عصر الغليان العالمي.. لِمَ يبحث العلماء عن محيطات خارج كوكب الأرض؟


مقدمة الترجمة

عاش البشر على مدى مئات الآلاف من السنوات ومعهم أشكال الحياة المختلفة التي وُجدت قبلهم بمليارات السنوات على ظهر أعجوبة كبرى هي كوكب الأرض، ذلك الكوكب الذي يختلف اختلافا مدهشا عن كل ما اكتشفه العلماء إلى الآن من كواكب أخرى، ويظهر ذلك الاختلاف -أكثر ما يظهر- في مياه الكوكب التي -من وفرتها- تسببت في تسميته بالكوكب الأزرق. لكننا هذه الأيام نمر بما يمكن ببساطة أن نسميه “مأساة كبرى” تتعلق باحترار كوكبنا. في هذه المادة، تربط محررة “ذا أتلانتيك” مارينا كورين بين أمرين قد يبدوان متباعدين، عصر الغليان العالمي الذي نمر به حاليا، وجهود العلماء للتعلم عن الكواكب الأخرى التي تشبه أرضنا الزرقاء، ربما لنتعلم أنه ليس لنا ملاذ إلا هذا المكان الصغير جدا، والضعيف جدا، في ذلك الكون الشاسع!

نص الترجمة

حاليا، يواجه المحيط قبالة سواحل جنوب فلوريدا صيفا طويلا وحارا، فقد بلغت درجة حرارته لعدة أسابيع (كُتبت المادة في 2 أغسطس/آب) ما يقارب 90 درجة فهرنهايت (32.2 سيليزيوس) قبل أن تنخفض إلى 80 درجة (26.6 سيليزيوس). وهذا يعني أنه في وقتنا الحالي يتعرض ثالث أكبر حاجز مرجاني في العالم إلى التلف وفي طريقه إلى الاحتضار. وجراء هذه الفوضى التي تكتنف العالم، قرر العلماء جمع عينات من الشعاب المرجانية ونقلها إلى أحواض المختبر الباردة والآمنة للحفاظ عليها.

ما زاد الأمر تعقيدا أنه في الشهر الماضي، تجاوزت درجة حرارة إحدى المناطق على طول الساحل حاجز الـ100 درجة فهرنهايت (37.7 سيليزيوس)، وهي درجات حرارة قد تكون منطقية بعض الشيء داخل حوض استحمام ساخن لا في محيط. ونتيجة لذلك قرر بعض سكان الساحل في فلوريدا التخلي عن السباحة المعتادة في المحيط لأنها لم تعد جذابة لهم كما في السابق. كما أن أجزاء أخرى من العالم بدأت تتلقى نفحات متواصلة من موجات الحرارة البحرية (وهي ظاهرة تتسبب في ارتفاع درجات حرارة سطح مياه البحر لفترات طويلة ومستمرة بصورة غير طبيعية).

موجات الحرارة البحرية

تصل نسبة مياه المحيطات التي تعاني حاليا من ارتفاع حاد في درجات الحرارة وفقا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي إلى 44%. وعلى عكس المتوقع، لم يترك هذا الارتفاع الحاد في درجات الحرارة الخبراء مشدوهين، لأن عام 2023 هو العام الذي من المفترض أن تشهد أيامه على ظاهرة النينو “El Niño” (وهي ظاهرة تحدث في المحيطات بسبب ارتفاع درجات حرارة المياه السطحية ما يؤثر على الطقس والمناخ في العديد من المناطق حول العالم).

ولتأكيد ذلك يقول ديلون أمايا، عالم أبحاث في مختبر العلوم الفيزيائية التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي: “إن التغيّر المناخي هو السبب الرئيسي في جعل موجات الحرارة البحرية هذه تزداد شدة بمرور الأيام”. حطّم شهر يونيو/حزيران بالفعل جميع الأرقام القياسية فيما يخص درجة حرارة محيطات العالم، ثم جاء شهر يوليو/تموز أشد وطأة وتخطاه في درجة الحرارة. لذا وفقا لنظام التنبؤ التجريبي الذي يديره أمايا وزملاؤه في الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فقد تكون نصف محيطات العالم بصدد مواجهة موجة حر بحلول شهر سبتمبر/أيلول القادم.

من المعروف أن الأرض كوكب محتضن للمحيطات، عالم مائي لم نلاحظ شيئا مشابها له في الكون إلى الآن حتى مع أفضل تلسكوباتنا، وبالتالي يتعذر علينا معرفة مدى ندرة كوكبنا بالضبط ومدى صعوبة تكرار وجود شيء مثله. ومع ذلك، ها نحن هنا لا نتورع عن زيادة الوضع تفاقما ورفع درجة حرارة المحيطات ببطء وتدريجيا، وتغيير التركيبة الأساسية للنظام البيئي للأرض.

تمكنت المحيطات من امتصاص معظم الحرارة الزائدة الناتجة عن انبعاثات الغازات الدفيئة المُسببة للاحتباس الحراري في العقود الأخيرة، وهو ما يُعد واحدا من أجدى السبل لدينا لإنقاذ الكوكب وحمايتنا من التبعات الناجمة عن التغير المناخي. قد يعاني البشر من الحر الشديد على اليابسة هذا الصيف، ولكن مستقبل كوكبنا -وبالتالي مستقبلنا- مرتبط ارتباطا وثيقا بالبحر.

قضى علماء الفلك سنوات في البحث عن عوالم خارج نظامنا الشمسي قد تحتضن محيطات على سطحها، على أمل أن تكون موطنا صالحا للحياة. ومن بين أكثر من 5000 كوكب عُثر عليهم، اكتشف العلماء أن القليل منها فقط هو مَن يقع في النطاق الصالح للحياة (أي على مسافة مناسبة من نجمها تسمح بتوافر الماء في صورة سائلة، لا هي قريبة جدا من النجم ليتبخر الماء من سطحها، ولا بعيدة جدا عنه فيتجمد). ولم يؤكد الباحثون حتى الآن وجود أي كواكب صخرية بحجم الأرض تحوي على سطحها ماء سائلا.

معضلة اكتشاف الماء

تدرس كريستا سودرلاند، عالمة الأبحاث، قمرا يُسمى “أوروبا” يدور حول كوكب المشتري ويُخفي محيطا مالحا تحت سطحه الجليدي، الذي قد يكون موطنا للحياة الميكروبية. (شترستوك)

يكمن جزء من هذه المشكلة في صعوبة اكتشاف المحيطات الموجودة في كواكب أخرى خارج مجموعتنا الشمسية باستخدام التكنولوجيا المتاحة للباحثين اليوم. وعن ذلك يقول تشارلز كاديو، عالم الفلك بجامعة مونتريال في كندا: “رغم أن كوكبنا يعج بالمحيطات، فإننا لن نتمكن من رصد الماء بداخله إذا كنا سنراقبه من بعيد باعتباره كوكبا خارج نظامنا الشمسي”.

توجد محيطات أخرى في نظامنا الشمسي ولكنها مخفية تحت سطح الأقمار الجليدية (التي تتميز بسطحها المغطى بالجليد) وتكوينها الدقيق الذي ما زال مجهولا بالنسبة إلينا. تدرس كريستا سودرلاند، عالمة الأبحاث بجامعة تكساس في أوستن بالولايات المتحدة، قمرا يُسمى “أوروبا” يدور حول كوكب المشتري ويُخفي محيطا مالحا تحت سطحه الجليدي، الذي قد يكون موطنا للحياة الميكروبية.

تقضي سودرلاند أيامها تتعجب من هذا العالم الآخر الذي يحتضن بين طياته محيطا، لكن يساورها في الوقت ذاته قلق بشأن العالم الذي تعيش فيه بقولها: “لا يمكنني حقا فهم التناقض بين الاكتشافات العلمية المتعلِّقة بالأقمار الجليدية والمحيطات الموجودة تحت سطحها، وبين القلق إزاء التغيّرات المناخية وتأثيرها على الأرض والحياة على الكوكب. فبينما أتأمل التغييرات القصيرة والسريعة في الوقت الحالي، تراودني تساؤلات عن تبعات ذلك على أطفالي، وإلى أي مدى ستزداد الأمور سوءا؟”.

في العام المقبل، من المُقرر أن تُطلِق وكالة ناسا المهمة التي تعمل عليها سودرلاند، وهي مركبة فضائية ستصل إلى القمر “أوروبا” في عام 2030، وستحمل على متنها لوحة منقوشا عليها قصيدة للشاعرة الأميركية المتميزة “أدا ليمون” التي تقول في جزء منها: “أيها القمر الثاني! نحن أيضا مخلوقون من الماء، من بحار شاسعة وفاتنة بجاذبيتها”. صحيح أن فكرة الاتصال هذه والقرب من كون غريب وغير مألوف بالنسبة لنا هي فكرة رائعة ولطيفة، لكن عند قراءة هذا المقطع من القصيدة مرة أخرى ربما يراودك شعور بأنه أقرب إلى الرثاء منه إلى التعجب. إن كوكبنا مخلوق من بحار شاسعة، لكن بمجرد أن ترتفع درجة حرارة تلك البحار بشدة، وتذوب أصداف وهياكل الكائنات البحرية، وتسمح بانتشار الطحالب السامة، فإن تلك البحار حينذاك تستحق الإغاثة وتتوسل إلى الراحة.

يعتقد بعض الباحثين أن الماء وصل مع الكويكبات التي قصفت الأرض منذ عدة مليارات من السنين وكانت تحمل بداخلها هذا الماء، في حين يرى آخرون أن هذا الماء كان محبوسا داخل كوكب الأرض منذ تشكُّله الأول. (غيتي)

لم يبدأ كوكبنا بوجود البحار، بل جاءت لاحقا بعد أن بردت الأرض من سنواتها التكوينية المنصهرة، أما السؤال عن الكيفية التي حصلت بها الأرض على مياهها فيظل سؤالا مفتوحا. يعتقد بعض الباحثين أن الماء وصل مع الكويكبات التي قصفت الأرض منذ عدة مليارات من السنين وكانت تحمل بداخلها هذا الماء، في حين يرى آخرون أن هذا الماء كان محبوسا داخل كوكب الأرض منذ تشكُّله الأول من صخور بحجم الجبال كانت تدور حول النظام الشمسي المبكر.

في شهر سبتمبر/أيلول من هذا العام، ستجلب مركبة فضائية تابعة لوكالة ناسا عينات من كويكب لم يتغير منذ تلك الفترة الكونية، وقد تكشف هذه القطع الصخرية والشظايا عن معلومات مهمة للغاية حول وجودنا ذاته، كما يأمل العلماء في الكشف عن أدلة حول القوى التي تسببت في ظهور محيطات الأرض وغمرها بالمركبات الكيميائية مما أدى في النهاية إلى إشعال فتيل الحياة على الكوكب.

الغليان العالمي

في مواجهة تغير المناخ، لا مناص من أن يكون حماسنا للاكتشافات الجديدة مشوبا بالحزن، لأنه في الوقت الذي نتعلم فيه المزيد عن كيفية تشكُّل المحيطات في كوكبنا، نُعرِّض مياهه للحرارة الشديدة، وإن لم نرتدع عن هذا السبيل المحفوف بالمخاطر فسيواجه الكوكب بأكمله عواقب وخيمة. ويتمثل أحد دواعي القلق الجاثمة على الصدور في أن المحيطات الساخنة تُذيب طبقات الجليد وتزيد من حِدَّة الأعاصير وتدمر صناعات الصيد. تعليقا على هذا الوضع، تقول كارين سان جيرمان، مديرة قسم علوم الأرض في وكالة ناسا: “لقد شهدت الأرض على الكثير من التغيّرات منذ نشأتها، لكننا نقودها الآن نحو الهاوية بطريقة لم يشهدها الكوكب من قبل”.

يشير علماء الفلك إلى المنطقة الصالحة للسكن حول النجم باسم منطقة “غولديلوكس” (Goldilocks)، أو المعروفة رسميا باسم “المنطقة الصالحة للحياة”، وفيها تكون الظروف الجوية معتدلة، لا هي شديدة الحرارة ولا شديدة البرودة، ولكنها مناسبة تماما لتدفق المياه السائلة على سطح الكوكب. ومن حُسن حظنا أن كوكب الأرض يقع على مسافة مناسبة تماما من شمسنا في المنطقة الصالحة للسكن، وستتمتع الأرض بهذا الموقع الملائم لبضعة مليارات من السنين إلى أن تصبح الشمس ساخنة بما يكفي لتتبخر مياه المحيطات.

لكن على الجانب الآخر، قد تصبح الأرض غير صالحة للسكن فيها قبل ذلك بوقت طويل جرّاء الفيضانات، والجفاف، وحرائق الغابات، والأيام الحارة التي قد تحترق فيها بشرتك، والبحار شديدة السخونة التي بإمكانها القضاء على الأسماك والبشر على حدٍّ سواء. لهذا صرَّح الأمين العام للأمم المتحدة الأسبوع الماضي قائلا: “انتهت فترة الاحتباس الحراري، وبدأت فترة الغليان العالمي”.

في نهاية المطاف، حذّر علماء المناخ من أن مصطلح الغليان العالمي ليس مجرد مصطلح علمي، وأن المسؤولين منذ سنوات قد تنبأوا بالفعل بتوالي تلك الظواهر الجوية المتطرفة الحالية، وأن ما يحدث حاليا ليس مجرد تغير طفيف أو عادي، بل هو أمر له تبعاته وآثاره الكارثية. ومع ذلك يمكن أن نستقي حافزنا من مصطلح “الغليان” ونستغله في تسليط الضوء على الضرورة المُلِحَّة للاهتمام بقضية الماء، لأنه بات من الصعب أن نتطلع إلى ما يحدث حولنا ويظل يلازمنا شعور بأن الأمور هنا على ما يرام.

_____________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post البورصة: تنفيذ صفقة على الشركة الوطنية للبذورة بقيمة 9 ملايين جنيه
Next post الرحاب يتوج بكأس البطولة العربية للجودو لبراعم البنات فى العلمين.. صور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading