إسطنبول – لطالما تمتعت تركيا على مدى قرون بتنوع ثقافي كبير، فقد تعايش فيها العديد من الأعراق والأديان، لكن هذا التنوع بات مهددا في السنوات الأخيرة، مع تصاعد تيّار العنصرية التركيّة ضدّ اللاجئين العرب وغيرهم.
فخلال السنوات الثلاثة الماضية وبالتزامن مع تزايد الضغوط الاقتصادية أطلقت أحزاب المعارضة التركية حملات تحريض إعلامية ضد اللاجئين العرب بشكل عام والسوريين بشكل خاص.
وقد تصاعدت هذه الحملات خلال جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسة، عندما وعد مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو بترحيل السوريين في حال فوزه بالانتخابات.
ومع ارتفاع وتيرة التحريض ضد العرب، تكررت حوادث الاعتداء على سائحين أو مقيمين عرب في تركيا، وكان آخرها اعتداء عشرات الأتراك بشكل وحشي على فتى يمني (15 عام) في أحد المجمعات السكنية بمنطقة إسنيورت بإسطنبول.
عوامل تاريخية وسياسية
ووفقا لخبراء تحدثت معهم الجزيرة نت، فقد اتسم تاريخ العلاقة بين العرب والأتراك بشيء من التعقيد والتنوّع، حيث أن العلاقات بين الشعبين مرّت بمراحل متباينة، وخضعت لعوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
ويرى الأكاديمي في جامعة صباح الدين زعيم البروفسور الدكتور عبد المطلب أربا، أنّ الدول العربية عاشت تحت الحكم العثماني فترة طويلة في علاقة أخوية وثقافية وتاريخية وإيمانية والحياة المشتركة، معتبراً العنصرية بذرة استعمارية غرسها الاستعمار لتفكيك الدولة العثمانية لا سيما وأنّ العرب كانت ترمز في ذهنهم للإسلام، فعمل على الإساءة إلى سمعة الآخر بواسطة عملائه في الطرفين.
ويوضح أربا في حديثه للجزيرة نت بأن وجود الدول الحديثة مبني على هذا التباغض المفتعل، قثد أصبح العرب يرون الدولة العثمانية المسلمة دولة استعمارية ظالمة مستبدة، وفي المقابل اعتبرت تركيا الحديثة -القائمة على أسس العلمانية- العرب أعداءً وخونة فاتجهوا للغرب وبقي الأمر كذلك 80 سنة والتحريض والعداء ينخر في الشعوب مما أدى إلى التباين الثقافي والنفسي بينها.
وينوّه إلى أن قيام بعض الدول العربية الحديثة بدعم حزب العمال الكردستاني الإرهابي أذكى الشعور السلبي لدى المواطن التركي، حتى جاء حزب العدالة والتنمية وحاول تغيير هذه السمعة والانفتاح إلى العالم الإسلامي مما زاد التواصل والتعاون والتشارك على مستوى الشعوب في مجالات التجارة والصناعة وغير ذلك.
ويؤكد أربا أن الأحداث التاريخية التي شهدتها تركيا والمنطقة “تلقي ظلالاً قاتمة على قضيّة العنصرية ضد اللاجئين العرب الذين نعتبرهم ضيوفاً، وما زالت بحاجة لمعالجة جادّة”.
أثر اللاجئين
رأي آخر يذهب إليه خبراء الشأن التركي، الذين يعتقدون أن بعض السياسات الحكومية في تركيا قد يكون لها دور في تشكيل سياق العنصرية والتمييز ضد اللاجئين والمهاجرين في البلاد.
وحول ذلك يقول أربا أن “السياسات الناتجة عن قلة الخبرة العملية للدولة التركية في التعامل مع اللاجئين بالمقارنة مع الدول الأخرى كألمانيا وانجلترا، أدت إلى ظهور بعض الخلل في احتواء هذا العدد الكبير من اللاجئين”.
فيما يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة اسطنبول البروفسور الدكتور آدم أسَن، أن تركيا حاولت التأقلم مع الوضع فاستحدثت رئاسة الهجرة لكنها ما زالت بحاجة إلى المزيد لاحتواء هذه المشكلة.
ويضيف أسَن في حديثه للجزيرة نت، قائلا “لا نقول أنّهم كانوا عبئاً لا سيما إذا نظرنا إلى الجوانب الايجابية لوجود اللاجئين كليات الشريعة التي استفادت من خبرات أساتذة أفاضل، وإثراء التنوع الثقافي”.
ويبيّن أسَن أنّه لابدّ من التأكيد على أن الشعب التركي ينقسم إلى محافظ وعلماني، حيث يتعامل القسم الأول مع قضية اللاجئين بمزيد من التعاطف والترحيب والانفتاح، لكن العلمانيين يبغضون المسلمين والعرب والثقافة الاسلامية لذلك كان موقفهم سلبي للأسف وهذا إشكال مستمر.
العوامل الاقتصادية
ويعتقد أسَن أن التحدي الاقتصادي أحد العوامل التي تؤثر في السياق الاجتماعي والسياسي الذي يمكن أن يؤدي في بعض الأحيان إلى تصاعد العنصرية والتمييز ضد اللاجئين.
ويتابع “اللجوء في كل زمان ومكان له بعد اقتصادي قد يكون إيجابياً أو سلبياً وخاصة إذا علمنا أن النازحين إلى تركيا لم يكن معظمهم من الفئة المتعلمة مما يزيد من إقبالهم على الأعمال البسيطة وقبولهم أجوراً مخفضة”.
ويشير إلى أن وجود هذا العدد الكبير من اللاجئين بالمجتمع وانتشارهم في المدن وقبولهم العمل غير الرسمي بالأجور المخفضة جعلهم ينافسون العمالة المحلية، حيث أن إطلاق إمكانية العمل للأجنبي قد يتسبب في تدني الأجور وهذا ما لا تقبله النقابات والمواطنين.
ويلفت أسَن إلى أنّ اللاجئ أصبح عبء على الدولة في جانب، وانتشار اللاجئين في المدن أدى إلى إحساس المواطنين بهذا العبء؛ حيث ارتفعت الايجارات نتيجة لزيادة الطلب، ومما يفاقم المشكلة أن الأجنبي المقيم أو اللاجئ تطول إقامته في تركيا، لكنّ كل هذا له جوانب إيجابية أيضاً مثل زيادة حركة التجارة.
ويشدد أسَن على ضرورة قيام الحكومة بوضع حلول لهذه الإشكالات خاصة أن بعض اللاجئين قد ولد في تركيا واندمج بالمجتمع وأثبت انسجامه هذا على المستوى الإنساني، وهناك بعد سياسي داخلي حيث تستغل بعض الأحزاب موضوع اللاجئين باعتباره ورقة للضغط على الحكومة.
الإعلام العنصري
وتلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه انطباعات الجمهور حول مختلف القضايا، وقد يكون لها تأثير كبير في تعميق العنصرية ضدّ اللاجئين، من خلال تضخيم الحوادث السلبية وتكريس مشاعر الخوف والقلق، كما يقول الباحث محمد رقيب أوغلو.
ويؤكد رقيب أوغلو على الأثر السلبي في هذه القضية من خلال استخدام متطرفين عنصريين لوسائل التواصل الاجتماعي ونشر الأخبار الكاذبة والمضللة للتحريض على الكراهية والعنصرية.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، يعرب رقيب أوغلو عن اعتقاده بأن التحريض الإعلامي للعنصرية مدعوم من جهات دوليّة لا تريد استقرار تركيا، وفي مقدمتها أميركا التي تدعم الأحزاب اليمينية، وتتجلى خطورة هذه القضية إذا أخذنا بعين الاعتبار انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ويقدّر رقيب أوغلو أن نحو 40-50% من المواطنين الأتراك لديهم ميولاً وطنيّة غير متحيّزة، لكنّ تحوّل هذه الفئة للعنصرية وارد إذا أخذنا بنظر الاعتبار التوجيه الإعلامي للمتطرفين.
ويضيف “لذلك التوعية مهمة في هذا المضمار، ولابدّ أن يتبنى الناس فكرة التنوع الثقافي وعدم الانقياد وراء الأجندات التحريضية؛ فكما أنه لا يكره رؤية الانجليزي يجب ألّا يكره رؤية العربي، هذا هو الأصل”.
ويرجّح رقيب أوغلو أن تواجه محاولات القضاء على العنصرية صعوبات عديدة، لكن لابدّ من اتخاذ الخطوات اللازمة لمعالجة الأمر على الصعيد التعليمي والمؤسسي والتشريعي من قبل السلطة العليا في البلاد.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.