من يقرأ “أعمدة الحكمة السبعة” يُلاحظ، أول ما يُلاحظ، استغراق الكاتب في وصف الأمكنة وتفاصيلها “المورفولوجية” والقبائل التي تعمرها والأحوال الجوية السائدة فيها وصفا دقيقا يشي بأننا أمام متمرس في علم الجغرافيا، وليس أمام رجل أدب عادي أو جندي بسيط وسط مؤسسة عسكرية. ولعل ما يُزكّي القول بوجود علاقة بين “لورنس” وعلم الجغرافيا هو كونه قد عين في وزارة الحرب البريطانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى بصفته رسام خرائط.
صحيح أن “لورنس” وظف المعطيات الجغرافية التي تأتّى له جمعها خلال مغامراته في الجزيرة العربية توظيفا أدبيا فنيا راقيا، لكن لا يقل صحة كذلك أن المنطق المتحكم في جمع هذه المعطيات وتقديمها كان منطق “جيو-سياسي” يهدف إلى تعبيد الطريق لتدخل المؤسسة العسكرية في الفضاء الموصوف.
ليس من المصادفة أن ينصب اهتمام المكتشفين الفرنسيين على الفضاء المغاربي بالأساس، بينما ينصب اهتمام المكتشفين البريطانيين على صحراء الجزيرة العربية
لقد كان “لورنس” يعي تمام الوعي أن علم الجغرافيا، كما يقول “إيف لاكوست” (Yves Lacoste) في مقالته المشهورة، يصلح أولا لقيادة الحرب (La géographie, ça sert, d’abord, à faire la guerre).
وفق الجغرافي والجيو سياسي الفرنسي “إيف لاكوست”، لا جدال في أن العلاقة بين “لورنس” والمؤسسة العسكرية الإمبريالية هي من جنس العلاقة القائمة بين الجغرافيين الذين يوجدون في الطليعة وبين حس الغزو المرتبط بأجهزة الدول الكبرى. حتى وإن كان اهتمام الفرد بالفضاء اهتماما شاعريا أو فنيا أدبيا خاصا، فإن للمؤسسة العسكرية نظرة أخرى، حيث تعمل على توظيف هذا الاهتمام لتتميم المعلومات الناقصة عن هذا الفضاء بغرض الظفر بصور موحية عن طبيعته.
يقدم “لاكوست” دليلا أن المتحكم في تحديد وجهة الرحالة المكتشفين كانت الأطماع الإمبريالية الاستعمارية، فليس من المصادفة أن ينصب اهتمام المكتشفين الفرنسيين على الفضاء المغاربي بالأساس، بينما ينصب اهتمام المكتشفين البريطانيين على صحراء الجزيرة العربية. يذهب “لاكوست” إلى حد القول بأن مفهوم “المنظر الجميل” الذي هو موضوع وصف الأدباء وتغني الشعراء، لم يولد إلا في القرون الأخيرة وأن الأصل فيه هو العقل الجيو إستراتيجي الذي يربط بين “جمال المنظر والقدرة على التصويب نحوه” أو التحكم فيه (visible, visable).
ما كان “لورنس” ليجهل توجيهات “اللورد كورتزن” (Lord Curzon) المؤكدة على أن الدراسات الاستشراقية “واجب نحو الإمبراطورية” وأن التوسل بعلم الجغرافيا هو السبيل الأوحد للقيام بهذا الواجب. يقول “اللورد كورتزن” مخاطبا “الجمعية الجغرافية” (Geographical Society) في سنة 1912: “بفضل علم الجغرافيا، ولا شيء غير علم الجغرافيا، يمكننا أن نفهم حركة قوى الطبيعة الكبرى، وتوزع الساكنة، ونمو التجارة، وتوسع الحدود، وتطور الدول، والنتائج المذهلة التي تفضي إليها الطاقة الإنسانية في جميع تجلياتها. نحن ندرك أن الجغرافيا مسخرة لخدمة التاريخ”.
كثيرة هي المقتطفات من “أعمدة الحكمة السبعة” التي نجد فيها التجسيد الأمثل لروح خطاب “اللورد كورتزن”. تأمل عزيزي القارئ فيما يكتب “لورنس” في المقتطف التالي: “بسبب الأهمية المتزايدة التي أصبحت تتمتع بها منطقة حوران، أصبح لزاما علينا التعرف على لهجتها وبنيتها العشائرية وطبيعة الخصومات القائمة بين العشائر، فضلا عن الأسماء والطرق. كان الشباب الثلاثة، رحيل وعساف وحميد، يلقنونني شيئا فشيئا ما كان يجري حولهم ونحن ندردش أثناء رحلتنا”.
إذا كان هذا الاهتمام ذو الطبيعة العسكرية الاستراتيجية بالفضاء يفسر مهمة “لورنس” ويحكي قصته كصانع خرائط في المؤسسة الإمبريالية، فإنه لا يكفي بالمقابل لتفسير حضور الجغرافيا كقيمة مضافة في “أعمدة الحكمة السبعة”، هذه القيمة التي تجعل القارئ يتلقف الكتاب بوصفه عملا أدبيا راقيا، لا بوصفه تقريرا أو سلسلة تقارير وضعت تحت تصرف جهة عسكرية أو استخباراتية.
حين نتذكر أن الباعث الأول على كتابة “أعمدة الحكمة السبعة” كان باعثا أدبيا يستحث صاحبه على الارتقاء بفن الكتابة إلى المرتبة التي بلغها مع “نيتشه” و”ميلفل” و”دوستويفسكي”، يمكننا أن نذهب إلى القول إن طموحات “لورنس” الأدبية جعلته لا يتوانى في إخضاع المنطق الجيو استراتيجي في التعامل مع الفضاء خدمة لمقاربة أخرى هي أقرب إلى المقاربة الجيو شاعرية.
حين نقرأ سيرة “لورنس” وجملة رسائله ندرك أن انخراطه في الحرب العالمية الأولى هو من جنس انخراط أبناء جيله في هذه الحرب، كانوا يمنون النفس بأنهم سيجدون في الفعل والحركة ما يدفع عنهم الضجر والقلق الوجوديين القائمين وما سيذكي حماستهم الشعرية ويلبي حاجتهم إلى إنجازات بطولية. عندما نقارن عمل “لورنس” ببعض الأعمال التي تصف مغامرات هؤلاء الشباب نجد أوجه شبه كثيرة، إلا أن هناك فرقا جوهريا يتمثل في كون عمل “لورنس” يأخذ الصحراء مسرحا لانبساط الأحداث البطولية، على عكس الأعمال الأخرى التي تصدر عن خنادق أوروبا المظلمة والموحلة.
لم يكن هؤلاء الشباب يكتبون للمؤسسة العسكرية، بقدر ما كانوا يعبرون عن حالة شعورية ملأها التشوق إلى آفاق وجودية أرحب. حتى قبل انخراطه في المؤسسة العسكرية كان “لورنس” يبدي شغفا كبيرا بوصف الأماكن. فقد دفعه الاهتمام بتاريخ القرون الوسطى وبفنون التصوير إلى القيام بمغامرة على متن دراجته الهوائية، وهو لا يزال في سن مبكرة، قادته من إنجلترا إلى بلاد الغال ثم إلى فرنسا، حيث قطع 2000 كيلومتر إلى غاية بلوغ البحر الأبيض المتوسط. تفيدنا رسائله المبعوثة خلال هذه الرحلة بأنه يتمتع بحس أدبي نافذ وبحرص كبير على التفاعل مع المناظر والأماكن تفاعلا جماليا وجوديا.
يعطينا الفصل الأول من “أعمدة الحكمة السبعة” انطباعا قويا بأننا لسنا أمام تقارير تؤرخ لما يعاينه “لورنس” العسكري في الميدان، بل أمام كتابة تتوسل بأسلوب يغلب عليه المجاز الشعري. يتحدث “لورنس” عن “الصحراء العارية” و”السماء اللامبالية” و”الشمس الحارة التي تُخمِّرنا” و”ضروب الصمت التي تعلق بالنجوم” و”الريح اللافحة الضاربة”.
يذهب الشغف بوصف الفضاء بـ “لورنس” إلى درجة يشيح عندها بنظره عن الأشخاص الماثلين أمامه ليسترسل في وصف ظواهر الطبيعة، منساقا وراء لغة المجاز، فيقول مثلا: “كان الوقت زوالا، وكان ضوء الشمس في الشرق، كما هو ضوء القمر، يُغشِّي الألوان النعاس”.
بعد وصف جمال ألوان مساء من أماسي الصحراء ينتقل “لورنس” إلى وصف حالة مرافقيه النفسية فيقول: “يبدو أن رجالي كانوا يحدثون أنفسهم قائلين إن هذا المساء ليس للموت. لأول مرة انهارت أعصابهم، فامتنعوا عن مغادرة مخبئهم ليهدفوا صدورهم لوابل رصاص العدو”. يُمعن “لورنس” في الحديث عن جمال اللحظة الأخاذ وهدوء المكان الذي يفوق كل وصف حتى يقنع القارئ بأن الباعث وراء إحجام مرافقيه البدو عن مواصلة المسير هو إحساس ذو طبيعة فنية بالمكان أو ذوق شاعري.
هذا المقتطف وأشباهه يشهد على ضرب من ضروب الإسقاط التي تحولت إلى سمة من سمات أسلوب “لورنس” البارزة، بحيث يُلاحَظ أنه يتخذ من وصف حالة المحيطين به الشعورية وسيلة لإتمام وصف الأمكنة، دون اكتراث يذكر بحقيقة الواقع التاريخي. إذا كان “اللورد كورتزن” يريد أن يجعل الجغرافيا في خدمة التاريخ، فإن “لورنس” يجتهد في “أعمدة الحكمة السبعة” كي يجعل التاريخ في خدمة الجغرافيا.
إن انزياح “لورنس” عن تاريخ الحرب، أو عن التاريخ عموما، بغرض التعبير عن لحظات وجودية ترتفع فيها الحواجز بين الإنسان والطبيعة، يشهد على توجه أدبي وفكري باتجاه تكثيف الحضور الإنساني في المكان بغرض تخليص هويته من عوالق حضارة أصبحت تورث من القلق أكثر مما تورث من السكينة. وقد استعار “لورنس” من البيئة البدوية مقومات بلاغية تسعف في توصيل أسلوب آخر في الوجود، أسلوب يسمح بتناغم الحياة مع الترحال والجولان.
إن “أعمدة الحكمة السبعة” تقوم شاهدا على أن “لورنس” كان يرغب في توظيف تجربته “الجيوسياسية” لأغراض “جيوشاعرية”، أو لنقل شاهدا على رغبته في إخضاع منطق المؤسسة السياسية العسكري لمنطق الفرد. أمام استحالة تحقق هذا المراد، ظل “لورنس” يتخبط في قلق وجودي رهيب، لا يدري على أي جنب يميل، فلا هو استطاع أن يندمج في مسار مهني من وسط المؤسسة السياسية أو العسكرية، ولا هو استطاع أن يحيى مثقفا مفكرا أديبا. لم تكن الثورة العربية إلا حدثا عابرا في مسار حياة مضطربة، حاول أن يتخذها وقودا لإذكاء روح الإبداع الشعري.
ما كان لـ “لورنس” أن يجد السكينة والهدوء إلا في الموت، فنحن لا ندري إن كان الموت هو الذي اختاره أم هو الذي اختار الموت. تظل حادثة السير التي مات على إثرها مثار جدل. كل يدلي بدلوه في تفسير ما حدث، حتى أن بعضهم يذهب إلى القول إنه رفع سبابته على طريقة المسلمين كأنه يعلن الشهادة قبل موته.
يبقى أن “أعمدة الحكمة السبعة”، إذ تكشف لنا جانبا من جوانب ما وقع، تخفي حقائق كبرى لا يجليها إلا البحث في تاريخ صراع القوى الأوروبية حول المشرق العربي.
(يُتبع)
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.