بيروت – صعودا على درج مار نقولا من شارع الجميزة إلى الأشرفية، نعبر حي “السراسقة” الذي ينازع بين عراقة وأمجاد الماضي وبين مخاوف وتحديات الحاضر لبيروت. ثم نصل إلى متحف “سرسق”، الذي توافد إليه مئات الزوار في 26 مايو/أيار احتفاء بإعلان عودته إلى الحياة.
وانتهت أعمال تأهيل متحف “سرسق” بتمويل إيطالي وفرنسي ولبناني وبعض الجمعيات المحلية والإقليمية المعنية بحماية التراث، وذلك بعد 3 سنوات من الإغلاق القسري بسبب دمار هائل أصابه في تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.
وفي باحته الواسعة التي تجمهر فيها لبنانيون وأجانب للاستماع إلى الكلمات الافتتاحية والحفل الموسيقي، بدا الجميع متحمسًا للدخول إلى القصر الأبيض العملاق ذي المدرجين الكبيرين والزجاج الملون والقناطر والزخرفات، حيث تمزج عمارته بين الفنين الإيطالي والعثماني.
يضم متحف “سرسق” مجموعة ضخمة وأعمالًا فنية جعلت منه أول متحف عام ووحيد للفن الحديث والمعاصر في بيروت، بدا تجسيدًا للعلاقة الجدلية بين المدينة كساحة لنضال سياسي وثقافي وتوثيقي للذاكرة، وبين الانفتاح على مختلف المدارس الفنية والفكرية المتعارضة.
نسأل إحدى الزائرات الفرنسيات عن رأيها بما شاهدته في متحف “سرسق”، فتجيب الجزيرة نت: “أشعر أنني أقرأ تاريخ مدينة بأكملها على الجدران وفي اللوحات وقصاصات الجرائد. المتحف عبارة عن تحفة نادرة لتاريخ بيروت”.
الافتتاح الرابع
تاريخيا، افتتح متحف “سرسق” أبوابه لأول مرة سنة 1961، بعد وفاة صاحبه نقولا إبراهيم “سرسق” (1875 ــ 1952)، الذي يتحدر من عائلة أرستقراطية سكنت المدينة منذ القرن التاسع عشر، وأوصى بوهب قصره لبيروت حتى يكون متحفًا للفن المعاصر بعد وفاته، ولم تتحقق أمنيته إلا بعد 9 سنوات بسبب معركة قانونية حول تحويله إلى متحف في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون (1900 – 1987).
وبقي المتحف مفتوحًا على مدار 6 عقود مع انقطاعات ارتبطت بالأحداث والتحولات الاجتماعية والسياسية للبنان بموازاة الإنتاج الفني.
وهكذا، شهد متحف “سرسق” 4 محطات من الانقطاع:
-
- الأولى: بين عامي 1970 و1974، بهدف إنجاز مشروع تنفيذي من قبل المهندس المعماري غريغوار سيروف، من أجل تحويل القصر من مساحة سكن إلى مساحة عرض، فأعاد فتح أبوابها قبل عام من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1989).
- الثانية: افتتاح المتحف سنة 1982 بعد انقطاع دام نحو 8 سنوات بسبب الحرب الأهلية.
- الثالثة: بين 2008 و2015، وهي سنوات شهد فيها أعمال ترميم وتوسعة أضافت إليه 4 طوابق وتوسعة بنحو 5 مرات.
- الرابعة: بين 2020 و2023 بسبب تفجير المرفأ.
ندوب الانفجار
وفيما يبعد “متحف سرسق” نحو 800 متر من مرفأ بيروت، ألحق الانفجار دمارا هائلا في مختلف طبقاته وبواباته الحديدية التي يصل عمقها إلى نحو 16 مترًا والمصاعد والأسقف المعلقة والمناوِر والكُسوات التراثية الخشبية المنحوتة يدويا.
وبعد عملية الترميم الضخمة التي شهدها، تمكن القائمون عليه من تركيب نظام كهروميكانيكي جديد واستبدال جميع النوافذ الملونة وترميم الزخارف الخشبية؛ إضافة إلى استعادة الأعمال الـ55 من مجموعته التي تعرّضت للتَلَف، ومن بينها لوحتان “دون عنوان” (مواساة) رسمها الفنان اللبناني بول غيراغوسيان في عام 1970، وبورتريه لنقولا “سرسق” رسمه الفنان الهولندي الفرنسي كيس فان دونغن في عام 1939، وذلك بعدما تكفل فريق ترميم مركز “بومبيدو” في باريس بترميمها، وهو أحد أكبر متاحف الفن المعاصر عالميا، لتعود كما كانت.
وفي أبريل/نيسان الماضي، رُكبت الألواح الشمسية على سطح متحف “سرسق” كجزء من مشروع منظمة “يونسكو” تعزيزًا للاستدامة في ظل الأزمة المالية التي يشهدها؛ وفي كلفة إجمالية للترميم تجاوزت المليون دولار.
وخلال الافتتاح، قال رئيس لجنة متحف “سرسق” طارق متري، “تمكنا من ترميم المتحف بإمكاناتنا ومساهمات أصدقائنا، وأبرزهم: التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ألف)، وزارة الثقافة الفرنسية، الصندوق العربي للثقافة والفنون، المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، معهد غوته، الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي، منظمة اليونسكو وعدد من المؤسسات اللبنانية”.
جولة المعارض
داخل متحف “سرسق”، نتجول بين الزائرين في معارض موزعة على طبقاته، وهي موجات الزمن، ورؤى بيروت، وأنا جاهل، وطريق الأرض، وإيجيكتا.
وفي الطابق الأرضي للمتحف، يوجد معرض “موجات الزمن” الذي أشرفت عليه مديرة المتحف كارينا الحلو، وتضمن أعمالًا لفنانين لبنانيين أمثال عارف الريّس وجان خليفة وسمير خدّاج وسامية عسيران وشفيق عبود وسعيد عقل، وفق ما تشرح للجزيرة نت، المستشارة الإعلامية في المتحف رنا نجار.
وتطلعنا رنا نجار على لوحة سامية عسريان عن مجزرة قانا، ولوحتي جان خليفة عن “الخوف”، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حين قصفت مليشيات لبنانية مخيمات فلسطينية في بيروت.
وفي معرض “طريق الأرض” للفنانين مروى أرسانيوس وأحمد غصين وسابين سابا، دخل الزوار لمشاهدة شريطين مسجلين روى أحدهما رحلة ترميم المتحف، مع صور ممهورة بعبارات مثل “لا يجوز توريث الأرض”. وبحث هذا المعرض الجماعي في قضية الملكيات العقارية وعمليات الأقلمة والترسيم التي تجري من خلال الأراضي، وعلاقة الفرد والجماعات بالأرض.
وفي المقابل، كان معرض “إيجيكتا” عبارة عن تكثيف سمعي بصري للفنان الموسيقي زاد ملتقى، واستعرض معرض “رؤى بيروت” للزائرين مجموعة الفنان الراحل فؤاد دباس (1930-2001) الذي أسس كبرى المجموعات العالمية من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية عن لبنان والشرق الأوسط، مع فيديو عرض نحو 30 ألف صورة مدمجة حول المباني التراثية في بيروت.
ومن المحطات اللافتة في المتحف، معرض “أنا جاهل” الذي تدور مقتنياته حول صالون “الخريف والمتن الفني الثقافي لعدد من رواد الفن التشكيلي في لبنان.
تاريخيً، وبحسب ما تطلعنا رنا نجار، يعد “معرض خريف” إرثا بيروتيا منذ افتتاح متحف “سرسق”، وكان بمثابة صرح أكاديمي درب الفنانين الشباب، وتضمن أعمال الفنان جورج قرم السريالية.
ومن أكثر اللوحات إثارة في المعرض، أعمال للرسام الفلسطيني بول غيراغوسيان (1926 – 1993)، أحدها تحدثت عن هجرة الفلسطينيين سنة 1948، إضافة إلى لوحة دون عنوان (عزاء) تعود إلى عام 1970، التي قابلنا أمامها ابنته الفنانة التشكيلية مانويلا غيراغوسيان.
وتقول مانويلا غيراغوسيان للجزيرة نت: “هذه اللوحة جرى ترميمها بصعوبة في باريس لأن ريشته عفوية وسريعة، فاتخذوا قرارًا بتركها مع بعض آثار الانفجار”. وتذكر أن والدها ترك نحو 5 آلاف لوحة، بين موزعة ومباعة ومعروضة في أنحاء العالم، ولديهم في لبنان نحو 100 لوحة منها.
بالقرب منها، ينجذب زائرو المعرض للوحة “آخ يا بيروت” بالأبيض والأسود، التي رسمتها الفنانة التشكيلية والصحفية لور غريب سنة 2020، قبل وفاتها عن عمر ناهز 92 عاما في فبراير/شباط الماضي.
آمال وتحديات
عمليا، يعود متحف “سرسق” في تحدٍّ كبير نتيجة إفلاسه، وارتباط وضعه باقتصاد لبنان، إذ كان يمول من بلدية بيروت بنسبة 5% من الضرائب المفروضة على البناء في نطاق البلدية. فيما رصيده المصرفي الكبير، محتجز نتيجة أزمة المصارف، وفق ما تتحدث للجزيرة نت مديرة المتحف كارينا الحلو.
ولم يسبق أن أخذ المتحف أي تمويل من جهة خارجية، وهذه المرة الأولى التي يطلب فيها تمويلا لإعادة إعماره.
ويسعى المتحف راهنا، لتنظيم حملة تمويل مع أصدقائه حول العالم حتى يستطيع الاستدامة. لكن إعادة افتتاحه، بحسب كارينا الحلو، تبدو كانتصار معنوي للقائمين عليه والمهتمين بالشأنين التراثي والثقافي، ضد ما شهده لبنان.
بالمقابل، تسنى توفير الاستدامة الكهربائية بفضل التمويل، عبر نظام الطاقة الشمسية، خصوصًا مع أزمة الكهرباء في لبنان.
وتقول كارينا الحلو إن المتحف يواجه تحدي الاستمرارية وتوفير التمويل، فيما ميزانيته السنوية لا تقل عن مليون دولار. وترفض المديرة اعتبار أن دعم المتحف ليس أولوية في ظل الأزمة الاقتصادية، “لأن أحد سبل مكافحة الفساد والتغيير والخروج من الأزمة، هو بتعزيز الحياة الثقافية والتراثية لدى جيل الشباب”.
وتتحدث كارينا الحلو عن المهام التي يتطلع إليها المتحف في خطته بحال حصوله على التمويل اللازم، إذ سيعمل على “تنفيذ برامج متنوعة متعددة التخصصات من العروض الحية والمعارض والمحاضرات وعروض الأفلام لمفكرين ومبدعين محليين وإقليميين ودوليين”.
وعبر الإقامات ومجانية الوصول إلى أرشيفه ومساحاته الواسعة، “سيعمل المتحف على إصدار وتطوير منشورات وأبحاث جديدة ومشاريع والزمالات عبر شراكات مع المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية المحلية والدولية” بحسب مديرة المتحف.
ومن أهداف المتحف الأخرى، وفق المديرة، تنظيم معرضين كبيرين و3 معارض متوسطة الحجم خلال العام، والرقمنة وإتاحة الوصول لأرشيفه عبر الإنترنت، وكذلك توسيع قاعدة المتحف الجماهيرية ليصل عدد زواره إلى 200 ألف سنويا من مختلف المناطق اللبنانية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.