أيام قليلة تفصلنا عن عيد الأضحى، عيد الحج لمن استطاع إليه سبيلا، ويوم النحر لمن ملك فداء، ولم يتخيل الحاج فتحي الرفاعي أنه سيأتي اليوم الذي ستكون الحياة فقط لمن استطاع إليها سبيلا.
يمتلك المعلم الرفاعي (65 عاما) متجرا للجزارة في منطقة دار السلام، جنوب القاهرة، حيث لا تهدأ شوارعها من الزحام ليلا ونهارا، وكان محل الجزارة الذي تعلوه لافتة الرفاعي، لا يهدأ من النساء المقبلات على شراء اللحم الجملي، في محاولة منهن لمقاومة ارتفاع أسعار اللحوم “الكندوز” والضأن.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فجأة وعلى غير انتظار، توقفت رحلات الشتاء والصيف المستمرة طيلة العام بين مصر والسودان. الحرب التي اشتعلت في الخرطوم، كانت نتيجتها أن خلا محل الرفاعي من زبائنه ومن اللحم الجملي الذي ارتفع سعره الضعف منذ بداية الحرب في رمضان الماضي وحتى الآن، ليصل سعر الكيلو إلى 300 جنيه (الدولار الأميركي يعادل 30.9 جنيها).
سوق برقاش.. الجملي لم يعد أملي
“سعر الجمل العام الماضي كان 20 ألف جنيه، أما اليوم فسعر الجمل يبدأ من 100 ألف جنيه، ويصل إلى 150 ألفا وأكثر، بحسب المزاد اليومي في برقاش” يقول سلطان، أحد تجار الجِمال في سوق برقاش، الذي يبعد عن القاهرة بحوالي 25 كيلومترا.
في البدء، تسببت حرب أوكرانيا في نقص المعروض من اللحوم القادمة من أوروبا إلى مصر، ومع ارتفاع الأسعار وأزمة الدولار وأثرها على الاستيراد الذي أوقفته الدولة المصرية لشهور، اتسعت أزمة اللحوم ليتضاعف سعرها مرة ثم مرتين، ثم أتت حرب السودان لتأتي على ما تبقى من اليابس بعد هلاك الأخضر، وتلقي كلمة النهاية على أسواق اللحوم في مصر، قبيل موسم عيد الأضحى، الذي تعتمد فيه مصر اعتمادا كبيرا على اللحوم القادمة من المراعي السودانية، سواء كانت الضأن أو الجمال التي غابت عن شوارع مصر بعد أن كانت الأضحية الأكثر توفيرا للمصريين.
شوادر الأضاحي
ارتفع سعر اللحم الجملي فضعف الإقبال عليه في سوق الجمال الأول في مصر، فالكيلو الذي كان سعره في رمضان الماضي يصل إلى 120 جنيها، وصل اليوم 300 جنيه، وبمقارنته بسعر البلدي، يفضل المصريون شراء اللحوم البلدية، أو حتى المستوردة الأقل سعرا، لكن ثمة فراغا يشعر به الزائر للسوق مرة في العام لشراء الأضحية.
برقاش الذي كان الزحام به يبدأ من الفجر وقبل شروق الشمس، وينتهي المزاد قرابة العاشرة صباحا، أصبح أثرا بعد عين، فقد اختفت شوادر النوق وقل زوار السوق، ولم تعد أضحية الناقة أوفر من “عجلين” كما كان يقال سابقا، وفقدت سفينة الصحراء السودانية موقعها في سوق مصر، لتحل محلها “الجمال البلدي” وهي ذات الأصل السوداني، لكن تم تربيتها وتغذيتها في مصر، فلم تأكل من الأعشاب كما في السودان لكن يتم إطعامها بقشر الفول والذرة والبرسيم كحال باقي المواشي في مصر، فتفقد مذاقها الأصلي الذي كان يميزها عن غيرها.
يقول سلطان (30 عاما) تاجر الجمال فى برقاش “السوق به حوالي 700 جمل، وهو عدد أقل بكثير مما كان في السابق، ولولا الإقبال الضعيف لشراء اللحم الجملي بسبب ارتفاع سعره، لم يكن هذا العدد يكفي بأي حال من الأحوال في أيام الموسم”.
أسواق بديلة لكن بالدولار
سوق ولاية دارفور وسوق ولاية كردفان وسوق المويلح، هي الأسواق التي اعتمد عليها تجار برقاش في جلب الجمال إلى مصر من خلال التواصل المباشر مع أصحابها، لكن الرحلة التي كان من المفترض أن تبدأ بعد شهر رمضان الماضي، لم تتم، بعد أن خاف التجار في السودان على “ثروتهم” بحسب ما يقول الحاج محمد عمران للجزيرة نت، ويضيف “كل تجار السودان خافوا من الطريق والحرب، من حقهم طبعا رفض المجازفة، لكن للأسف هذه الحرب كانت المسمار الأخير في سوق أضاحي برقاش هذا العام”.
وتابع عمران “قبل الحرب وبسبب انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، أوقفنا صفقات الجِمال من إثيوبيا والصومال وجيبوتي، وكان السودان منفذنا الأخير، وها هو يغلق في وجهنا، ليتبقى لنا فقط ما كنا نقوم بتربيته في مصر وهو بالطبع بالكاد يكفي لأقل من ربع الاحتياج المحلي للحوم الجملي”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.