أعلن علماء معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT) بقيادة فينغ زانغ عن اكتشاف آلية تحرير جيني مشابهة لآلية “كريسبر-كاس” (CRISPR-Cas) التي اكتشفت في الخلايا بدائية النوى كالبكتيريا والعتائق التي تفتقر إلى النواة، غير أن الآلية المكتشفة تعمل في الخلايا حقيقية النواة.
ونشرت الدراسة في دورية “نيتشر” (Nature) في 28 يونيو/حزيران الماضي.
وتعتمد الآلية المكتشفة حديثا على بروتين يعرف باسم “فانزور” (Fanzor)، ويوجد بكثرة في الكائنات حقيقية النوى، ومنه اشتقت الآلية الجديدة اسمها.
تقنية “كريسبر-كاس”
لفهم هذا الاكتشاف بشكل أعمق، فإنه يتعين علينا أولا فهم آلية “كريسبر-كاس”، التي هي اختصارا لـ “التكرارات العنقودية المتناوبة المنتظمة التباعد”.
توجد في البكتيريا والعتائق بدائية النوى تتابعات متكررة من الحمض النووي. ويبلغ طول كل تتابع حوالي 30 قاعدة (الوحدة البنائية للحمض النووي)، وتتكرر هذه التتابعات على نحو منتظم يبلغ 35 قاعده، وتقرأ هذه التتابعات بالترتيب نفسه سواء من اليمين إلى اليسار أو العكس.
لكن ما الدور الذي تلعبه هذه التتابعات في البكتيريا؟
للإجابة عن هذا التساؤل، علينا أولا معرفة أن البكتيريا وغيرها من الكائنات الأولية تتعرض لهجوم دائم ومستمر من الفيروسات إذ تتفوق الأخيرة على الكائنات بدائية النواة في العدد (نسبة الفيروسات إلى الكائنات البدائية هي 10 إلى واحد)، وكذلك في قدرتها على التحور والتغير الجيني المستمر.
وطورت الكائنات البدائية آليات دفاعية لمجابهة الغزو الفيروسي، ومن بينها نظام “كريسبر-كاس” الذي يجيد التعرف على الجينات الفيروسية وتذكرها وتدميرها، وذلك بمساعدة بروتين آخر يعرف باسم “كاس” (Cas)، وهو اختصار لكلمة “البروتينات المرتبطة بكريسبر”.
وطور العلماء هذه الآلية وتم دمجها داخل الخلايا حقيقة النوى (كخلايا الحيوان والنبات)، حتى تستخدم كتقنية تمكنهم من تحرير وتعديل الجينات العطبة أو غير المرغوب فيها. وقد لعبت هذه الأداة الثورية دورا هاما في مجابهة الأمراض، ومكافحة العدوى الفيروسية، ومكافحة الآفات الزراعية.
آلية “فانزور”
لطالما تساءل العلماء عن إمكانية احتضان الخلايا حقيقة النواة لآلية مشابهة تستخدمها في مجابهة العدوى.
وبالفعل، فقد نجح فريق زانغ في اكتشاف آلية مماثلة في الخلايا حقيقة النواة. فطبقا للبيان الصحفي الذي نشره معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا”، أظهرت الدراسة أن بروتينات “فانزور” تستخدم الحمض النووي الريبي (RNA) كدليل لاستهداف الحمض النووي (DNA) بدقة. ويمكن إعادة برمجة “فانزور” لتحرير الجينوم البشري.
ويتفوق نظام “فانزور” على “كريسبر-كاس” بميزة هامة، وهي سهولة إيصاله للخلايا والأنسجة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحسين كفاءته في استهداف مناطق الحمض النووي، مما يجعله أداة قيمة لتحرير الجينوم البشري.
وفي سياق متصل، يشير زانغ، قائد الدراسة من معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا”، إلى أن “أنظمة كريسبر تستخدم على نطاق واسع بسبب سهولة برمجتها، مما يتيح استهداف مناطق مختلفة في الجينوم”.
ويركز زانغ على أن “هذا النظام الجديد يعتبر وسيلة إضافية لإجراء تعديلات دقيقة في خلايا الإنسان، ويعتبر أداة مكملة للتقنيات المتاحة بالفعل لتحرير الجينوم”.
تطبيقات في الطب والحياة
ويهدف مختبر زانغ إلى تطوير الأدوية الجينية التي تستهدف الخلايا البشرية عن طريق التلاعب في الجينات. وقد اكتشف زانغ وفريقه قبل عامين فئة من أنظمة التحرير القابلة لإعادة البرمجة في الخلايا بدائية النواة أيضا، وعرف هذا النظام باسم “أوميغا” (OMEGA)، ويعتمد بدوره على الجينات القافزة أو النطاطة (Jumping genes).
وأظهرت الدراسة الأخيرة وجود تشابهات بين أنظمة “أوميغا” وبروتينات “فانزور”، مما يشير إلى أن إنزيمات نظام “فانزور” تعتمد على آليات توجيه تستند إلى الحمض النووي الريبي لاستهداف وقطع الحمض النووي.
وتمكن العلماء من عزل بروتين “فانزور” من مجموعة متنوعة من الكائنات مثل الفطريات والطحالب وأنواع من الأميبا. وتبين أن نظام “فانزور” يستخدم إنزيمات القطع الموجهة بواسطة الحمض النووي الريبي، ويعتمد على وجود حمض ريبي غير مُشفِّر آخر يسمى “الحمض النووي الريبي أوميغا” (ωRNAs) لاستهداف مواقع محددة في الجينوم.
وتعد هذه المرة الأولى التي يعثر فيها على آلية كهذه في الخلايا حقيقة النواة.
لا يحدث أي آثار جانبية
وتمكن الباحثون من إظهار قدرة نظام “فانزور” على إدخال وتعديل وقص أجزاء من الجينوم البشري كأداة لتحرير الجينات.
في البداية، كانت كفاءة نظام “فانزور” أقل من نظام “كريسبر-كاس” المماثل. ومع ذلك -عن طريق الهندسة المنهجية التي قام بها الفريق- تم زيادة نشاط نظام “فانزور” بنسبة 10 أضعاف.
وتبين للباحثين -على النقيض من بعض أنظمة “كريسبر” و”أوميغا”- أن بروتين “فانزور” الذي عزلوه من الفطريات لا يتسبب في آثار جانبية، مما يشير إلى إمكانية تطويره كأداة فعالة لتحرير الجينوم.
ويمكن إعادة برمجة نظام “فانزور” بسهولة لاستهداف مواقع محددة في الجينوم، ويشدد زانغ على أنه “يمكن تطويره في المستقبل ليصبح تقنية قوية وجديدة لتحرير الجينوم في التطبيقات البحثية والعلاجية”.
تجدر الإشارة إلى أن فريق بحثي آخر، يقوده عضوان سابقان في مختبر زانغ، قد نشر دراسة أولية مشابهة على موقع الأبحاث غير المحكمة “بيو آركايف” (bioRxiv) في 14 يونيو/حزيران الماضي، تناقش الاكتشاف نفسه.
ومن المحتمل أن يفسر هذا سبب ظهور نسخة معالجة من الدراسة على موقع دورية “نيتشر” لتسهيل الوصول المبكر إلى نتائجها، رغم أنها ما زالت تخضع لعملية التحرير كما تذكر الدورية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.