القاهرة- هاني شنودة مر بمحطات عديدة في حياته، تشرب بالفلكلور منذ صغره، وحفظ الأغاني الشعبية، وتردد على المنشدين الذين اشتهرت بهم مدينته. عاصر الشيخ النقشبندي وتأثر بأدائه وطبقات صوته، حتى اتخذه نموذجا لكل مطرب يعمل معه، وفي مرحلة الشباب خطفته الصرعات الموسيقية الغربية، وبتحالف شبابي كوَّن فرقة تعزف وتغني كل الأغاني الغربية الشهيرة.
أصبح شنودة ظاهرة عصره، ومن هوسه بكل موهبة استطاع أن يرسل عددا من المواهب إلى سماء الشهرة، فكان العرَّاب لعدد من النجوم، منهم عمرو دياب ومحمد منير وغيرهم.
الجزيرة نت التقت هاني شنودة بمناسبة فوزه بجائزة الدولة التقديرية في الفنون لهذا العام، في الاستديو الخاص به بالقاهرة، وأجرت معه الحوار التالي:
-
هل كان للفلكلور تأثير كبير في موسيقاك، حتى إنك تحفظ من الأغاني الشعبية أكثر مما تحفظه من الأغاني الحديثة؟
لم يكن الفلكلور فقط، وإنما الشعبيات التي لا مؤلف لها ولا ملحن، والشعبي أعم من الفلكلور، نشأت في مدينة طنطا التي تقع وسط الدلتا، وهي مدينة “الموالد” بلا منازع، كنا نخرج من مولد السيد البدوي، وندخل مولد السيد الرفاعي، وما نكاد ننتهي منهما إلا ويبدأ مولد الشيخة صباح، وكان المنشدون والمطربون يصدحون بأصوات مختلفة ونغمات متعددة، وطنطا هي مدينة المنشدين بلا منافس.
وفي الموالد تكون الأغاني الشعبية منبعا هائلا لكل من يريد أن يعمل في الموسيقى لأن هذه الأغاني هي التي صبغت وجدان الشعب المصري، ومن أكثر ما أثر في وجداني أيضا أوبريت “الليلة الكبيرة” كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي، لأنها كانت مطابقة لما رأيته وعشته في مدينة طنطا، حيث الزحمة في الموالد .
-
في هذا الطقس المفعم بالأساطير والممارسات الغريبة تخرج من طنطا وتصبح موسيقيا مشهورا، من زرع فيك بذرة حب الفن؟
أستطيع أن أقول إنني نشأت في بيئة صحية، كان أبي صيدلانيا، وأما أمي فكانت عازفة ماهرة، تجيد العزف على البيانو، وفي وقت فراغها واعتدال مزاجها تمسك العود وتغني لأم كلثوم، فكانت هي صاحبة الفضل الأول في أن أتشبع بحب الفن، ولما كبرت لم يقف أبي أو أمي في طريقي، تركوني أرسم مستقبلي بنفسي، وفي مرحلة الشباب كنا نميل للغناء الغربي والموسيقى الغربية، وكوننا فرقة “القطط الصغيرة ” وبالبيانو والعود كنا نعزف أي أغنية غربية.
-
هل صحيح أن التراث الديني والإنشاد الصوفي كان له دور في تكوينك الموسيقي؟
أنا ابن الثقافة العربية، وكما للفلكلور جزء في تكويني، كان للثقافة الإسلامية والإنشاد الديني دور مؤثر أيضا في موسيقانا، ولهذا أهتم كثيرا بالإنشاد الديني، وأرى أن الشيخ سيد النقشبندي هو بذاته مدرسة نسير على نهجها وندرب المطربين على طبقاته الصوتية.
-
وزعت بعض الأغاني لكبار المطربين، في وقت كانت هناك قمم في الموسيقى أمثال السنباطي وعبد الوهاب والموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي، ما الذي أثارهم في موسيقاك؟
أستطيع أن أقول إنني عشت عصر هؤلاء القمم الفنية، وكلما ارتقى الفنان، كلما كان همه البحث عن كل ما هو جديد، وهكذا كان عبد الحليم حافظ، هو الذي بحث عني واتصل بي ودعاني للغذاء معه، وكنت أهرب منه، وأذهب لفرقتي وأصدقائي الذين لا أفارقهم ليل نهار، نذهب معا للسينما نتناول وجباتنا في أي مطعم، ونخطف يوما أو اثنين ونهرب لشاطئ البحر، هل أترك كل هذا وأذهب لتناول غدائي في حضرة عبد الحليم حافظ، حيث الأكل بالشوكة والسكين!؟
-
ولكن متى تركت الأغنية الغربية واتجهت للموسيقى العربية؟
لهذا الموضوع قصة طريفة كان بطلها الأستاذ نجيب محفوظ، بعد أن انتهى عقدنا للغناء في بعض المحافظات ومنها الإسكندرية، وقبل أن نرجع إلى القاهرة تصادف أن حضر الأستاذ نجيب محفوظ واحدة من حفلاتنا، ولم يكن قد حصل على جائزة نوبل بعد. وفوجئت به يسألني لماذا لا تغنوا “عربي”؟ وقلت له الأغنية العربية مقدمتها تعادل 3 أغاني من الأغاني التي نعزفها ونغنيها، والمقدمة لا تدل دلالة موضوعية على الأغنية، والأغنية تفتقد لجمالها الخفي، فقاطعني وقال “اعمل أنت الأغنية التي تراها صحيحة من وجهة نظرك”، ولم أنس كلماته، وبقيت تدق في رأسي.
وفوجئت يوما بالفنان عبد الحليم حافظ يدعوني لمشاهدة جهاز حديث اسمه “السوبر سايان”، وذهبت إليه فورا وأبهرني الجهاز الذي كان يعد أرقى ما أنتجت التكنولوجيا في عالم الموسيقى، وطلب مني أن أُكوّن فرقة مثل فرقة “القطط الصغار” المعروفة في ذلك الوقت، وبدأنا في العزف كل يوم من أجل توزيع جديد لـ4 من أغانيه “أهواك” و”أول مرة تحب يا قلبي” و”توبة” و”يا قلبي خبي لا يبان عليّ”.
وفوجئت بعبد الحليم بعد ذلك يقول لي، إن الموسيقار أحمد فؤاد حسن مدير “الفرقة الماسية” قلق من التعامل مع الفرق الصغيرة، وعرض عليّ ضم فرقتنا لفرقته، وتحقق ذلك وبدأ التعاون من أول حفل في نادي الجزيرة، وجاءني عبد الحليم بعد الحفل وهو في حالة رضا بالنتيجة وقال لي “يا هاني، الفرقة عددها صغير، لذا فإن حجز الفنادق وتذاكر الطيران لن يكون مكلفا كثيرا، سنسافر ونلف العالم ونغني، لتعرف كل الشعوب كم هي جميلة موسيقانا ومتطورة؟”، ولكن لم يمهله القدر ورحل مبكرا، وانفرط عقد الفرقة.
وبعد فترة قابلت المطرب محمد منير، وبدأت العمل معه في بعض الألحان، وكنا نعمل على آلات حديثة مثل الغيتار والدرامز مع الدفوف النوبية، فكانت خلطة غريبة عزفتها فرقة “المصريين”.
-
كيف استقبل النقاد والجمهور فرقتكم، وهل هناك من مصاعب واجهتكم؟
خرجت الفرقة للوجود، وكانت شيئا جديد في مصر في هذا الوقت، وحدث انقسام ما بين مؤيدين ورافضين، الأغلبية احتفت بنا، ولكن أذكر أيضا أنه في هذه الفترة كتب الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد 3 مقالات، كل مقالة على صفحة كاملة في أخبار اليوم الأكثر انتشارا في مصر، وكانت بعنوان “المصريون يلبسون القبعة فوق الجلباب” والمقالات الثلاث كانت هجوما وهجاء للفرقة وأسلوب عملها، ورددت عليه، وغضب مني وقتها.
-
التاريخ يعيد نفسه، والآن أغاني المهرجانات تواجه نفس الغضب الذي واجهته فرقتكم، ما موقفك من هذه الأغاني؟
قلت كلمتي عن أغاني المهرجانات، إنه شكل موسيقي نال رضا شريحة معينة من الناس، لكن كان وجه اعتراضي أن تقترن موسيقاهم بكلام خارج لا يجوز ولا يجب أن يدخل البيوت وتسمعه الأسر، وأنا غير مستعد لأن أُدخل أغاني المهرجانات بيتي؛ ليس لأنها سيئة، بل لأن كلماتها خارجة وغير مقبولة.
-
هل أنت راض عن موسيقاهم؟
ولماذا لا أرضى؟! وبأي سبب أرفضها، الموسيقى انطباع عن شيء ما، من الممكن تسميته أو عدم تسميته، ومطربي المهرجانات أحرار، سواء كانت جملتهم الموسيقية متنامية أو عقيمة، والفيصل لديهم الجمهور، وكانت النتيجة أنهم عندما لم يجدوا شيئا جديدا ليقدموه توقفت أغاني المهرجانات.
-
هل الفنان محمد عبد الوهاب كان راضيا عن موسيقاك؟
أعتقد أن الأستاذ عبد الوهاب كان معجبا وراضيا عن أدائي في الموسيقى، وإلا ما كلفني بإعادة توزيع 4 أغان من ألحانه، وعندما طلبت الفنانة نجاة الصغيرة منه أن يُعيد الموسيقار جمال سلامة توزيعهم، أصر وقال لها، هاني شنودة أقرب “الخواجات” لنا.
-
متى بدأت العمل في الموسيقى التصويرية، ومن المخرج الذي رشحك لعمل الموسيقى التصويرية لفيلمه؟
السيدة فاتن حمامة رشحتني ودفعتني للعمل في مجال الموسيقى التصويرية للأفلام، وطلبت مقابلتي ولم أكن أعرفها شخصيا، وتعجبت كثيرا وسألت أحد المقربين منها من دل السيدة فاتن علي، وأنا لم أقم بأي موسيقى تصويرية من قبل، وأجابني أنها بعد أن استمعت لأول أشرطتي الغنائية، قالت “هذا فنان “دراماتورغي” لأنه واضع أشياء من الطبيعة في الأغنية، وسينجح في عمل موسيقى تصويرية لأي فيلم، وكانت البداية مع فيلم “لا عزاء للسيدات”.
أعجبت الموسيقى المخرج سمير سيف وقال لي “أنت دم جديد، وأنا أجهز لفيلم “المشبوه” مع عادل إمام، ولكن هناك مشكلة أن عادل إمام غيّر اتجاهه في التمثيل من الكوميديا إلى الأكشن. فكّر في الموضوع وأعطني رأيك، قلت له نعمل التتر، ونرى إذا ما كان سيعجبك أم لا. وأرسلت له التتر، وبعد 3 أيام، قال لي كمل الفيلم واستمر العمل مع عادل إمام حتى وضعت الموسيقى التصويرية لـ12 فيلما قام ببطولتها.
وفي نهاية حوارنا قلت له، ألم تحدثك نفسك بأن تكف عن الإبحار الموسيقي وتلقى بالمرسى على الشاطئ وترتاح، أجابني إجابة مقتضبة وقال “سيدنا عمر بن الخطاب وهو في طريقه رأى رجلا يزرع نخلة، قال له النخلة لا تثمر قبل 10 سنوات، رد عليه الرجل وقال: زرعوا فأكلنا، ونزرع ليأكلوا” وأنا سأعمل حتى آخر نفس في صدري.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.