تحدث ندرة المياه (1) عادة عندما لا تتمكن المجتمعات من تلبية احتياجاتها منها، إما لأن موارد المياه غير كافية وإما لتهالك البنية التحتية من المرافق المخصصة لنقل الماء وتنقيته؛ فعلى سبيل المثال، دمرت الحرب في أوكرانيا البنية التحتية، تاركةً أكثر من ستة ملايين شخص دون إمكانية للحصول على مياه صالحة للشرب عام 2022.
بالنسبة إلينا، ما دامت هناك مياه ما زالت تتدفق من صنابير منازلنا؛ عادة ما نشعر أن أزمات شح المياه وما يمكن أن تؤججه من حروب بعيدة جدا عن عقر دارنا، لكن للأسف الوضع عكس ذلك، بحسب تقرير جديد نشره معهد الموارد العالمية (WRI) منذ أيام، فهناك نحو 15 دولة واقعة بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعاني بالفعل من “الإجهاد المائي”، وبحلول عام 2050 (2) ستكون هذه البلدان هي الأكثر تضررا من أزمة مياه عالمية من المتوقع أن تطول نصف سكان الكوكب.
الأمر نفسه أشار إليه تقرير أعدَّته الأمم المتحدة (3) في مؤتمر تنمية المياه لعام 2023 ونُشر في مارس/آذار الفائت؛ قائلا إن هناك ما بين مليارين إلى ثلاثة مليارات شخص في جميع أنحاء العالم يعانون من نقص المياه لمدة شهر واحد على الأقل كل عام، الوضع الذي من المتوقع له أن يتفاقم على مدار العقود القادمة ليشمل 60% من سكان العالم.
البلدان العربية الفقيرة أكثر مَن سيعاني
تحكي الأردنية (4) رجاء البوابجي ذات الـ 64 ربيعا لصحيفة نيويورك تايمز العام الماضي أنها خلال أيام الأسبوع تعمل محامية لحقوق الإنسان، لكن ما أن يحل يوم الجمعة حتى تتحول إلى ربة منزل، تتمحور حياتها حول التنظيف المحموم وغسيل الملابس والصحون وطبخ وجبات كافية لعدة أيام، وذلك لأن الجمعة هو اليوم الذي تتدفق فيه المياه من صنبور منزلها. هذا ليس حال رجاء وحدها، لكنه حال الكثير من النساء الأردنيات اللواتي اعتدن على أن تصلهن إمدادات المياه مدة 36 ساعة فقط في الأسبوع، لكن تلك الفسحة القليلة من الوقت آخذة هي الأخرى في التضاؤل. فالأردن التي تُعَدُّ بيئتها واحدة من أكثر المناطق الجافة في العالم على وشك أن تصبح أكثر جفافا، خاصة مع موجات ارتفاع الحرارة القادمة وتزايد تعداد السكان، لذا فهي على قائمة أكثر البلدان معاناة من “الإجهاد المائي”.
لكن الأردن ليس البلد العربي الوحيد الذي يعاني ندرة المياه، يُعَدُّ وضع (5) منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو الأسوأ من حيث الإجهاد المائي، إذ تستقبل المنطقة كمية أقل من الأمطار مقارنة بالمناطق الأخرى، كما أن بلدانها سريعة النمو السكاني، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على المياه بشكل دائم. وفي الوقت الذي يستقر فيه الطلب على المياه في البلاد الأكثر ثراء مثل الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا؛ يهدد “الإجهاد المائي” اقتصاديات الدول النامية وكذلك أمنها الغذائي، وقد ذكر التقرير أكثر من 25 دولة تعاني من الإجهاد المائي حاليا بينها: البحرين والكويت ولبنان وعمان وقطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وليبيا واليمن وإيران والأردن وتونس والعراق والهند وسوريا.
رغم ذلك تستطيع دول الشرق الأوسط الأكثر ثراء تلبية احتياجاتها من المياه حتى الآن. مثلا تستورد الإمارات العربية المتحدة كل طعامها تقريبا؛ مما يخفف من الحاجة إلى استخدام المياه في الزراعة. كما تعتمد العديد من دول الشرق الأوسط الثرية على تحلية مياه البحار، وهي عملية مكلفة وتستهلك الكثير من الطاقة وبالتالي لا تقدر عليها الدول الأكثر فقرا.
في سوريا مثلا، ملايين الأهالي لا يستطيعون الوصول حاليا إلى إمدادات المياه، فالكثير من البنية التحتية التي كانت تزود السوريين بالمياه النظيفة والصرف الصحي الأساسي أصبحت مرافقها غير صالحة للعمل؛ مما تسبب في انخفاض إمدادات المياه بنسبة 40% مما كانت عليه قبل الحرب.
في عام 2021 مثلا (6)، توقفت محطة ضخ المياه في شمال سوريا عن العمل مدة 8 أشهر نتيجة انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات وجفاف معظم الآبار، هذا أجبر سكان الشمال على شراء احتياجاتهم من المياه عن طريق الصهاريج التي تملأ خزاناتها من الأنهار الملوثة، وفي بعض المناطق كانت أزمة نقص المياه شديدة إلى درجة تخلي المدنيين عن بعض أساسيات النظافة الشخصية مثل غسيل اليدين، وهذا لأنهم كانوا بحاجة إلى الماء للشرب. تسبب ذلك بالنهاية في تفشي مرض الكوليرا (7) بين الأهالي، وقد أُبلغ عن أكثر من 60 ألف حالة كوليرا مشتبه بها في سوريا حتى أواخر الصيف الماضي.
شبح الكوليرا لا يهدد سوريا وحدها، ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي أُبلغ عن تفشي الكوليرا في لبنان، ورغم أنه بلد غني بموارده المائية، فإن لبنان يعاني جراء أزمة مالية حادة بالإضافة إلى أزمة الوقود، وقد دفع هذا الوضع مرافق البنية التحتية للبلاد (8) التي كانت متهالكة بالأساس إلى حافة الانهيار، مما قاد البلاد في النهاية إلى هذا المصير. فمثلا يتم تصريف مياه (9) الصرف الصحي مباشرة في الأنهار والوديان دون معالجة مناسبة، حيث يجري معالجة 8% فقط من مياه الصرف الصحي بشكل صحيح، الأمر الذي أدى إلى تلوث الموارد المائية اللبنانية، ووفَّر بيئة خصبة لانتشار الأمراض المنقولة عن طريق المياه.
أما إذا أردنا أن نعرف ما يمكن أن تفعله التغيرات المناخية ببلد، فعلينا النظر إلى اليمن (10)، وهو بلد ذو طبيعة قاحلة ويعتمد فلاحوه على الآبار الجوفية ومواسم هطول الأمطار في الزراعة، لكن استهلاك المياه الجوفية كان أكبر بكثير من قدرة الآبار على التجدد، حيث شكلت عمليات سحب المياه العذبة 168% من إجمالي موارد اليمن من المياه المتجددة، ونتيجة للتغيرات المناخية تفاقمت أزمة شح المياه في البلاد بطريقة غير مسبوقة.
هذا بخلاف الأزمة بين مصر وإثيوبيا التي من الممكن أن تتطور إلى حرب مائية وشيكة، خاصة أن إثيوبيا خفضت بنسبة كبيرة حصة مصر من المياه، الأمر الذي استدعى من مصر أن تطالب بحقوقها في مياه النيل على أساس المعاهدات السابقة، لكن هذه المعاهدات لم تستطع أن تردع إثيوبيا عن بناء “سد النهضة الضخم” لتوليد الطاقة الكهرومائية.
هل يصبح الماء هو ذهب المستقبل؟
بحسب تقرير (11) الأمم المتحدة، هناك واحد من كل أربعة أفراد في العالم ليس لديهم وسيلة للوصول إلى ماء شرب نظيف. ويؤدي انعدام الأمن المائي إلى عدة حالات من عدم الأمان الأخرى، فمثلا يمكن أن تتسبب ندرة المياه في انقطاع الكهرباء وإظلام المدن، إذ عادة ما تستهلك المحطات التقليدية لتوليد الكهرباء عن طريق (الفحم أو النفط أو الطاقة النووية) كميات كبيرة جدا من المياه لأغراض التبريد، وذلك بحسب ما جاء في ورقة بحثية (12) نُشرت عام 2019 لمركز أبحاث تابع للاتحاد الأوروبي، إذ كشف الباحثون أن توليد الكهرباء لكل مقيم في أوروبا يتطلب نحو 1300 لتر من المياه في اليوم، وبحسبة صغيرة يمكنك أن تعرف كمية المياه اللازمة لإنارة منازل شعب بأكمله طوال العام.
إذا أردنا معرفة التأثير الخطير لندرة المياه على الكهرباء، فلا يوجد نموذج أوضح من الهند، إذ تسببت ندرة المياه في مشكلة كبيرة لقطاع الطاقة في البلاد، وذلك لأن 90% من محطات الطاقة الحرارية (13) في الهند التي تزود البلاد بمعظم الكهرباء تعتمد على المياه العذبة للتبريد، ونتيجة انخفاض إمدادات المياه في الهند بين عامي 2017-2021 فقدت البلاد نحو 8.2 تيراواط في الساعة من الطاقة، وهو ما يكفي لتزويد 1.5 مليون أسرة هندية بالكهرباء مدة خمس سنوات.
في الهند (14)، تلك الدولة التي يقطنها نحو 18% من سكان العالم، ما إن يأتي الصيف حتى تغدو المياه سلعة ثمينة كالذهب، وفي الأحياء الهندية الفقيرة يُعَدُّ وقوف الأهالي في طوابير حاملين الأواني في انتظار ملئها بالماء من الصهاريج والصنابير العامة في الشوارع مشهدا شائعا، وفي عام 2018، نشرت وكالة “بي بي سي” الإخبارية تقريرا (15) يشير إلى أن الهند تواجه أكبر أزمة مياه في تاريخها، حيث يعاني أكثر من 600 مليون مواطن من شح المياه وفقا لمصدر حكومي، كل هذا ولم نتحدث عن موجات الجفاف والفيضانات التي تضرب البلاد نتيجة للتغيرات المناخية، فقد أظهرت البيانات (16) الصادرة عام 2021 أن خزانات الهند عموما تحتوي على مياه مخزنة بنسبة أقل بنحو 6% مما كانت عليه في التاريخ نفسه من العام الذي سبقه، كما جرى ملء الخزانات حتى نصف سعتها.
يتوقع تقرير معهد الموارد العالمية (WRI) الأخير (17) أن تستمر معاناة الهند مع ندرة المياه لتصل ذروتها عام 2050 بما يؤثر على الناتج المحلي للبلاد بمقدار يزيد على النصف، هذا التأثير يطول إلى جانب الهند ثلاث دول أخرى من الأكثر تضررا هي تركيا ومصر والمكسيك، إذ وفقا للبيانات سيتعرض إجمالي الناتج المحلي العالمي لإجهاد مائي مرتفع بنسبة 31% -وهو ما يعادل خسارة 70 تريليون دولار أميركي- بحلول العام 2050.
لكن مشكلة اعتماد الكهرباء على المياه ليست حالة عدم الأمان الوحيدة التي من الممكن أن نواجهها، فإذا لم يكن لديك ما يكفي من المياه لزراعة الغذاء، فسوف ينتهي بك الحال إلى انعدام الأمن الغذائي. وقد حذرت الأمم المتحدة في تقرير نُشر عام 2020 (18) من أن مليارات الأشخاص يواجهون الآن خطر الجوع الناجم عن ندرة المياه، الأمر الذي من أجله دعت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) الحكومات إلى معالجة أزمة ندرة المياه المتزايدة سريعا، إن أردنا تجنب أزمة الغذاء.
تستخدم (19) الزراعة وحدها ما يصل إلى 70% من إمدادات المياه في العالم، وتلك التحديات التي تواجهنا ستتفاقم مع التغيرات المناخية القادمة وما ينتج عنها من جفاف وفيضانات وعدم إمكانية التنبؤ بهطول الأمطار، فلكل درجة مئوية (20) زائدة في متوسط درجة الحرارة العالمية، يتوقع خبراء الأمم المتحدة انخفاضا في موارد المياه المتجددة بنسبة 20%. ومن المتوقع أن يؤدي الاحترار العالمي إلى زيادة عدد المناطق المجهدة مائيا، كما أن ارتفاع درجات الحرارة يسرع من تبخر المياه من التربة.
بحلول عام 2050، من المتوقع (21) أن يصل عدد سكان الكوكب إلى 10 مليارات شخص، وهم بحاجة إلى تأمين غذائهم، ومن أجل ذلك يحتاج العالم إلى إنتاج سعرات حرارية غذائية أكثر بنسبة 56% مما كان عليه الحال في عام 2010، لكن 60% من الزراعة العالمية تعاني بالفعل بفعل الإجهاد المائي الشديد، خاصة المحاصيل التي تحتاج إلى كميات كبيرة من مياه الري مثل قصب السكر والقمح والأرز والذرة، فما بالك بالوضع مع التغيرات المناخية القادمة، كل هذا يجعل أمننا الغذائي في خطر، وما لم نتوصل إلى حلول سريعة، فإن ندرة المياه في المناطق القاحلة ستؤدي -بحسب بعض التقارير- إلى نزوح مئات الملايين من الناس بحلول عام 2030.
————————————————————————————
المصادر:
(1) Water Stress: A Global Problem That’s Getting Worse
(2) Extreme water stress faced by countries home to quarter of world population
(3) Imminent risk of a global water crisis, warns the UN World Water Development Report 2023
(4) Jordan Is Running Out of Water, a Grim Glimpse of the Future
(5) Water Stress: A Global Problem That’s Getting Worse
(6) A Harsh Reality: Millions in Northern Syria Lack Access to Clean Water
(7) Cholera in the Time of Assad: How Syria’s Water Crisis Caused an Avoidable Outbreak
(8) Amid Lebanon’s perfect storm of crises, water demands attention
(9) Water Crisis in Lebanon: A Long Journey to Recovery
(10) A Storm Without Rain: Yemen, Water, Climate Change, and Conflict
(11) Billions of people lack access to clean drinking water, U.N. report finds
(12) The consumptive water footprint of the European Union energy sector
(13) Parched Power: Water Demands, Risks, and Opportunities for India’s Power Sector
(14) How is India addressing its water needs?
(15) India facing the ‘worst water crisis in its history’
(16) How Water Challenges Threaten India’s Energy Security
(17) 25 Countries, Housing One-quarter of the Population, Face Extremely High Water Stress
(18) Water scarcity threatens food security for billions
(19) Global water crisis could ‘spiral out of control’ due to overconsumption and climate change, UN report warns
(20) Water Stress: A Global Problem That’s Getting Worse
(21)25 Countries, Housing One-quarter of the Population, Face Extremely High Water Stress
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.