شحذوا حرابهم، وأجمعوا أمرهم، وحسِبوا أنها فرصتهم الأخيرة لوأد النهضة التركية، وإرجاعها إلى عهود القهر والفقر، والاستبداد والفساد، والانطواء على الذات، والتسول على موائدهم بذلة. لم يستطيعوا إخفاء ضغائنهم الدينية والتاريخية، ومطامعهم السياسية والإستراتيجية، وتخلَّى إعلامُهم “الرصين” عن رصانته، ونزل إلى مستويات واطئة من الإسفاف، وخاض حربا نفسية طاحنة من أجل إسقاط الرئيس رجب طيب أردوغان، وجلب نظام طائفي هزيل تابع لهم.
ربما تكون مشكلة الولايات المتحدة في هذه المنطقة هي إدمانها على التعامل مع “عملاء” رخيصين يخدمونها إيمانا واحتسابا، لا مع “حلفاء” محترمين يصرون على الندّية والاحترام المتبادل
تخلوا في سبيل ذلك عن كل المعايير الموضوعية والمهنية، ولم تَخِفَّ نبرة العداء على ألسنتهم إلا بعد أن تبيَّنت خسارة رهانهم المعتم. حينها فقط خففوا نبرات الحقد النابض، التزاما بانتهازيتهم المتأصِّلة التي يعبر عنها القول الأميركي السائر: “القفزُ في العربة وقتَ وصولها” بعد استنفاد الوُسْع في تعويقها، وفشل ذلك التعويق. ويعود الفضل في إفشال هذا التعويق -بعد توفيق الله وتسديده- إلى أمرين اثنين:
- أولهما: الوعي السياسي العميق المتراكم لدى الشعب التركي على مدى القرون، حيث كان هذا الوعي سدّا منيعا، ودرعا حصينا، ضد ألاعيب الأعداء المتلبسين بلبوس الأصدقاء. وقد شاهد العالم كله بتحفز واهتمام مسارا ديمقراطيا ناصعا في تركيا، تنافس فيه من بأيديهم السلطة مع معارضيهم بشفافية تحت سمع وبصر العالم، ووصلتْ نسبة المشاركة فيه مستويات قياسية لا يكاد يوجد لها مثيل في أعرق الديمقراطيات، دون أي حوادث عنف أو تشنج. وهذا يدل على نضج ثقافة الشعب وعمق وعيه السياسي. ولولا ذلك لنجح الضخ الإعلامي الأجنبي في حرف البوصلة، وتشويه التجربة، ودفع الناس إلى خيارات سياسية بائسة.
- ثانيهما: عبقرية الرئيس رجب طيب أردوغان وحنكته السياسية. وهنا لا بد أن نذكر بأن الزمان لا يجود بالقادة العظام كثيرا. وليس من ريب -في رأيي- أن الرئيس أردوغان سيدخل التاريخ من بابه الواسع، باعتباره أحد القادة السياسيين العظام، الذين وضعوا بصمتهم على مصائر أمتهم، وطبعوا أزمنتهم بطابع خاص، وخاضوا السياسة بفطنة وجدارة ومبدئية. فقد اتصف أردوغان بما اتصف به القادة العظام في كل عصر من المزاوجة بين المبادئ والمصالح، والجمع بين الشجاعة المبدئية والروح العملية، والنظر الإستراتيجي الدقيق الذي يضع الأمور في مواضعها، فظل يبني لشعبه كل يوم صرحا جديدا، ويتقدم بثبات وصبر على مدى عقدين من الزمان، ويصون الرأسمال المتحصل بكياسة وفطنة، ويبني المساحات المشتركة مع مختلف القوى الدولية، بما فيه مصلحة شعبه وأمته، دون تبعية أو تفريط.
لقد برهن الرئيس أردوغان من جديد على أنه هو ربان السفينة المتمرس في بحر متلاطم الأمواج، وأنه أهلٌ لذلك المكان وتلك المكانة، بما حباه الله به من العقيدة الإسلامية الصلبة، والروح الإنسانية الرحبة، والحكمة السياسية العميقة، والحاسة الإستراتيجية المرهفة. فقد شاد الأركان، وقاد السفينة بأمان، وانتزع لتركيا مكانة تليق بتاريخها العريق. كما تعامل أردوغان مع القوى الدولية المختلفة تعامل رجل الدولة القوي، ذي النفس الأبية، المعتز بدينه، الواثق من شعبه، المستيقن أن البدائل الإستراتيجية وافرة، وأن بلاده ليست عالة على أحد، وهي قادرة على شق خطها الإستراتيجي المستقل، بعيدا عن دبلوماسية التوسل والتسول التي اعتادتها قيادات هزيلة في المنطقة.
كان الرئيس أردوغان قد اشتكى منذ خواتيم العام 2018، في مقال له بصحيفة “نيويورك تايمز” وجهه لحلفاء تركيا الأميركيين، من أن “الولايات المتحدة فشلت باستمرار وإصرار في تفهم واحترام مصادر قلق الشعب التركي”، وحذّر من أن “الولايات المتحدة إذا لم تبدأ في احترام سيادة تركيا، وتبرهن على تفهمها للمخاطر التي تواجهها أمتنا، فإن شراكتنا في خطر”. ثم ختم مقاله برسالة إنذار وإعذار لا لبس فيها: “على واشنطن أن تتخلى -قبل فوات الأوان- عن الاعتقاد الخاطئ بأن علاقاتنا ليست نديّة، وأن تدرك أن تركيا لديها بدائل. فالفشل في وقف هذا المسار الأحادي وعدم الاحترام سيستلزم منا البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد”.
ربما تكون مشكلة الولايات المتحدة في هذه المنطقة هي إدمانها على التعامل مع “عملاء” رخيصين يخدمونها إيمانا واحتسابا، لا مع “حلفاء” محترمين يصرون على الندّية والاحترام المتبادل. وبسبب هذا الإدمان على السهولة لم يعد صانع القرار الأميركي يتحمل من حلفائه أن يخالفوه في أي أمر، أو يعبروا عن ذاتيتهم المستقلة في أي شيء، بعدما اعتاده من بعض حلفاء أميركا من طاعة مطلقة، وخدمة مجانية، حتى إن كانت تلك الخدمة على حساب مصالح دولهم ومستقبل شعوبهم. لكن تركيا الديمقراطية بقيادة الرئيس أردوغان رفضت هذا التطفيف وعدم احترام الذات.
ثمة تحديات كبيرة تواجه تركيا والرئيس أردوغان في السنوات الخمس القادمة التي ستكون تدشينا للقرن الثاني من عمر الدولة التركية المعاصرة، ومن هذه التحديات:
1. التغلب على انشطار الهوية الذي عانت منه تركيا طوال 100 عام
هذا بعد أن فرضت عليها أقلية متغربة مهزوزة موقع المتسول على موائد الغرب، وجعلتها تهرب من ذاتها، وتدبر عن أمتها وحضارتها الإسلامية. وقد قطع الرئيس أردوغان وزملاؤه في حزب العدالة والتنمية شوطا بعيدا في تضميد جرح الهوية هذا، وتحقيق شيء من المصالحة مع الذات لشعبهم، لكن الأمر لا يزال يحتاج إلى عمل كثيف في مجال التعليم والثقافة وغيرهما، ويبدو لي أن قيادة حزب العدالة والتنمية انشغلت كثيرا بالهمّ السياسي والاقتصادي عن الهم الثقافي، وأنها تحتاج إلى التوازن في هذا الأمر.
2. معضلة الاستقطاب السياسي والطائفي والعنصري الحاد
فتركيا بحاجة إلى فضاء سياسي أقل استقطابا، وظهور مساحة مشتركة للمعتدلين من كافة القوى السياسية، للتنافس النزيه، دون تشنجات طائفية، أو عصبيات عنصرية. ويبدو لي أن تراجع حزب الشعب الجمهوري في هذه الانتخابات وفشَل قادته، قد يكون فرصة لتحول هذا الحزب من كتلة سياسية صماء ذات نواة طائفية صلبة، إلى قوة سياسية مفتوحة ومتنوعة، وقريبة من الخضم العام للمجتمع التركي، ومتصالحة مع عقيدته الإسلامية، وجذوره العثمانية المعروفة بتعددها وتسامحها.
تفاعل الملايين مع الانتخابات التركية بشكل لا مثيل من قبل، مما يدل على وحدة المشاعر والآمال والآلام، وعلى ثقة الشعوب العربية في تركيا بلدا وشعبا وقيادة، رغم كل ما بثه البعض في الشعبين من نوازع التحيز
3. التحضير لخلافة أردوغان في الحزب وفي الدولة
هذه هي الولاية الأخيرة للرئيس أردوغان دستوريا، ومن مصلحة تركيا وحزب العدالة والتنمية أن يستمر المشروع الذي بدأه أردوغان، من خلال البناء السياسي المؤسسي للحزب والدولة، بما يضمن تراكم البناء دون انشقاق في الصف، أو انقطاع في المسيرة. فعُمْر الدول لا يقاس بعمر الأفراد، ومن أهم مهمات القائد صناعة القادة الذين يخلفونه، ويحملون الراية من بعده. ولا أعتقد أن الرئيس أردوغان سيغفل عن هذا الأمر في السنوات الخمس القادمة، لأنه أمر حيوي لمستقبل تركيا وأجيالها القادمة.
4. صياغة دستور جديد لتركيا
دستورا جديدا يتناسب مع الوقائع الاجتماعية والثقافية للمجتمع التركي الذي نما وتغير كثيرا خلال 100 عام من عمر الجمهورية، فالدستور الحالي -رغم كل ما أُدخل عليه من تعديلات ديمقراطية- هو في الأصل وثيقة أعدَّها العسكريون الذي حكموا تركيا بالقهر، وسعوا إلى هندسة المجتمع حسب أهوائهم. وكان يتحكم فيهم مركَّب النقص تجاه الثقافة الغربية، فسعوا إلى فرض الأيديولوجية العلمانية المتصلَّبة على مجتمع مسلم محافظ في مجمله.
فلا بد من التركيز الآن على بناء ديمقراطية سمحة، تتسع لكل مكونات المجتمع، دون شطط أيديولوجي، أو منزع قهري. فالديمقراطية ليست مرادفة للعلمانية، ويمكن بناء أفضل نظام ديمقراطي بعيدا عن الأيديولوجيا العلمانية المتصلبة.
5. الانخراط أكثر في حل بعض المعضلات الإقليمية المؤثرة على تركيا
وأهمها وأشدها التصاقا بتركيا معضلة الحرب في سوريا. وأعتقد أن تركيا بمكانتها المتعاظمة، وحاجة الطرفين الغربي والروسي إليها في حرب أوكرانيا، تستطيع أن تتوصل مع الروس إلى صيغة عملية لتغيير سياسي في دمشق، يستجيب لمطامح الشعب السوري. كما تستطيع التفاهم مع الروس لتوسيع حضورها في الشمال السوري ليشمل كل مدينة حلب، بما يضمن فضاء آمنا يسهل الرجوع الطوعي لمعظم السوريين إلى بلادهم، دون رهق ولا إحراج، مع وضع قوات فصل تركية روسية بين منطقة سيطرة النظام، ومنطقة سيطرة المعارضة، إلى حين التوصل لحل سياسي شامل في سوريا.
6. إعادة التموضع الإستراتيجي في المنطقة
بحيث يكون تموضعا يتناسب مع مكانة تركيا وريادتها التاريخية في العالم الإسلامي. فالنظام الدولي يتغير بسرعة، والقوى الدولية تنزاح مشرِّقةً، على نحو ما شرحته بإسهاب في دراستي الصادرة مؤخرا بعنوان: “شروق الشرق وغروب الغرب”. وتحتاج تركيا في الأعوام الخمسة القادمة أن تتبنى خيارات إستراتيجية جديدة في علاقتها بالقوى الدولية، شرقيةً وغربية، وأن تسعى لتحقيق شيء ما تعلقه عليها شعوب العالم الإسلامي -خصوصا في العالم العربي وآسيا الوسطى- من آمال القيادة والريادة. فنداء التاريخ ينادي، والأوْلى الاستجابة له قبل ظهور قوى منافسة، أو تغير البيئة الإستراتيجية سلبا، بما يعنيه ذلك من ضياع الفرصة وفوات الأوان.
لقد تجدَّد الأمل بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان، وامتدَّت أعناق الملايين في المنطقة وفي العالم، متابعة للانتخابات التركية، متفاعلة ومنفعلة، وهذا يدل على أن الشأن السياسي التركي لم يعد تركيًّا محضا بأي حال من الأحوال، وأن المعادلات السياسية الداخلية في تركيا أصبحت مؤثرة على الإقليم وفي أرجاء العالم.
وفي الوطن العربي تحديدا، تفاعل الملايين مع الانتخابات التركية بشكل لا مثيل من قبل، مما يدل على وحدة المشاعر والآمال والآلام، وعلى ثقة الشعوب العربية في تركيا بلدا وشعبا وقيادة، رغم كل ما بثه البعض في الشعبين من نوازع التحيز. كما أن الشعوب العربية الطامحة إلى الحرية والديمقراطية لا تزال ترى في تركيا أسوة حسنة، ومثالا يحتذى، ونوراً يبعث الأمل المتجدد في نفوس الملايين من العرب، ممن أرهقتهم أعوام كالحة من التدمير والتهجير، جرَّاء العسف الداخلي والاستباحة الخارجية.
هنيئا للشعب التركي على ديمقراطيته المبهرة، وهنيئا للرئيس أردوغان على ثقة شعبه وأمته.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.