علامة استفهام (47) | ماذا يحدث عندما نخلع خوذاتنا؟ | آراء


(1)

هل تتذكرون فيلم Troy؟

هل تتذكرون هذا المشهد تحديدا؟

كان كأنه يوم عيد.

تخيل الصامدون على الجوع والسهر أن أعداءهم المحاصرين لهم الراغبين في غزوهم قد انسحبوا، فخلعوا خوذاتهم، وتخلوا عن دروعهم، وارتخت خطوط دفاعاتهم، وخرجوا يفرحون ويمرحون، فإذا بالعدو المختبئ في حصان طروادة الخشبي -وفي هدأة الليل- يهجم عليهم فجأة؛ ليحقق نصره الحاسم.

كان مشهدًا مؤلمًا؛ فقد ضاع -في لحظة غفلة واسترخاء- كل ما فاز به المقاتلون الأشداء وزوجاتهم وأبناؤهم.

(2)

حالنا في عيد الفطر مثل حال أهل طروادة

نتخيلُ أن المعركة قد انتهت، فنخلع دروعنا وخوذاتنا، فرحين بما أنجزناه، وبغنائم نظن أننا قد فزنا بها في هذا الشهر الكريم، لا ننوي شرًّا، لكننا -فقط- نسترخي، ونضع أسلحتنا جانبًا، تلك التي كنا نستعين بها حتى لا نقع في أي ذنب، وحتى نكسب كل حسنة ممكنة: الذكر، والصلاة، والقرآن، والصدقة، وصلة الرحم، وكل ما يعيننا على أن نواصل سيرنا إلى الله.

(3)

عندما نسقط، تتجه أنظارنا دومًا إلى الشيطان، نحمِّله المسؤولية عن كل سقطة، وننسى أن الشيطان في الحقيقة “غلبان”، لا حول له ولا قوة، كيده ضعيف بنص القرآن، قوته تكمن -ربما- في أنه يرانا ولا نراه، وأنه يحاصرنا من كل جانب، قوته -ربما- في الإغواء، لكنه -في النهاية- لا قدرة لديه على دفعنا على فعلٍ ما، نحن الذين -بمحض إرادتنا- نقرر أن نتبعه أو نتجاهله.

الشيطان لا سلطان له، ويومًا سيقول لنا ذلك بوضوح: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).

في رمضان -ربما- ننجح في تحطيم كل الأصنام، كل ما يُعبد من غير الله، كل ما نتعلق به، كل من نظن أن الرزق بيده أو الحُكم بيده، ونتوجه إلى صاحب الأمر، ونبكي على ذنوبنا، ونعد بطاعة أفضل.

في حين هناك صنم يختبئ داخلنا، ينتظر أن يهدأ حماسنا، وتبرد عواطفنا؛ ليعود ويحتل مكانه.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).

هوانا هو ذاك الصنم الذي لم نحطِّمه بعد، لقد حنى رأسه قليلا في موسم رمضان، فما أن انتهى الشهر الفضيل حتى عاد بقوة.

إذن، نحن نتهم الشيطان في حين أن الجاني الحقيقي هو “النفس”.

أقرأ في الأمر فأجد اختلافًا بين أن قوة الشيطان أقوى من النفس أو مثلها أو أضعف.

بل هو أضعف.

أكلم نفسي..

النفس -يا صاحبي- أشد خطرًا من الشيطان.

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى).

النفس تعرف ما تحبه أنت، تعرف مواطن ضعفك، تعرف ما تشتهي، فتغويك به، على عكس الشيطان.

النفس عنيدة، تكرِّر وساوسها، تلحُّ وتلحُّ.

(4)

هل نظل في حرب مع النفس والشيطان طيلة حياتنا؟

نعم.

في الواقع، نحن في حرب يومية، بل لحظية من أجل حياتنا الدنيا، من أجل: الرزق، والمنصب، والشهرة، والجاه.

وهي مطالب مشروعة ما دامت بالحلال، فلماذا نشتكي ونتأفف ونعترض على أن نظل في حرب من أجل الآخرة، في حين كل مكاسب الدنيا زائلة، أو ممكن أن تزول في أي لحظة، وفيروس صغير لا تراه عيناك كفيل بأن يقضي عليها.

نحن في حرب ومكابدة لن تنتهي إلا بانتهاء حياتنا.

(5)

الحل ببساطة -وما زلت أكلم نفسي- في هذه الآية التي أحبها كثيرًا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ).

كلما انتهيت من عمل ابدأ في آخر من جديد.

أفي ذلك إرهاق؟

نعم.

لكن هناك السر الأعظم، ألا وهو أن الأمر لا ينحصر في واجبات ونواهٍ، تؤدَّى بصورة تقليدية كلاسيكية، وإنما في الروح التي أؤدِّي بها العبادات، وأهرب بها من النواهي.

الروح التي تفعل ذلك -رغم قسوته- بسرور وسعادة بالغين.

هل تعلم لماذا؟

لأنك تحب الله عز وجل، فإن لم تفعل (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

يستعبدنا الله بالحب قبل أي شيء.

الحب أصل كل عمل.

وحب الله أصل التوحيد.

وبهذا الحب يغفر الله لعباده.

لابن تيمية كلام عجيب في الأمر؛ فهو يرى أن الحب والإرادة أصلا كل حركة وفعل في العالَم؛ ذاك أن حبَّ الشيء يقتضي إرادتَه، فمن أحبَّ شيئًا لا بدَّ أن يريده.

ويعتقد أن الإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.

ويعتقد أنه ليس هناك شيء في الوجود يمكن أن يُحَبَّ لذاته، إلا الله تعالى؛ فهو الذي يُحبُّ لذاته فقط، وأنه كلما قويَ الحبُّ قويت الإرادة، وكلَّما كان الحب كاملاً وتامًّا كانت الإرادة قاطعة وجازمة في حصول المحبوبات.

وبهذا تكون قوة الإرادة تابعة لقوة المحبَّة.

ويعتقد ابن تيمية أن أصل الإيمان هو التصديق الممتزج بمحبَّة الله.

فحين يحب المؤمن ربَّه، فإن حركاته القلبية والجسدية تتوجه تلقائيًّا في هذا الاتجاه، وبهذا يسير في طريق الله تعالى راغبًا في مرضاته.

(6)

نصيحتي.. وما زلت أحدث نفسي

لا تنقض غزلك.

احتفظ بدروعك مهما كانت ثقيلة على أنفاسك.

لا تخلع خوذتك ودرعك إلا عند باب القبر.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post نائب: الرئيس لديه إصرار على حماية الأسر الأولى بالرعاية ورفع المعاناة عنها
Next post بايدن وترامب بين 2020 و2024.. معطيات جديدة تشعل سباق الرئاسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading