة قانونية غير حكومية) للمطالبة بوقف أعمال الهدم بمنطقة جبانات القاهرة التاريخية.
وتأتي هذه الدعوى -حسب المركز- على خلفية عمليات الإزالة التي تجري على قدم وساق في منطقة جبانات القاهرة التاريخية المعروفة بمقابر الإمام الشافعي ومقابر السيدة نفيسة، التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي وتقع حاليا شمال وجنوب وشرق طريق صلاح سالم.
لا مساس بأي أثر
نفى عضو لجنة الطراز المعماري المتميز بالقاهرة الدكتور محمود مرسي تعرض أي مقابر تاريخية للهدم، وقال إن “بعض المناطق محمية بحكم قانون حماية الآثار، والحديث عن قيام الحكومة بهدم مقابر في ناحية صحراء المماليك لمصلحة بعض مشروعات البنية التحتية غير صحيح، ولم نر نحن الآثاريين تعدّيا على أي أثر مسجل في تلك المنطقة”.
وانتقد مرسي، وهو أستاذ الآثار الإسلامية في كلية الآثار بجامعة القاهرة، في حديثه للجزيرة نت، الهجوم المستمر على كل مشروع تقوم به الحكومة، مضيفا أن “هناك تهويلا وتضخيما من قبل بعض الأشخاص ومواقع التواصل، ولا يوجد مساس لا بالأثر نفسه ولا بالحرم المحيط به، وهي مجرد إشاعات الغرض منها إثارة الرأي العام”.
وأوضح أن هناك حرصا كبيرا من الحكومة للحفاظ ليس فقط على الآثار وإنما على الأبنية ذات الطراز العمراني المتميز، مشيرا إلى أن اللجنة قامت بتسجيل عدد كبير جدا من الأبنية والمدافن وغيرها ضمن تلك الفئة للحفاظ عليها، وهذا يدحض المزاعم القائلة إن الحكومة تقوم بهدم المباني والمقابر الأثرية.
ورأى مرسي أنه لا يمكن تقييم مشروع إنشاء “مقبرة الخالدين” حتى يخرج إلى أرض الواقع، لافتا إلى أن المقابر تأخذ صفة أثرية من تاريخ البناء وعناصر العمارة والزخرفة، ويشارك في هذا التقييم لجنة من مختلف التخصصات الفنية والهندسية والأثرية، ونقل المقابر قد يشمل الرفات والمقبرة على حد سواء.
القاهرة التاريخية.. مقبرة خالدين مفتوحة
يعتقد استشاري الحفاظ على التراث وخبير مركز التراث العالمي الدكتور طارق المري أن “مقبرة الخالدين موجودة بالفعل في مصر، ولا حاجة لإنشاء مثل تلك المقبرة، فهناك مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وبها رفات عظماء مصر في المجالات الدينية والعلمية والثقافية والفنية”.
ودعا في تصريحات للجزيرة نت إلى أن تُحسِن الحكومة استغلال تلك المقابر الموجودة بالفعل وتحوّلها إلى مزارات سياحية دينية وثقافية، “والمطلوب سيكون أقل تكلفة من المطروح وهو تعديل مسار المحاور والطرق فقط”، حسب قوله.
وأضاف المري، وهو عضو اللجنة الدولية للتراث الثقافي بالاتحاد الدولي للمعماريين، في ما يتعلق بحديث المسؤولين عن عدم هدم مقابر أثرية مسجلة، أن هناك مئات المقابر لعظماء ومشهورين غير مسجلة مثل مقبرة الإمام ورش الذي توفي عام 197هـ ودفن إلى جوار الإمام الشافعي، وهذا لا ينفي عنها أثريتها.
وأكد أن العبرة بالمقبرة والرفات على حد سواء، وأوضح “حتى الآن غير معروف هل ستكون مقبرة الخالدين بديلا لتلك المقابر أم امتدادا لها، وخطة القاهرة 2030 تتضمن إزالة جميع المقابر في تلك الأماكن لمصلحة الطرق والمحاور الجديدة، وعلى كل حال فإن المساس بتلك المناطق يمس بنسيج القاهرة التاريخي والجغرافي”، حسب تعبيره.
يد الإهمال تهدد التاريخ
إلى جانب التعدّي، كان الإهمال أحد الأسباب التي دفعت منظمة اليونسكو إلى التهديد بشطب المدينة التاريخية من قائمة التراث العالمي، ونقلها إلى قائمة التراث المعرض للخطر، حسب صحف ومواقع محلية.
وفي تقرير نشرته صحيفة الأهرام (حكومية) عام 2015 عن عبث يد الإهمال، ذكرت أن “القاهرة التاريخية وبكل معايير الخوف والقلق باتت تحت تهديد أن تضيع بكل تاريخها ونسيجها العمراني كمدينة تنبض بالتاريخ والبشر”.
وأضاف التقرير “ربما نستيقظ يوما لنجدها قد اكتفت بقائمة التسجيل الأثري التي يعرف الجميع أنها تأبى أن تضم كل ما يستحق الحماية؛ لسبب بسيط هو أن وزارة الآثار ليست لديها ميزانية تكفي تغطية أجور الجيش الجرار من الموظفين”.
ومنذ أكثر من 4 عقود، أدرجت “اليونسكو” القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي بناء على توصية المجلس الدولي للآثار والمواقع (إيكوموس).
ووصفت القاهرة بأنها “عامرة بالمناطق التاريخية والآثار المهمة التي تجسد ثراء المدينة، ليس فقط بما يجعلها عاصمة للعالم الإسلامي بل أيضا بصفتها من روائع التجارب الإنسانية العمرانية على مر تاريخها”.
وأوضحت المنظمة أنه تم ضم نطاق المدينة التاريخية بالقاهرة إلى قائمة التراث العالمي عام 1979 تحت مسمى القاهرة الإسلامية إقرارا بأهميتها التاريخية والأثرية والعمرانية المطلقة التي لا مراء فيها.
عاصمتان في مدينة واحدة وعصور مختلفة
مدينة الفسطاط (أي الخيمة) بمحافظة القاهرة هي أول وأقدم العواصم الإسلامية، وبنيت بعد الفتح الإسلامي لمصر في عام (٢١هـ/641م)، وظلت عاصمة لمصر طوال 113 عامًا، حسب موقع وزارة السياحة.
وتُعرف الآن باسم “حي مصر القديمة”، وهو من أعرق الأحياء بالقاهرة الكبرى، ويضم العديد من المواقع الأثرية، وبدأت عمارتها ببناء جامع عمرو بن العاص الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “الجامع العتيق”.
أما القاهرة التاريخية فقد أُسّست عام 969م لتكون العاصمة الجديدة، وبناها جوهر الصقلي قائد الجيش في عهد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، وتحتوي على العديد من المواقع والمعالم الأثرية من العصور المختلفة بدءا من الفاطميين مرورا بالمماليك وحتى العثمانيين ومصر الحديثة في عهد محمد علي باشا (حكم مصر بين عامي 1805 و1848).
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.