نواكشوط- من كوخ صغير متهالك صنعت الفتاة العشرينية فاطمة صمبه اعليوات الحدث في موريتانيا، وحوّلت قريتها المنسية والمرمية بين الرمال وسط ولاية الترارزة، شرق العاصمة نواكشوط، من ضيعة نائية شبه مهجورة إلى قرية مأهولة من كثرة الزائرين المهنئين والصحفيين والمصورين.
ورغم صعوبة الأحوال المعيشية، فإن فاطمة تصدّرت قائمة الناجحين في شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) لعام 2023 على مستوى البلاد، بمعدل 14.51 شعبة الآداب الأصلية، وتفوقت على آلاف الطلاب الموريتانيين الذين توافرت لهم ظروف مادية واجتماعية جيدة.
انتصرت الفتاة السمراء بعزيمتها على ظروف صعبة عاشتها مع أسرتها التي تنحدر من أقلية الحراطين (الأرقاء سابقا)، وحقّقت نتائج غير متوقّعة، متفوّقة على أقرانها من خريجي المحظرة (المدرسة) الموريتانية في مواد القرآن الكريم والفقه والأصول والفكر الفلسفي.
في قريتها الصغيرة أكي الواقعة على بعد نحو 320 كيلومترا شرق نواكشوط، بدأت الفتاة التحضيرات للبكالوريا في وقت مبكّر من العام الدراسي، فاشترت مذكّرات ومقررات دراسية، لكنها ركّزت على مادة الفلسفة التي شعرت بأنها عائق أمام تحقيق الحلم، فهي مادة جديدة عليها لم تدرسها في مراحل تعليمية سابقة مثل مواد الفقه والعربية والفرنسية.
ومع بداية العام الدراسي، لم تلعن الفتاة الظروف، ولم تعر اهتماما لسلسلة المشكلات التي تعانيها في قريتها الصغيرة التي تكاد تنعدم فيها وسائل العيش الضرورية، إذ لا ماء ولا كهرباء ولا غذاء مناسبا، وسكانها من القرويين همهم الوحيد تأمين قوت يومهم والبقاء على قيد الحياة.
لم تستسلم فاطمة لظروفها الصعبة، بل جعلتها قاعدة لبناء نجاحات وإنجازات ستبقى قصة خالدة وملهمة لمئات الحالمين من أبناء الطبقات الهشّة. ولم يكن أمام الفتاة سوى خيار التحصيل العلمي، فكانت عندما يرغمها والدها على النوم تغطي نفسها مع الدفتر لتوهمه أنها نامت، لكنها سرعان ما تقوم لتقرأ دروسها وتقوم بواجباتها المدرسية على أكمل وجه.
ولفتت الفتاة المجتهدة أنظار أساتذتها الذين عملوا على تشجيعها ومساعدتها، لكن الذي صنع الفارق إرادة كل من الأب، وهو من ذوي الهمم، والأم التي تعمل بائعة الكسكس.
الأبوة الملهمة
كانت فاطمة تعيش في قرية تبعد نحو 10 كيلومترات عن المدينة حيث مدرستها، مع أب مقعد وأم ضعيفة تكدح لتعيش وتساعد الزوج والعائلة، وشقيق عصامي يدرِّس أطفال الحي القرآن الكريم. ورغم إعاقة الأب، فإنه ظل مصرا على دعم ابنته من أجل مواصلة دراستها، وكافح ليؤمّن لها تكاليف النقل اليومي إلى المدرسة من عمله بائعا المياه على عربة يجرها حمار.
يقول الأب صمبه، الذي لم يستسلم للإعاقة التي لحقت به جراء حادث قبل سنوات، إنه كان يدفع 12 ألف أوقية (30 دولارا) شهريا لسيارة الأجرة لإيصال ابنته إلى المدرسة، لكن إثر ارتفاع أسعار البنزين مطلع العام الدراسي المنصرم ارتفعت التكلفة، وأصبح يعطيها كل يوم ألف أوقية (أقل من 3 دولارات)، 600 أوقية تكاليف النقل ذهابا وإيابا و400 للفطور.
أما الأم، فتقول إنها ربّت ابنتها وحرصت على تعليمها حتى حفظت القرآن الكريم وتخطت مرحلة الابتدائية والإعدادية في ظروف صعبة، وإنها فخورة بهذا النجاح.
احتفاء بالإنجاز
بفضل هذه البيئة المفعمة بالإصرار والعزيمة، استطاعت فاطمة أن تصنع إنجازا شغلت به الرأي العام في موريتانيا وفتحت به على نفسها وأسرتها آفاقا جديدة قد تغيّر حالهم إلى الأبد، إذ صاروا أولوية لدى المسؤولين بعدما كانوا مهمّشين.
واستقبلت وزيرة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة صفية انتهاه في مكتبها بالوزارة عائلة فاطمة، بعدما قطعت مسافة طويلة للوصول إلى نواكشوط. وقدمت للأبوين مليون أوقية (2500 دولار) لتمويل مشروع يدرّ لهما دخلا يساعدهما مستقبلا ويخفف من معاناتهما.
كما قدّمت الوزيرة للفتاة جهاز كمبيوتر محمول (لابتوب) تشجيعا لها، وتعهدت بأنها ستعمل بالتعاون والتنسيق مع القطاع الوصي على ضمان حصولها على منحة دراسية في الخارج في التخصص الذي ترغب فيه.
وفي السياق، تبرع رئيس جالية موريتانية في الكويت للفتاة المتفوّقة بمليون أوقية أخرى، وأعلن متطوعون استعدادهم لتأمين سكن مجهز في العاصمة لأسرة فاطمة إذا انتقلت الأخيرة إليها لمواصلة دراستها في جامعة نواكشوط.
وحصلت الفتاة على تكريم آخر من الدكتور الحاج إبراهيم الذي منحها مكتبة إلكترونية كاملة مكتوبة وصوتية بالعربية والإنجليزية، ولوحا إلكترونيا “آيباد” (iPad) و40 رواية ورقية عربية وإنجليزية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.