(1)
يلومني أصدقاء أني أكُثر الحديث عنها، غير أني أثق بأنهم إذا بلغوا ما بلغتُ، سيفعلون فعلي، وسوف ينصحهم مَن يصغرهم بألا يفعلوا، كأنها سُنة الحياة، لا يشعر بالحالة إلا من يعايشها.
(2)
أتخيل نفسي فرحًا في اللحظة التي سيقبض فيها ملك الموت روحي، وسأقول حينها: الحمد لله؛ لقد كنت على حق، وإن كل مزاعم الفناء التي كفرتُ بها كانت كاذبة، وها أنا أبدأ خطوتي الأولى نحو الآخرة، الآخرة التي أنكرها آخرون، وآمنت -أنا مثل غيري- بها.
تقول لنفسك وأنت شاب: إن لحظة مغادرة هذا العالم بعيدة جدًّا، رغم إقرارك النظري بأنك قد تموت في أي وقت، ولأن الزمن ما زال أمامك، فإنك تترك بعض المعتقدات في المنطقة الرمادية، لا هي أبيض ولا هي أسود.
فإذا ما كبرت قليلاً، يصيبك بعض الشك، هل أنا على حق؟! هل أنا على صواب -في إيماني بالآخرة- كل هذه السنوات التي فاتتني؟! هل -فعلاً- سنموت وندفن وتتحلل أجسادنا ثم نُبعث من جديد؟!
أُمضي أيامًا أدقق في صحيفة أعمالي لعلي أجد سببًا واحدا يبشرني بأن الجنة هي مصيري، يصيبني الهلع من فكرة أن قبول العمل مرهون بالإخلاص
إنها لحظة عجيبة، تكون فيها بين إيمان وشك، لكنها ضرورية نحو اليقين، الآن عليك أن تعاود اختبار إيمانك، فالأمر ليس هزلاً، وما كنت تظن أنه سيحدث بعد سنوات طوال، ها هو قد اقترب، اقترب جدًّا.
كل واحد منا له طريقه إلى الله، له مدخل ما، مختلف عن الآخرين، تسمع حكايات الإيمان، سواء الانتقال من الكفر إلى الإيمان، أو الانتقال من الإيمان التقليدي إلى الإيمان اليقيني، تندهش، ألف طريق، نعم ألف طريق نحو الله.
أما أنا فقد أدهشني -بالتأكيد- خلْق الله كلما سافرت، أو شاهدت فيلمًا عن هذا الكون، عوالم مختلفة، وحيوات عجيبة، لكن أخبركم الحقيقة: الذي أدهشني -بالفعل- هو فكرة التوازن.
مَن هذا السيد العظيم الذي يحقق هذا التناغم والتوازن بين مخلوقات الكون؟
توازن داخل جسم الإنسان نفسه، داخل عالم النبات، داخل عالم الحيوان، في الفضاء، في البحر، في الغابات، ثم توازن عجيب بين كل هذه العوالم.
كيف يقولون: إنها كلها محض مصادفات؟ إذا كان الإيمان بالخالق فكرة غريبة -كما يزعمون- فإن الفكرة الأغرب هي أن هذا الكون خُلِق دون خالق، دون سيد يحقق هذا التناغم والتوازن بينها كلها.
هذا السيد، هذه القوة العظمى، ليست إلا الذات العليا، الخالق تعالى، الذي ليس كمثله شيء، نعم الذي ليس كمثله شيء أبدًا.
تُفكِّر وتُفكر، ويصبح إيمانك يقينًا، وتنتظر لحظة ملاك الموت، نعم تود حينها لو تصرخ، ولو يسمع العالم كله صوتك: ها قد رأيتم، إن الله حق، إن الآخرة حق، إن كتبه حق، إن رسله حق، إن ملائكته حق، والآخرة حق.. حق.
(3)
كل مَن يكبر يلتفت إلى الوراء، سواء لاستدعاء الذكريات، أو لمحاسبة النفس، فوضى في المشاعر، بين ندم على ما فات، وبين تمني العودة إلى زمن الشباب، وبين محاولة التأقلم مع الواقع، والإقرار بطبيعة المرحلة، والتعايش معها، بين أحلام التوبة، وأحلام الاستمتاع بما لم تستمتع به من قبل.
تقوم بعمل (سكان) لكل ما مر بك، لكل الأحداث التي وقعت لك، والقرارات التي اتخذتها، إنه -بلا شك- جنون، لكن هذا -عادة- ما يحدث.
أُمضي أيامًا أدقق في صحيفة أعمالي لعلي أجد سببًا واحدًا يبشرني بأن الجنة هي مصيري، يصيبني الهلع من فكرة أن قبول العمل مرهون بالإخلاص.
نظريًّا أظن أن هناك ما قمت به، لكن نلت في المقابل جوائز عديدة، نلت شهرة ومالاً، فأين الإخلاص هنا؟!
أتصور -بعقلي البسيط- أن المرء في حاجة ولو لعمل واحد، عمل واحد فقط يكون مخلصًا فيه لله وحده، عمل واحد ينجيه ويدخله الجنة، أي عمل ولو كان بسيطًا، المهم يتحقق فيه شرط الإخلاص.
الآن أين أجد هذا العمل في صحيفتي؟ ومَن يدريني بأن نيتي خالصة له عز وجل؟
لم يلفت نظري إلا في سن متأخرة، وصف يوم القيامة بيوم الحسرة، الكل يتحسر، الكفار والمؤمنون، الكفار على كفرهم، والمؤمنون أنهم لم يأتوا من الأعمال الصالحة إلا ما أتوا.
ربما أنتم الآن -أيها الشباب- تقرؤون ما كتبت، وتسخرون منه، لكن إذا بلغتم عمري، سوف يصيبكم هذا الهلع، إذا ما دققتَم في صحيفة أعمالكم.
المسألة ليست بسيطة، ليست اتجاهًا سياسيًّا لا بأس أن تميل معه أو تقبله أو ترفضه، ليس جامعة تحدد مصيرك المهني، ليست وظيفة تحسم أمورك المادية المعلقة، لكنه المصير، بالتحديد الخلود في هذه الناحية أو الناحية الأخرى.
أتعرفون.. هذه المدنية الحديثة -بكل نتاجها التكنولوجي والعلمي، بكل رفاهيتها- لم تُفلح في تحقيق السعادة، وسجدة واحدة تمنحك هذا الشعور، ثم يدعون أن هذه خرافات، مَن بيده قلوبنا حتى يمنحها تلك السعادة في سجدة، سجدة واحدة تخر فيها بجسدك وقلبك لله، أي اختراع يمكن أن يحقق هذه السعادة؟ أي اكتشاف يمكن أن يمنحك هذه البهجة؟ لذلك نفهم حزن المريض العاجز عن السجود، المحروم منه.
إنني غارق في التفكير، أحاول وضع الأشياء في مكانها الحقيقي، وقلبي لا يتوقف عن إرسال الإشارات من هناك، من الآخرة
(4)
تحاول أن تعيش أيامك المتبقية، لكن قلبك يفكر في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الآخرة.
لقد سبقك قلبك إلى هناك، كأنه يدرس الموقف!
تتذكر قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
يا للهول.. إنه عز وجل يستنسخ ما نفعل
تتساءل: هل يفضحنا الرحمن في الآخرة؟
هل ننكشف على الملأ؟
هل يحاسبنا الله برحمته أم بعدله؟
سنقول له تعالى: في حياتنا على الأرض لم نعبد سواك، ولم نسجد لسواك، نعم قصرنا كثيرًا، وارتكبنا الذنوب، لكنك -يا رب- خلقتنا وتعرف مواطن ضعفنا.
ثم هل يسمح الله تعالى لنا بأن نراه في الآخرة؟
ألا نستحق أن يكافئنا عز وجل على إيماننا به غيبًا كل سنوات عمرنا على الأرض بأن نراه تعالى في الآخرة؟
(5)
لقد ورثنا إيماننا تقليديًّا، ورثناه من آبائنا، ندعو الله لهم بالخير، لكن في سن متأخرة يبادر بعضنا إلى تصحيح وضعه؛ ليختار -عن سابق تفكير وإيمان- هذا الطريق، أو يتركه.
مخلصًا أقول لكم: انتبهوا إلى قلوبكم، قبل ألسنتكم، وقبل أعضائكم التي تؤدي فرائض الله بشكل تلقائي تقليدي، استحضروا وجود الإله العظيم، عظِّموا شعائره، لا تنطقوا باسمه تعالى إلا معظَّمًا، لا تستخدموا لفظ الجلالة إلا في موضعه، وليس في مزاح وغيره.
نحن نعمل حساب الكاميرات التي تراقب حركاتنا في الشوارع والمؤسسات وربما حتى في بيوتنا، فما بالكم بالمراقبة التي ستُعرض علينا نتائجها في الآخرة؟
هل تعلمون ماذا أفعل الآن؟
أحاول استشعار كل معاني الإيمان، وليس عبارات الإيمان، أحاول أن أعيش هذه المعاني.
أُطلق لساني فأخبر ربي بما في قلبي هكذا بكل بساطة، دون بلاغة، ودون حلاوة لفظ.
ألجأ إلى سماع المؤمنين من غير العرب؛ إنهم يرون الدين من زاوية مختلفة.
لقد تركوا معتقداتهم ودينهم ليؤمنوا بديننا، في الأغلب بمفاهيم غير مفاهيمنا التقليدية.
إنني غارق في التفكير، أحاول وضع الأشياء في مكانها الحقيقي، وقلبي لا يتوقف عن إرسال الإشارات من هناك، من الآخرة.
(6)
بالمناسبة كم ظلمنا الشيطان!
نعلق عليه كل أوزارنا، كل أفعالنا، كل جرائمنا، وهو لم يفعل سوى أن زيّن لنا الأمر، ووعدنا، لم يجبرنا على شيء، لا قوة له ولا حول، نعم هو يجري منا مجرى الدم لكنه لم يمسك بأعناقنا وأيادينا لنرتكب ما نرتكب، نحن مَن نفعل، بإرادة حرة، بضعف إنساني نعم، لكن نحن مَن نقرر أن نرتكب ما نرتكب.
نقرأ آيات الله تعالى المحذرة في هذا الشأن، ونمر عليها، إلى أن نبلغ من العمر عتيًّا فنعيد التفكير، ونكتشف فعلاً أننا فعلنا ما فعلنا بإرادتنا، نندم، نتمنى أن تعود الأيام بنا، لكن هيهات.
أيها الشباب، خوضوا تجاربكم في الدنيا كما شئتم، لكن عيشوا الإيمان، تذوقوا حلاوته، الأمر ليس أوامر ونواهي فحسب، المسألة أكبر من ذلك وأعظم.
كن على تواصل مع خالق هذا الكون على مدار الساعة، بأي صورة، وبأي لغة، وبلسانك، وفي نفسك، إن فقدتَ الاتصال، فقدتَ كل شيء، تضطرب حياتك، ولا تعرف الطرق، ولا تميزها عن بعضها.
لا تيأس إن انقطع الاتصال، عاود المحاولة، الأمر يستحق العناء.
كل أعباء العبادة تتحول مع الزمن إلى مصدر بهجة وسعادة.
تتوضأ بماء بارد وأنت تبتسم.
تعطش وتجوع في نهارات رمضان الصيفية لكن بداخلك تشعر بالسكينة.
تقتطع من مالك حق الزكاة، تسعى إلى الحج، تقوم بأي عبادة، غيرك يتخيل أنك تعاني، وأنت وحدك تشعر بالسعادة البالغة.
نعم إنك تقضم السعادة قضمًا.
دعوا خط التواصل مع العلي القدير مفتوحًا في كل أيامكم، وفي كل حالاتكم.
وزينوا عقولكم بمفاهيم الإسلام الذي تليق به.
(7)
أما أنا فلا بأس أن تدعوَ لي؛ فإن قلبي لا يتوقف عن البث من الآخرة، تحدثني رسائله عن جنة، أعدها القدير للمؤمنين به، للمسلمين أمرهم له، للمتوكلين عليه، للموحدين، للذين لا يناصرون ظالمًا، جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، هل تتخيلون “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت”.
ادع لي؛ فإن الأمر -حقًّا- عظيم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.