“يتمحور كل السلوك الإنساني حول أمرين: الهروب من الألم، والسعي إلى المتعة. بعيدا عن الألم، قريبا من المتعة، تتكرر الحركة مرارا وتكرارا، هذه الدورة هي جوهر وجودنا البشري. ماذا لو وضعنا أنفسنا هناك بين الألم والمتعة، إن صرنا حراس البوابة لكل من يريد الابتعاد عن الألم، نكون قد غيّرنا العالم، وحينها لن نضطر للقلق بشأن المال أبدا!”.
(شخصية “ريتشارد ساكلر” من مسلسل “painkiller”)
لا يعد مسلسل “بين كيلر” أو “مسكن الألم القاتل (painkiller)”، من إنتاج شبكة نتفليكس، والذي بدأ عرضه منتصف هذا الشهر وحل سريعا على قمة قائمة الأعلى مشاهدة، هو الاقتباس الدرامي الأول لحكاية عائلة ساكلر، ولا نظنه سيكون الأخير. كانت عائلة ساكلر التي وُصفت بأنها “العائلة الأكثر شرا في أميركا” مصدر إلهام لعدد من الأفلام والمسلسلات التي سبقت نسخة نتفليكس الحالية، تتراوح بين ما هو وثائقي ومتخيل، وأهمها: “The crime of the century” و”All the beauty and the blood shed”.
إنها حكاية صعود وسقوط، أو كما تصفها في المسلسل محققة مكتب المدعي العام الأميركي إيدي فلاورز “أوزو أدوبا”: هذه الحكاية مأساة. وبينما تشاهد هذه المأساة تتكشف أمامك عبر حلقات المسلسل، تجعل المعرفة المسبقة بأن الحكاية حقيقية وقع المأساة أكثر ثقلا.
سجل موجز لوقائع المأساة
في عام 1996 حين بدأت عائلة ساكلر وعلى رأسها ريتشارد ساكلر من خلال شركتها “بوردو فارما” طرح عقّار “الأوكسيكونتن” المحتوي على مادة “أوكسيكودون” الفعالة، والتي تعد أكثر فعالية من المورفين المشتقة منه، كانت هناك تخوفات عظيمة من وصف المسكنات الأفيونية بسبب المخاطر العالية لإدمانها. ظلت هذه الأدوية توصف وبحذر شديد فقط لمرضى السرطان ذوي الآلام غير المحتملة.
بدأت “بوردو فارما” حملات دعائية غير مسبوقة للترويج لمسكن الأوكسيكونتن باعتباره دواء سحريا يُمكّن المرضى أخيرا من استعادة حياتهم من أنياب الألم. لم تعد الفئة المقصودة هي من مرضى السرطان، بل مرضى الآلام المزمنة، ثم أغلب أنواع الآلام. لم يعد الأوكسيكونتن مرتبطا الآن بالموت، بل بتحسين جودة الحياة، حيث رُوِّج له باعتباره “الدواء الذي لم تكن تعرف قطّ أنك بحاجة إليه”.
جُنِّد جيش من مندوبي المبيعات، من خريجات الجامعة، لتشجيع الأطباء لكتابة المسكن لجميع أنواع الآلام، ورُوِّج له بأنه آمن تماما، إلى جانب فعاليته المدهشة. لتدرك حجم هذه المأساة التي على وشك الانفجار، نحن الآن أمام دواء بضعف فعالية المورفين ويتناوله الجميع. حققت شبكة الخداع والغواية التي نصبتها “بوردو فارما” رواجا رهيبا للعقار لدرجة وصفه بـ”الحدث الأكبر في عالم الدواء (blockbuster drug)” على غرار أفلام السينما أسطورية النجاح الجماهيري.
صنعت “بوردو فارما” مليارات الدولارات وملايين المدمنين. انتشر العقار كما النار في الهشيم، خالقا ما سُمّي بأزمة المواد الأفيونية أو وباء الأفيونات الذي بدأ في التهام أميركا. وصل عدد المتوفين من جراء الجرعات الزائدة من الأوكسيكونتن عام 2018 إلى نصف مليون أميركي وأضعاف هذا العدد من المدمنين الذين تدمرت حياتهم وحياة عوائلهم.
وصلت التحقيقات في هذه القضية بتهم الاحتيال وانتهاك قوانين هيئة الغذاء والدواء إلى ختامها في عام 2019 بإقرار”بوردو فارما” بالذنب وتغريمها ما يقرب من 6 مليارات دولار. أعلنت الشركة إفلاسها لاحقا، وحُوّلت إلى شركة للمنفعة العامة، لكن لم تُوجَّه أي تهم جنائية للعائلة حتى هذه اللحظة.
كسر الإيهام
تبدأ كل حلقة من المسلسل بأحد أفراد عائلات الضحايا، غالبا الأمهات، يتحدثن لنا مباشرة عبر الكاميرا، يكررن حقيقة أنه بالرغم من أن بعض الأشخاص والأسماء والأحداث والأماكن والحوارات مُتخيَّلة لدواعٍ درامية، فإن ما يفلت من هذا التخيّل هو حقيقة أنهن فقدن طفلا في غمار هذه الكارثة، ثم تبدأ الحديث عن فقيدها. هذه دموع حقيقية وهذا فقد حقيقي لا علاقة له بالخيال الدرامي.
هذا التكنيك المتبع أكثر في السينما الوثائقية يعود للمسرح، حيث أسس الشاعر والمسرحي الألماني “برتولد بريخت” لكسر الإيهام ما سيطلق عليه لاحقا “المسافية البريختية”(1)، حيث تحطيم فكرة تماهي المشاهد السلبي أمام العرض الفني الذي يشاهده وجعله جزءا فعالا ومشاركا في المشهد من خلال التفكير الواعي فيما يتلقاه. يحفز هذا التكنيك المشاهد على التفكير النقدي فيما يشاهده ومحاولة تغييره. هذا اختيار مؤثر لمسلسل يقوم في جوهره على سؤال المسؤولية: مَن السبب وراء هذه الكارثة الممتدة؟ هل هو فقط ريتشارد ساكلر، أم سلسلة طويلة من المشاركين السلبيين الذين وافقوه أو اكتفوا فقط بالمشاهدة؟
تخبرنا المحققة “إيدى فلاورز” في أحد مشاهد المسلسل أنه لو وُجد شخص واحد فقط قاوم باعتراضه أو قوله “لا” في وجه هذا الجنون الذي أراد “ريتشارد” أن يروّج له، لما كنا هنا الآن نتحدث عن ملايين الضحايا.
خطوط السرد
يعتمد المسلسل الذي كتبه “نواه هاربستر” و”ميكا فيتزرمان” على كتابَي “إمبراطورية الألم، التاريخ السرى لعائلة ساكلر” لصحفي النيويوركر “باتريك رادن”، و”مُسكّن الآلام (painkiller)” لصحفي النيويورك تايمز “باري ماير” في خلق مادته الدرامية التي تمتد عبر 3 خطوط سردية أساسية تتحرك بين الماضي والحاضر، ويتم التنقل بينها في تناغم واضح قبل أن تتلاقى في النهاية راسمة بورتريها شديد القسوة لهذه المأساة.
يتناول الخط الأول صعود عائلة ساكلر وتوسع إمبراطوريتها بالتزامن مع بدء طرح عقار الأوكسيكونتن بالأسواق الأميركية. نتابع في الخط الثاني الذي يأخذ مسحة وثائقية المحققة “إيدى فلاورز” وهي تكشف عبر مقابلة ممتدة تفاصيل الجريمة وملابساتها والضالعين فيها، إنها صوت راوي الحكاية. يتناول الخط الثالث حكاية “جلين كريجر” (تايلور كيتش)، أحد ضحايا هذا الوباء الذي بدأت مأساته بوصفة طبية من طبيبه الخاص بعد إصابة عموده الفقري أثناء عمله في ورشته. كل ما كان يحتاج إليه جلين الميكانيكي أن يتخلص من الألم ليستعيد عمله وحياته من جديد، لكن ما بدا لوهلة حلا سحريا لكل مشكلاته ابتلع حياته في النهاية.
ينجح “بيتر بيرج” في شحن سرده بإثارة ودينامية فائقين باعتماده على القطعات المونتاجية السريعة وحركة الكاميرا الدائبة. هناك تيار نابض من الغضب يسري في شرايين السرد، يمنح العمل نغمته المميزة عن بقية الأعمال التي سبق أن قدمت الحكاية نفسها. يحاول المسلسل ألا يغرق في الحزن وهو يسرد واحدة من أكثر الحكايات حزنا في التاريخ الأميركي خلال العقود الثلاثة الماضية، خالقا نوعا من التوازن بين ثقل الحكاية وجاذبية السرد.
فكرة اختصار المحققين في شخصية واحدة هي “إيدي” واختزال الضحايا في شخصية “جلين” جلبت معها شيئا من التنميط لهاتين الشخصيتين، هناك أيضا استغراق في النبرة التفسيرية يأتي أحيانا على حساب الدراما. يظل المسلسل رغم هذه الملاحظات عملا بالغ التأثير وشديد الجاذبية.
الأفق المرعب للحكاية
“- معذرة أيها المأمور.
– سيدتي.
– أنا إيدي فلاور، محققة من مكتب المدعي العام الأميركي، هل يمكنك أن تخبرني بكل ما تعلمه عن الأوكسيكونتن؟
– هل تحبين أفلام الرعب؟!”
(مقتطف من حوار المسلسل)
ينبع جزء كبير من إثارة السرد من مقاربته الحكاية عبر مزجه بين تقاليد دراما التحقيق والجريمة ومسحة من دراما الرعب. يتبع الخط المرتبط بالمحققة إيدي ومحاولاتها تتبع جريمة تفشي إدمان الأوكسيكونتن ورغبتها في إدانة المتسببين في ذلك تقاليد دراما الجريمة والتحقيق، لكنها حين تقف داخل المشرحة وسط الجثث التي تتكاثر حولها للموتى نتيجة الإفراط في الجرعة بينما تظهر الحبات الملونة للأوكسيكونتن داخل معدة الجثث قيد التشريح نكون هنا قد دخلنا أفقا مرعبا للحكاية، حيث حبة الدواء الملونة والبريئة الموصوفة من الأطباء الموثوق بهم تحولت إلى وحش قاتل. في واحد من أكثر مشاهد المسلسل رعبا نشاهد “جلين” يتناول شطيرة مع عائلته في مطعم، لكنه تحت تأثير مضاعفة جرعته يقضم إصبعه مع الشطيرة دون أن يدري، ويستمر في الأكل بينما يسيل دمه في طعامه.
يتحول “ريتشارد ساكلر” إلى “فيكتور فرانكنشتاين”، العالم غريب الأطوار، إنه من أطلق الوحش من عقاله. يبدو “ريتشارد” بأداء “ماثيو برودريك” بعيدا عن الجميع، مقنعا بالعزلة واللامبالاة كأنما لا شيء مما يحدث حوله بقادر على ملامسة قلبه. بوجه خالٍ من أي انفعال وسلوك روبوتي الطابع، لا يخلو من إعجاب بالذات، يقدم “برودريك” بنهجه “المينمالي” في الأداء أفضل أداءات المسلسل.
نراه دائما بصحبة كلبه أو شبح عمه “آرثر”، ملهمه ومثله الأعلى، الرجل الذي أسس إمبراطورية العائلة وإرثها. ينغمس دائما في حوار معه، يستشيره في وقت الأزمات، نراه في أحد المشاهد عقب نجاح ما يراقصه وكأنما يراقص ظله المظلم. لا يقارب المسلسل على نحو سيكولوجي وكأنما لا شيء في خلفية حياته يمكنه أن يبرر ما فعله، لكنه لا يقدمه أيضا بوصفه وحشا.
تفاهة الشر
في مقالة النيويوركر “العائلة التي شيدت إمبراطورية الألم”، يستشهد كاتب المقال بشهادة واحد من المختصين بشأن الإدمان بأن نصيب الأسد من الجريمة خلف أزمة الأفيونات يخص عائلة ساكلر وعلى رأسها بالطبع “ريتشارد”(2).
حين تجلس “إيدي فلاورز” أمام لجنة تحقيق جديدة في عام 2018 وتسأل عن شخصية “ريتشارد”، فإنها ترفض الانسياق وراء فكرة أن هناك شيئا ما في خلفية حياته، جرحا أو عطبا ما يبرر جريمته. تخبرهم: “لا نتحدث هنا عن قصة أصل بات مان (there’s no Batman origin story here)”، وتقصد أن باتمان صار باتمان لأن والده قُتل على يد أحد مجرمي جوثام، بينما ترفض أن تصدق هذا بشأن ريتشارد.
كانت “حنا أرنت” قد منحتنا مصطلح “تفاهة الشر” لتقدم حجة واضحة ضد اختزال الشر في جانب شيطاني أو وحشي لدى المجرم. في الأزمنة القديمة كان الشر ممثلا عبر وحوش قادمة من عالم مظلم، بينما في الأزمنة الحديثة لم يعد الشر حكرا على الوحوش أو مرتبطا بشيء ما خارج عما هو طبيعي.
واحدة من النقاط المثيرة في “painkiller” هي الطريقة التي يُمثَّل بها الشر، فشخصية “ريتشارد” هنا غير مصورة بأي ملامح شر، إنه ليس وحشا أو شيطانا، ولا يرى نفسه كذلك. ما يسري على “ريتشارد” يسري على بقية الضالعين في هذه الجريمة، الطبيب الذي منح موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية لدواء غير مستوفٍ شروط السلامة، مندوبي مبيعات الدواء والأطباء المخدوعين بدعاية أن الأوكسيكونتن هو أكثر الأفيونات أمانا، كل هؤلاء لم يفكروا قط كأشرار أو خططوا للكارثة التي ترتبت على أفعالهم.
ترى “أرنت” أن الشر قد يكون عاديا، تافها، وأحيانا عرضيا، كانت ترى أن الشر قد يولد من غياب التفكير الذاتي أو الجهل. في واحد من مشاهد المسلسل، يخبر أحد الأطباء شانون “ويست دشوفني” مندوبة مبيعات تعمل لصالح “بوردو فارما” بينما يطردها خارج عيادته رافضا ما تروجه عن الأوكيسكونتن: “أنت خطرة لأنك حمقاء”.
دلالة نهاية المسلسل
ينتهي المسلسل بـ”ريتشارد ساكلر” عجوزا ووحيدا داخل بيته الوارف والخالي من أي مظهر من مظاهر الحياة في مواجهة متخيلة مع شبح عمه “آرثر” بينما يقوم الأخير بتحطيمه لأنه حطم إرث العائلة.
آخر ما يسمعه “ريتشارد ساكلر” ونسمعه نحن -المشاهدين- أيضا هو صوت أجهزة إنذار الحريق الذي بدأ به المسلسل أيضا وتكرر خلال بعض حلقاته بوصفه شيئا يقض مضجعه. إنه شيء لا نعرف على وجه اليقين أهو حقيقي أم يتردد فقط في رأسه حيث يستمر في سماعه حتى بعد إغلاق جهاز الإنذار(3). ما الذي يعنيه ذلك؟ بالنسبة لـ”ريتشارد”، الذي لم نره قطّ يقر بذنبه في أحداث هذه الكارثة، هذه إشارة على إحساس عميق بالذنب يسكن أعماقه اللاوعية، كصوت لا يمكنه إسكاته. ربما هو جزء من بارانويا الشخصية ونظرتها للعالم.
وربما تدل النهاية أيضا على أن “ريتشارد” لا يستطيع أن يُخرج من رأسه فكرة أنه يوما ما سيُعاقَب على ما فعله، وأنه ربما يستحق هذا العقاب. ربما هو تذكير لنا نحن -المشاهدين- بأن العدالة لم تتحقق بعدُ في هذه القضية. أيا كان ما يعنيه هذا الصوت، فإنه سيظل يتردد داخل رأسه لبقية أيامه.
هذا بورتريه قاسٍ ومرعب لمأساة حقيقية تم عرضها بطريقة مؤثرة وفعالة إلى حد كبير.
_________________________________________________
المراجع:
- (1) المسافة الجمالية: حدود المفهوم والتطبيق في النص الشعري
- (2) the family that built the empire of pain
- (3) PAINKILLER Netflix Ending Explained
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.