إن للشاعر المفكر كينث وايت (Kenneth White) في التعبير عن الإحساس بالضجر داخل الحضارة الغربية والترغيب في الخروج من مضايقها ما ليس لغيره من الكتاب والشعراء والمفكرين المعاصرين. فمشروعه الفكري والأدبي يقترن أساسا بالجولان الفكري كما يدل على ذلك عنوان أطروحته الجامعية التي عرف بها في السياق الفرنسي وهو طالب جامعي: “العقل الجائل” (L’Esprit nomade)، والجولان الفكري عنده وسيلة الإنسان العاقل للخروج مما يسميه “طريق الغرب السيار” (the motorway of Western Civilisation)، هذا الطريق ذو الوجهة الواحدة الذي يحد آفاق الإدراك في الوجود ويحول دون تحصيل الشعور بالانتماء إلى الكون الفسيح.
يأتي على رأس اهتمامات كينث وايت الفكرية اهتمامه بتلك الوجوه التي يطلق عليها اسم “وجوه من الخارج” (Figures du dehors) كما نجد في عنوان أحد كتبه البارزة. وهذه الوجوه هي قامات علمية حاولت عبر تاريخ الغرب الانعتاق من أسر العقلانية التي أفضت بالمنظومة الحضارية الغربية إلى الضيق والتأزم.
في هذا الكتاب، وهو يستعرض مواقف من سبقه من المفكرين والأدباء والعلماء، يقول متحدثا عن نفسه إنه لا يريد أن يتخذ موقفا، لأن في اتخاذ الموقف وقوف، والحال أنه لا يعنى بشيء قدر عنايته بفتح الباب على موطن إقامته، أي “الخارج”، وكأننا به يردد قول شاعرنا العربي “أبو الشمقمق” حين يقول:
برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب
يروي كينث وايت في كتاب من كتب رحلاته (Travels in the Drifting Dawn) كيف جمعته المصادفة أثناء مروره من تونس بشخص غريب الأطوار لم يتوقف عن الحديث عن مغامراته الغرامية أيام الشباب وهو يردد: “لو أسمعتك تفاصيل قصتي كاملة لوجدتَ فيها ما يكفي لتكتب كتابا”.
يقول وايت إن فكرة تأليف مثل هذا الكتاب قد راودته أيام شبابه في أسكتلندا، لولا أنه أدرك أن زمن هذا النوع من الكتابة قد ولّى، مؤكدا على أن ما يستهويه الآن ليس هو الدراما أو الكتابة الرومانسية العاطفية، بقدر ما هو التأهب للرحيل مع الفجر الجديد بحثا عن حقيقة الانزياح كما تتجلى عبر “أرابيسك” العقل الحر.
وجد “وايت” ضالته في الرحلة من وطن إلى وطن، سيرا في الأرض. فالرحلة عنده ليست وسيلة يدفع بها آفة الوجود في فضاء حضاري تعم فيه الغفلة فحسب، بل هي وسيلة لإعادة اكتشاف أنماط ثقافية تجلي تفاعل الإنسان الفطري مع الأرض، موطن الحياة الأصلي.
يرى “وايت” أن في اقتفاء أثر هذا الإنسان عبر الثقافات ما يجدد صلتنا بالأرض، وفي تجديد علاقتنا بالأرض ما يجدد أسلوبنا في الكلام والكتابة، وأخيرا ما يجدد نظرتنا إلى الكون والحياة ويخرجنا من ضيق عوالمنا ذات البعد الواحد، نحو العالم المفتوح.
إن اهتمام “وايت” بأنماط القول والكتابة التي هي تعبير عن علاقة قوية بالأرض أدى به إلى ابتكار مفهوم سيصبح ذا شأن في السياق الثقافي والفكري الأوروبي عموما، ألا وهو مفهوم “الجيوشاعرية” (Geopoetics) الذي يعبر، كما تدل مكوناته، عن رغبة في بلوغ ضرب من القول الشعري يكون مناسبا للحديث عن الأرض، على غرار علم “الجغرافيا” الذي هو في أصله مكون من لفظتي (Geo) التي تفيد الأرض، و(graphy) التي تفيد معنى الكتابة أو الخط، ومعناهما معا يفيد “رسم الأرض” أو “خط الأرض”. يسعى “وايت” من خلال مفهوم “الجيو شاعرية” إلى إبراز فكرة مفادها أن في إعادة رسم خرائط الأرض (Landscape) عبر توسط القول الشعري، أي قول يطبعه الحس الفطري القوي، ما يجدد خرائطنا العقلية (Mindscape) البالية التي لا تسعفنا في تمثل حقيقة الأرض والوقوف عند معالم الجمال فيها.
يتخذ “وايت” من وصف الأرض وسيلة لتصفية النفوس مما يعلق بها من أكدار الحضارة المادية النفعية الواقعية. ومما يُستحسن له ويُستَجاد أن لغته تمزج مزجا قويا بين الحس والتجريد، بين القول الشعري والنقد العقلي، حتى أن بعض النقاد يذهبون إلى القول إنهم يجدون في مشروعه الفكري الوصف الأقوى والأمثل لحقيقة ما بعد الحداثة. فالمعنى الذي يُجلّيه وايت لهذه التسمية يفيد البحث عن منفذ يؤدي إلى خارج الحداثة، عوض ممارسة النقد من داخلها، أو البناء على أنقاضها، أو الوقوف على نفس الأرضية المفاهيمية والفكرية التي انطلقت منها.
يرى “وايت” أنه من الضروري أن نتخذ من أزمة الحداثة فرصة لتخليص البصر من محسوسات المدينة الحديثة التي لا تدل على جواهر الأشياء، وفتح البصيرة على أبعاد وأسرار يجليها التأمل في الكون المعطى.
هكذا يضع “وايت” سؤال البيئة في إطار أرحب ويحمل قضية الأرض على المحامل التي تتجلى معها حدود الخطاب الإيكولوجي المحجوب بالحضارة الغربية. من يقرأ أعماله الكثيرة يدرك أنها أعمال تستوعب الخطاب الإيكولوجي، في حين أن هذا الخطاب لا يستوعبها.
بالإحالة على الوعي الكوني، يحاول “وايت” أن يرفع عن العقل المهتم بسؤال البيئة حجابين: حجاب الخطاب السياسي، الذي يسعى إلى تحويل الاهتمام بعلاقة الكائن الحي بالأرض إلى برنامج سياسي، وحجاب الخطاب “العِلْمَوي” الذي يتعلل أصحابه بالبحث عن الوسائل التقنية لتنظيف البيئة وتخليصها مما فيها من فساد ينتج عن نمطنا الحضاري.
يرى “وايت” أن جوهر المشكلة يكمن في المقولات العقلية المستحكمة التي تحدد نظرتنا لذواتنا وللطبيعة من حولنا. حين نعتزل هذه المقولات نُوهَب الحكمة والقدرة على تحقيق التوازن في الكون. يكفي أن نتأمل في أنماط التعريفات والحدود التي تأسر عقولنا، منذ ألفي سنة على أقل تقدير، كي ندرك فداحة الأمر.
لقد درجنا، منذ أن تحول العقل البشري مع أرسطو إلى مجرد أداة (أورغانون) نُعرِّف بها الأشياء، على تعريف الإنسان بوصفه حيوانا اجتماعيا بطبعه. والواقع أن الإنسان، قبل أن ننسب إليه هذه الصفة، أي صفة القابلية للاجتماع، هو “كائن”، أي تتحدد ماهيته بالانتساب إلى الكون أولا، كما يتجلى ذلك بوضوح للناطقين باللغة العربية مثلا.
يسعى “وايت” عبر السياحة في الأرض والجولان في مضمار الفكر إلى التنبيه على حدود هذا العقل الأداة والإشارة إلى سبل الخروج من مضايقه إلى رحابة الأرض. يقول في معرض وصفه لمآزق الحضارة الغربية المهيمنة اليوم واستشرافه لآفاق ثقافية جديدة: “لقد أصبح الرهان اليوم على شيء يتجاوز الأورغانون (الأداة أو الآلة) الأرسطي (الذي كان عنوان الحقبة الكلاسيكية)، وأورغانون “فرانسيس بيكون” الجديد (الذي كان عنوان الحداثة)، وصرنا نستشرف أورغانون اليوم والغد، أورغانونا ذا طبيعة “كونية شاعرية”. (OrganumCosmo-poeticum).
يلوح لنا ونحن نسافر مع وايت من مكان إلى مكان، أن مقصود المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين الذين يحيل عليهم، وإن اختلفت مسالكهم، يظل مقصودا واحدا، ألا وهو طلب الخروج من الأرضية المفاهيمية التي تسجن عقل الإنسان داخل الحداثة الغربية، باتجاه أرضية جديدة تسمح بإعادة صياغة العلاقة بين العقل والكون واللغة.
نفهم من أشعاره أن بواسطة اللغة، بوصفها لغة شعور، لا بغيرها، يمكننا أن نحافظ على العلاقة قائمة بين الكائن العاقل وبين الكون.
كل أعمال وايت الإبداعية والتحليلية تشير إلى أن أزمة البيئة هي في أصلها جزء من تجليات أزمة حضارية عميقة. فالحضارة الغربية المهيمنة اليوم تقوم على عقلانية باترة، عقلانية تشترط التخلي عن الوجود الحسي في الطبيعة قصد تحقيق السعادة في عالم من صنع عقل الإنسان. ليست الأزمة أزمة طبيعة تحتاج إلى من يدافع عنها، بل هي أزمة إنسان مبتور، تحجبه النظرية عن النظر، يحجبه علمه المحدود عن التأمل في العالم اللامتناهي.
إن لوايت أسلوبا مميزا في الكتابة يحملنا إلى آفاق أبعد من الخطاب الذي يقف عند حدود الدفاع عن الأرض. هو أسلوب ينطوي على رغبة مقيمة في التذكير بأن جوهر الأزمة اليوم يكمن في خطاب عقلاني يفصل الإنسان عن الأبعاد التي تتحقق معها كينونته، الأبعاد التي يتكثف معها شعوره بالعالم الطبيعي حتى وهو يتقلب في أطوار الحضارة من طور إلى طور.
إننا اليوم نراهن على التكنولوجيا كي نجد حلولا لمعضلة البيئة، والحاصل أن في هذه المراهنة انغماسا في منطق فاسد تنطمس معه الحقيقة، الحقيقة التي مفادها أن حاجة الإنسان إلى ربط ذاته بأبعاده الكونية تفوق حاجته إلى إيجاد حلول تقنية لعالمه الصناعي.
تذكرنا أعمال “وايت” بأن حاجتنا إلى الشعر، أي إلى لغة تذكي شعورنا بالوجود الأصيل، لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى تقنية تُزيّن لنا حضورنا في عوالمنا الصناعية، وأن حاجتنا إلى تجديد النظر في الكائنات التي تحيط بنا أكبر من حاجتنا إلى الانزواء في جحور نظرياتنا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.