“نصائح غير طبية”
(1)
اقترب.. أعطني أذنيك
سأخبرك سرًّا احرص على أن تنقله للجميع!
نصيحة من ذهب، دَلني عليها صديق، نقلتُها بدوري إلى مريضة عزيزة، عملَتْ بها وشُفيتْ.
نصيحة ربما تبدو ساذجة، أو مجرد كلمات نظرية، غير أنها -في الحقيقة- فعالة… فعالة جدًّا.
(2)
ليسمح لي يوسف وهبي أولاً بالاختلاف؛ الدنيا ليست مسرحًا كبيرًا؛ الدنيا حلبة مصارعة، كلما أفقتَ من ضربة، وجَّهتْ لك ضربة أخرى، وفي النزال بينك وبين الدنيا عليك أحيانًا أن تحمي وجهك، وعليك أحيانًا أخرى أن تبادر بالهجوم، وفي كل الأحوال عليك دائمًا أن تكون مستيقظًا، متأهبًا، مثل هذا الذي يقفز على الحلبة يَمنة ويَسرة، فإذا ما سقطتَ عليك أن تبادر بالقيام فورًا؛ لأنك إن استسلمت انتهيت.
اللحظات الأولى التي يَعلم المرء فيها بمصيبته التي حلَّت عليه فجأة هي الأهم، لذا يحرص الحكيم على ألا يفقد توازنه، وأن يستجمع كل شجاعته؛ لينهض من جديد، ويواجه الموقف.
اسمع..
لا ينتصر في الحرب جندي خائف، أو مرعوب، أو يائس.
لا ينتصر إلا الشجعان المقاومون المبتسمون.
لا تُصدقني؟!
اسأل أي طبيب عن جدوى الحالة النفسية على العلاج.
سيخبرك أنها العامل الأهم في حسم نتيجة الحرب.
وأن كل كيماويات العالم لا تُفلح مع شخص منهارٍ يرى أن أمره قد انتهى.
الاستسلام، والحزن الشديد، واليأس، وملازمة سرير المرض، وعدُّ الأيام التي تتخيل أنها المتبقية لك في الحياة، هي جنود العدو وراء الخطوط، إنها تهيئ له الأرض؛ ليبسط سلطاته ونفوذه على المزيد من الجسد المعتدى عليه.
لا أسألُ المصاب ألا يحزن.
من الطبيعي أن يحزن، ويخاف، لكنَّ إطلاق العنان لهذه المشاعر يؤذي كثيرًا، والأَولى أن يتعامل معها كمشاعر طبيعية، فيُفسِح لها قليلاً حتى يُنفِّس عنها، لكن -مرة أخرى- لا يستسلم لها، لا يَغرَق في التفكير فيها ليلَ نهار، فتنتهي حياته كلها أمام عينيه، بسببه هو وليس بسبب ما أصابه.
ودائمًا تبقى المقاومة والحالة النفسية والمعنوية للمريض عاملاً حاسمًا في شفائه.
إنها تغير معادلة الحرب تمامًا، وتُجبر العدو على الانسحاب.
(3)
ثم فليفكِّر المصاب في الأمر كالآتي:
ما هو أسوأ الاحتمالات؟
أن يموت الإنسان!
أقصد أن يموت قبل عدة سنوات من موعد موته الذي يتوقعه هو إذا كبر وشاخ.
لا بأس.
هل يستطيع تغيير هذا القدَر؟
بالطبع لا.
إذن عليه من الآن أن يعيش حياته، أن يحيا كل دقيقة فيها، أن يستمتع بكل ما يمكن أن يستمتع به، أن يقضم الحياة قضمًا، أن يعيش كل دقيقة رغم كل جراحه، هو لا يعرف أبدًا متى الموعد، كم من طبيب مات قبل أن يموت مريضه الذي أخبره أن حياته ستنتهي في غضون أسابيع أو شهور، لقد عاش المريض ومات طبيبه.
(4)
هل تصدِّق أن السرطان قد يكون فيه النجاة لمن أصيب به؟!
المصيبة، أيُّ مصيبة لها وجه آخر، بل أوجه أخرى مشرقة، أو قل: ستكون مشرقة إن أراد المريض ذلك.
كثرٌ هم -يا صاحبي- من أشعل السرطان أرواحهم، واكتشفوا في أنفسهم قُدرات ما كانوا يتوقعونها، فاندفعوا في الدنيا يحققون -ربما- ما لم يكن ليحققوه إن استسلموا، أو إن لم يُصابوا بالمرض بالأساس.
هناك من انطلق ليكتب، أو يصوِّر، أو يسافر، أو يمارس مهنة ما كان يعتقد أن لديه مهاراتها، أو يخوض تجربة جديدة بأي صورة من الصور.
هل تعرف مَن هم؟
اقرأ قصص الناجين ستجد أن المريض المقاوِم هو وحده الفائز.
هو من يكتشف نفسه.
هو مَن حال دون أن يمتدَّ المرض ليصيب روحه وقلبه وعقله، أما الجسد فسيَبلى في كل الأحوال.
المريض المقاوِم هو مَن يدفعه المرض إلى التركيز في حياته المشتتة، وتحديد أولوياته، وتعلُّم ما هو أهم وما هو مهم، والتوقُّف عن الشكوى والتبرُّم، واستغلال كل دقيقة في عمره.
لا ينصتُ لنصائح غوغل الطبية، يسمع تجارب الناس، لكن يدرك أنَّ لكل حالة خصوصيتها، وما يفعله الدواء معه ليس بالضرورة ما فعله معهم، فيقرر أن يتبع طبيبه الذي وثق به.
المريض المقاوِم يتعامل مع مرضه باستهزاء رغم ألمه!
نعم؛ لأنه يؤمن أنَّ الأمر بيد الخالق، وهو خاضع لقدَر الله، ويبلِّغه -تعالى- أنَّه راضٍ بما قدَّر، يسأله اللُّطف، والقوة.
استسلامٌ كامل لقضاء الرحمن، وانصرافٌ إلى استغلال كل فرص العلاج، وإدارة معركته بحكمة وثبات.
بعد أن ينتصر المريض -بإذن الله- سوف يدرك أنَّ كل معاركه الأخرى في الحياة مقدور عليها، وأنه يستطيع تحقيق النصر فيها بسهولة.
يدرك المريض المقاوِم المنتصر -في النهاية- أنه لم يكن ضعيفًا كما كان يتخيل؛ فقد زرع الله فيه كل مصادر القوة، فإن لم يدركها المرء فهذه مشكلته هو، ومسؤوليته هو.
(5)
المشكلة الحقيقية ما يفعله المحبون للمريض، إنهم أحيانًا يفعلون فعلة الدُّب مع صاحبه.
الحب هو أشد ما يحتاجه المريض.
نمنحه إياه بمقادير محسوبة، وبوصفات ذكية.
إنه الحب، وليس العطف.
إنه العلاج بالحب!
يحتاج أن نتعامل معه على أنه شخص معافى، وليس شخصًا مريضًا، وأنَّ ما أصابه -كما لو أنه- وعكة وستزول، لا أقصد الاستهانة أو التقليل مما يعاني، لكن استمرار التعامل معه على أنه غيرنا، وأنه مريض يؤذيه أكثر مما يفيده.
(6)
المرة الأُولى التي ذهبتُ فيها إلى مستشفى متخصص لمرضى السرطان ذُهلت؛ لم أكن أتخيل وجود هذا العدد، فَمِن قَبْل، أقصد قبل عقد أو عقدين مثلا كان نادرًا أن نسمع عن مريض سرطان، قبل أن يُصبح مرض العصر.
في المستشفى ستجد كل أنواع المرضى: المنهارين، الواجمين، المقاومين.
هؤلاء الآخرون هم وحدهم المبتسمون رغم الألم، يحاولون قضاء وقتهم في قراءة أو مشاهدة أو تعلُّم أمر جديد.
لقد أدركوا نعمة الوقت وجدوى المقاومة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.