عبد الرزاق السنهوري، لُقّب بحارس القانون وعملاق الأحكام المدنية، ولد عام 1895 وتوفي عام 1971، صاغ القانون المدني المصري مستلهِما أحكامه من الشريعة والعُرف الوطني وأحكام القضاء المحلي، ومبادئ الشريعة الإسلامية التي أحسن فهمها، وعمل رئيسا لمجلس الدولة المصري من عام 1949 إلى عام 1954.
يعد الدكتور عبد الرزاق السنهوري أحد أكبر العقول القانونيّة التي أنتجها العالم العربي في القرن الـ20، وهو الذي أثنى عليه الفقيه القانوني البلجيكي الشهير جورج كورنيل، ووصفه بأنه من أحسن ركائز مجموعة معهد القانون المقارن في جامعة بروكسل.
وقال عنه أستاذه الفرنسي والخبير القانوني الكبير إدوارد لامبير (الشهير بـ”المسيو لامبير”) إنه “استطاع أن يكتب للجمهور الأوروبي الواسع العريض، الذين يهمهم أن يطلعوا على وجهة نظر شرقية من عقلية مفكر مسلم ذي ثقافة عالية، بشأن مشكلات تناولتها أبحاث أوروبية عديدة”.
وأضاف أن “السنهوري ألهم عددا وافرا من طلاب درجة الدكتوراه، ولقد حفزتني جدّيّته على استئناف مجموعة أبحاث الشعبة الشرقية لتستقبل مؤلفه الخالد فقه الخلافة”.
المولد والنشأة
ولد عبد الرزاق السنهوري في 11 أغسطس/آب عام 1895، بمدينة الإسكندرية لأسرة فقيرة، وعاش طفولته يتيما، حيث توفي والده، الموظف بمجلس بلدية الإسكندرية، ولم يكن قد بلغ الخامسة من عمره.
خلف ابنة وحيدة هي الدكتورة نادية عبد الرزاق السنهوري، زوجة الدكتور توفيق الشاوي، أستاذ القانون والمفكر الإسلامي الكبير.
الدراسة والتكوين العلمي
بدأ السنهوري تعليمه في الكُتَّاب، ثم التحق بمدارس التعليم العام، ودرس الابتدائية في مدرسة راتب باشا الابتدائية، ثم التحق بمدرسة رأس التين الثانوية، فالمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، ومنها حصل على الشهادة الثانوية عام 1913، وكان ترتيبه الثاني على طلاب القطر المصري.
قرأ في مرحلة مبكرة من عمره عيون التراث العربي ودررَه المنثورة في المكتبات، فقرأ “الأغاني” و”الأمالي” و”العقد الفريد”، وقرأ ديوان المتنبي، وكان كثير الإعجاب به، وفضَّله على غيره من شعراء العرب.
نال الإجازة في الحقوق سنة 1917م من مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة (باللغة الإنجليزية)، وجاء ترتيبه الأول على جميع الطلاب.
سافر إلى فرنسا سنة 1921 في بعثة علمية لدراسة القانون بجامعة “ليون”، وهناك تنامى عنده الشعور بالانتماء الحضاري، وبدأ يتخذ الموقف النقدي من الحضارة الغربية، فانتقد الانبهار بالغرب، وانتقد تبني الدكتور منصور فهمي لمقولات المستشرقين، وكذلك موقف الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم”.
وفي فرنسا وضع السنهوري رسالته الإصلاحية التي عُرفت باسم “مواد البرنامج”، وتضمَّنت رؤيته في الإصلاح، وأنجز خلال وجوده في فرنسا رسالته للدكتوراه “القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي”، ونال عنها جائزة أحسن رسالة دكتوراه.
وأثناء وجوده هناك ألغيت الخلافة الإسلامية، فأنجز رسالة أخرى للدكتوراه عن “فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية”.
التجربة السياسية والعملية
تأثر السنهوري في مرحلة شبابه بالزعيم المصري مصطفى كامل باشا مؤسس الحزب الوطني، وتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها، كما كان معجبا بالكواكبي وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد وجدي.
وشارك في المعارك السياسية والفكرية التي كانت تموج بها الحياة في مصر قبل الثورة، وكان قريبا من كل تيارات التغيير والإصلاح رغم عدم انضمامه لحزب أو تنظيم. وقد فصلته الحكومة سنة 1934 من الجامعة، بسبب أنشطته السياسية، ومنها تأسيسه لـ”جمعية الشبان المصريين”.
سافر إلى العراق سنة 1935 بدعوة من حكومتها، فأنشأ هناك كلية للحقوق، وأصدر مجلة القضاء، ووضع مشروع القانون المدني للدولة، ووضع عددا من المؤلفات القانونية لطلاب العراق.
وعاد إليه مرة أخرى سنة 1943 لاستكمال مشروع القانون المدني الجديد، ولكن بسبب ضغوط الحكومة الوفدية المصرية على الحكومة العراقية اضطر للسفر إلى دمشق، وبدأ بوضع مشروع القانون المدني لها، ولكن أعيد مرة أخرى لمصر بسبب ضغوط حكومية.
وأثناء وجوده في دمشق وضع أول مخطط لإنشاء اتحاد عربي سنة 1944، أي قبل قيام الجامعة العربية، ووضع مشروع معهد الدراسات العربية العليا، والذي تأجل تنفيذه حتى سنة 1952، في إطار جامعة الدول العربية.
وشارك في وضع الدستور المصري بعد إلغاء دستور 1923، ثم سافر إلى ليبيا بعد استقلالها، حيث وضع لها قانونها المدني الذي صدر سنة 1953 بدون مقابل.
وأيّد السنهوري قيام ثورة 1952، وشارك في صياغة المبادئ الستة للثورة التي أعلنها مجلس قيادة الثورة، وأطلق عليها اسم “عقد النور”، كما شارك في صياغة بيان تنازل الملك فاروق عن العرش، وفي صياغة قانون الإصلاح الزراعي.
وحدث صدام بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر في مارس/آذار 1954، وذلك على خلفية انضمام السنهوري للمطالبين بالحكم الدستوري واختيار رئيس منتخَب وحلّ مجلس قيادة الثورة، وهي الأمور التي أقيل بسببها من مجلس الدولة، بعد أن اعتُدي عليه جسديا، وفَرض عليه النظام الناصري عُزلة إجبارية حتى عام 1970.
وقد استطاع أثناء فترة عزلته (1954-1970) إنجاز عدد من المؤلفات القانونية المهمة، ووضع المقدمات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة، وُسمح له بالسفر مرة واحدة، تلبية لدعوة أمير الكويت سنة 1960، واستطاع خلال رحلته تلك وضع دستور دولة الكويت، واستكمال المقومات الدستورية القانونية التي تؤهلها لعضوية الأمم المتحدة.
الوظائف والمسؤوليات
- عمل موظفا بوزارة المالية إلى جانب دراسته في مرحلة الليسانس.
- عمل في النيابة العامة أثناء ثورة 1919، وشارك في أحداث الثورة، فعاقبته سلطات الاستعمار الإنجليزي بنقله إلى مدينة أسيوط، في أقصى جنوب مصر.
- عام 1920 ترقى السنهوري باشا إلى منصب وكيل النائب العام.
- في العام نفسه انتقل من العمل بالنيابة إلى تدريس القانون في مدرسة القضاء الشرعي، إحدى أهم مؤسسات التعليم العالي المصري منذ إنشائها سنة 1907، وزامل فيها كوكبة من الأساتذة الأعلام؛ أمثال أحمد إبراهيم وعبد الوهاب خلاف وعبد الوهاب عزام وأحمد أمين، وتتلمذ عليه عدد من أشهر العلماء، على رأسهم الشيخ محمد أبو زهرة.
- بعد عودته من العراق سنة 1926 عُيّن مدرسا للقانون المدني في كلية الحقوق بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن).
- وبعد عودته الثانية من بغداد سنة 1937 عُيّن عميدا لكلية الحقوق، ورأس وفد مصر في المؤتمر الدولي للقانون المقارن في لاهاي.
- أَسندت إليه وزارة العدل المصرية مشروع القانون المدني الجديد للبلاد، فاستطاع إنجاز المشروع، ورفض الحصول على أي مكافأة.
- أُجبر مرة أخرى على ترك التدريس بالجامعة سنة 1937، فاتجه إلى القضاء وأصبح قاضيا للمحكمة المختلطة في المنصورة، ثم وكيلا لوزارة العدل، فمستشارا فوكيلا لوزارة المعارف العمومية، إلى أن أبعد عنها لأسباب سياسية سنة 1942.
- بعد إبعاده اضطر إلى العمل بالمحاماة رغم عدم حبه لها.
- في 1945 انتهى السنهوري من وضع القانون المدني، وطرحه للمناقشة في مجلس الدولة، وأُقر ثم أُصدر عام 1948، وهو القانون الذي أَسّس عليه السنهوري فيما بعد القوانين المدنية.
- تولى وزارة المعارف العمومية من عام 1945 حتى 1949.
- أثناء تلك الفترة أسس جامعتي فاروق (الإسكندرية الآن) وجامعة محمد علي.
- عُيّن عضوا بمجمع اللغة العربية في مصر سنة 1946.
- عُيّن سنة 1949 رئيسا لمجلس الدولة المصري، وأحدث أكبر تطوير تنظيمي وإداري للمجلس في تاريخه، وأصدر أول مجلة له، وتحول المجلس في عهده للحريات واستمر فيه إلى ما بعد ثورة يوليو/تموز سنة 1952.
المؤلفات والإنجازات
كتب السنوري عددا من الأبحاث والمؤلفات في القانون، من بينها:
- “القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي” عام 1920، وهي رسالة دكتوراه بالفرنسية.
- “فقه الخلافة” وقد كتبه بالفرنسية، وهي أطروحته للدكتوراه عام 1929، وترجمت للعربية.
- كتاب “عقد الإيجار” عام 1929، وهو دروس لطلبة الليسانس بكلية الحقوق في القاهرة.
- “نظرية العقد” كتبها عام 1934، وهي دروس لطلبة الليسانس بكلية الحقوق في القاهرة.
- كتاب “الموجز في الالتزامات” كتبه عام 1939.
- “أصول القانون” كتبه عام 1938، بالاشتراك مع الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت.
- “التصرف القانوني والواقعة القانونية”: دروس لطلبة الدكتوراه كتبها عام 1954.
- “مصادر الحق في الفقه الإسلامي” في 6 أجزاء.
- “الوسيط في شرح القانون المدني” كتبه في 10 أجزاء في 12 مجلدا.
- “الوجيز في شرح القانون المدني”.
- له مئات المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات المحكَّمة والدوريات المحلية والعالمية، والمحاضرات الجامعية لطلبة الحقوق والعلوم السياسية، في الجامعات المصرية والعربية والدولية.
- وقد أولى الدكتور السنهوري الشريعةَ والفقه الإسلامي اهتماما بالغا، وبذل لهما عصارة فكره وألمعيّةَ عبقريته، وحاجج بهما ودافع عنهما في المؤسسات الأكاديمية والمحافل القانونية والسياسية، العربية منها والدولية.
- وساهم في وضع الدساتير، والقوانين المدنية لعدد من الدول العربية، منها مصر والعراق وسوريا وليبيا والكويت والإمارات العربية المتحدة.
أبحاث منشورة باللغة الفرنسية:
- “الشريعة كمصدر للتشريع المصري”، نشر في مجموعة إدوار لامبير عام 1937.
- “المعيار في القانون” كتبه عام 1927.
- “المسؤولية التقصيرية” بالاشتراك مع الدكتور بهجت بدوي نشر في مجلة القانون والاقتصاد عام 1937.
- “المسؤولية التقصيرية في الفقه الإسلامي”، بحث مقدم إلى مؤتمر القانون المقارن في لاهاي، نُشر في مجلة القانون والاقتصاد عام 1937، وبفضل هذا البحث وقّع المؤتمِرون وثيقة انتصار الشريعة الإسلامية، واعتبارها من الشرائع الحية.
- “الشريعة الإسلامية”، قدمه أمام مؤتمر القانون المقارن في لاهاي.
- “المسؤولية الجزائية والمدنية في الشريعة الإسلامية”، نشر في مجلة القانون والاقتصاد عام 1945.
- “مجلس الدولة المصري” كتبه بالاشتراك مع الدكتور عثمان خليل عثمان، نشر في ذكرى مرور 100 عام على إنشاء مجلس الدولة الفرنسي.
الوفاة
توفي الدكتور عبد الرزاق السنهوري في القاهرة، في 21 يوليو/تموز 1971.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.