مدريد- للمرة الأولى سيتم عرض جزء مهم من التراث الإسلامي للعاصمة الإسبانية نهاية هذا الشهر، حيث يفتح متحف معرض المقتنيات الملكية (Galería de las Colecciones Reales) أبوابه للجمهور في مدريد.
واحدة من أهم مقتنيات المتحف الجديد هي جزء من السور المحصن الأصلي لمدريد الذي يعود للحقبة الأموية، ويقع المعرض في مبنى جديد بحدائق منتزه “كامبو ديل مورو” بجوار كاتدرائية “المدينة” والقصر الملكي.
وعلى الرغم من أن اكتشاف هذا الجدار الذي يعود إلى العصور الوسطى ليس جديدا، فإن الشروح المستخدمة للترويج للمعرض تشير إلى أنه بعد سنوات من التردد، أصبحت عاصمة إسبانيا أخيرا مستعدة لاحتضان ماضيها الإسلامي.
واستنادا إلى أحدث الأدلة الأثرية، يؤيد المتحف السردية -التي تم اعتمادها لفترة طويلة في الأوساط الأكاديمية- التي تقول إن أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الأموي (بالإسبانية الأول وبالعربية الأوسط) أسس مدريد في القرن التاسع الميلادي، بحسب تقرير الصحفية المختصة بتاريخ مدريد فيليسيتي هيوز للجزيرة.
وقال الأثري والمنسق المسؤول عن المعرض، ألفارو سولير “مدريد هي العاصمة الأوروبية الوحيدة ذات الأصول الإسلامية”.
وأضاف سولير أن هذه الحقيقة كانت غير مريحة منذ فترة طويلة “عندما قرر فيليب الثاني إنشاء العاصمة في مدريد [في عام 1561م]، وكان منخرطا في الحروب الدينية ضد الأتراك (المسلمين كما كان يسمون في التاريخ الأوروبي الوسيط). ووجد نفسه أمام تناقض أن العاصمة ستكون في مدينة إسلامية. وهكذا بدأت عملية التلاعب في تاريخ المدينة بأكملها”.
وتكشف السجلات الأثرية القصة الحقيقية.
فقد تم بناء المتحف على موقع الجدار المحصن الأصلي الذي يقع بجوار القصر الملكي في مدريد، الذي يقع بدوره على قمة ما كان يعرف سابقًا بقلعة المدينة أو “القصر” (alcázar).
في قلب المدينة، تعرف المنطقة بوجود البقايا الأثرية فيها.
خلال بناء المبنى في عام 1999، تم اكتشاف السور التاريخي و3 أبراج بالإضافة إلى بقايا بوابة قديمة.
كشف علماء الآثار أيضًا العديد من القطع الأثرية في الوقت الذي كانت فيه مدريد معروفة باسمها العربي القديم “مجريط” الذي اشتق من “مجرى”، ومن بين هذه القطع الأثرية عظام مجوفة تعود إلى العصر القوطي الغربي.
هيكل عظمي للقوط الغربيين
رغم كل ذلك التاريخ، كانت الصحافة الإسبانية تركز بشكل خاص على “بالنتين” (Valentín)، وهو هيكل عظمي من القرن الثامن تم العثور عليه في الموقع في عام 2009.
أوضحت كبيرة علماء الآثار إستير أندريو لصحيفة “البايس” (El País) أن هذا الشخص ربما كان راعيا قوطيا متجولا، واختارت صحيفتا “إلموندو” (El Mundo) و”إيه بي سي” (ABC) نشر ذلك التقرير بعنوان “هيكل عظمي قوطي يلقي بظلال من الشك على أصول مدريد”.
كان ذلك استنتاجا مبالغا فيه؛ إذ لم تقل أندريو أن الهيكل العظمي دليل على وجود مستوطنة.
وعبّر عالم الآثار المسؤول عن المعرض سولير عن انزعاجه من كون هذه القصة لا تزال قيد المناقشة، وأضاف “لدينا الرجل المعني في صندوق. ولكن لكي تكون قادرا على القول إن لديك سكانا من القوط الغربيين في مدريد، يجب أن يكون لديك بازيليك (صالة ملكية) أو مقبرة أو كنيسة، وهذا أمر حاسم”.
وأشار إلى أن وجود هيكل عظمي واحد في وسط ما كان في السابق ريفا لا يثبت شيئا، وتابع “عادة ما يتم دفن القوط الغربيين مع المقتنيات الجنائزية، و(في هذه الحالة) ليس لدينا شيء”.
وبينما أساءت الصحافة اليمينية فهم أندريو واستخدمت عنوانا مثيرا، فإن الباحثة الأثرية لا تزال متمسكة بزعمها أن الهيكل العظمي كان من القوط الغربيين، مستشهدة بالتأريخ الكربوني للجثة “ليس لدي أي شك. إنه من القرن الثامن”.
ورد دانييل جيل، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، بالقول “من الناحية الفنية، اختفت دولة القوط الغربيين مع الدخول الإسلامي في العقد الثاني من القرن الثامن”.
وأضاف “في عام 712، كان المسلمون قد غزوا طليطلة والمنطقة المحيطة بها، وعلى الرغم من حقيقة أن سلطة الأمويين استغرقت وقتا طويلا لتوحيد المنطقة -وهذا هو السبب في تأسيس مدريد- بدءا من عام 712 فصاعدا، لم يعد بإمكاننا الحديث عن القوط الغربيين ولكن عن الأندلسيين، حتى لو كانوا على خلاف مع أمراء قرطبة”.
يسعى جيل إلى التأكد من توعية المواطنين بالماضي الإسلامي للمدينة، وقد تعاون مع منظمة غير ربحية إسبانية تسمى “مؤسسة الثقافة الإسلامية” (FUNCI) في مشاريع مختلفة، بما في ذلك تجديد حديقة الأمير محمد الأول في عام 2010 للتأكد من وجود النباتات الصحيحة من عصر الأندلس.
التاريخ والأجواء السياسية
تقع الحديقة بجوار المتحف تحت جزء آخر من سور مدريد الذي يعود للقرن التاسع والذي تم اكتشافه في الخمسينيات.
وبحسب جيل، فإن هذا الجدار كان محبوبا في بعض الأحيان ومهجورا في أوقات أخرى، حسب التغييرات السياسية.
وأضاف الأكاديمي الإسباني “عندما افتتحوا الحديقة في التسعينيات، كانت هناك بعض اللوحات الكبيرة جدا باللغتين الإسبانية والعربية التي تشيد بمحمد بن عبد الرحمن كمؤسس لمدريد، وجرى إزالة هذه اللوحات عندما تم تجديد الحديقة، لتستقر (اللوحات) في مستودع البلدية. ولم يرغب (مجلس المدينة) أبدا في وضعها مرة أخرى”.
بينما توجد بعض اللوحات المتعلقة بالتراث الإسلامي لمدريد على الشارع القريب من الجدار، لا يوجد شيء داخل الحديقة نفسها.
يشير جيل أيضا إلى أن الحديقة عادة ما تكون مغلقة أمام الجمهور، وتقتصر أوقات فتحها على عطلة نهاية الأسبوع، وبعض المداخل تظل مغلقة حتى خلال تلك الأوقات.
واتخذت الحكومة المحلية قرارا غريبا يقضي بنقل أي اكتشافات أثرية تتم داخل المدينة إلى متحف يبعد حوالي 40 كيلومترا في “قلعة هنارس” (Alcalá de Henares)، بدلا من وضعها في متحف “سان إسيدرو” (San Isidro) في وسط المدينة.
يعتبر هذا الخيار غريبا نظرا لأن متحف “سان إسيدرو” يقع حيث كانت “موريريا” (morería) القديمة في المنطقة التي عاش فيها المجتمع المسلم في مدريد بعد الحكم المسيحي، في عام 1083.
وقال مدير المتحف إدواردو سالاس “هناك قطعة جميلة جدا ستكون المفضلة لدي، ولكنها توجد في “قلعة هنارس” (ألكالا دي هيناريس). وهذه القطعة تمثل نموذجا لبوابة المدينة وقد تكون استخدمت كلعبة أو مبخرة للبخور”.
يُعنى متحف “سان إيسيدرو” بأصول مدريد ولديه مجموعة رائعة ولكنها محدودة نوعا ما من السيراميك الإسلامي.
تأتي بعض هذه القطع الأثرية من حفرية سابقة أُجريت عندما تم بناء موقف سيارات تحت الأرض في التسعينيات من قبل القصر الملكي تحت ساحة “بلازا دي أورينتي” التاريخية في مدريد.
اكتشف أيضا برج مراقبة من القرن الحادي عشر من عهد الأندلس، ولكنه ظل مخفيا داخل موقف السيارات دون أي إشارات.
يعتقد جيل أن ذلك يشير إلى عدم ارتياح السلطات بالاعتراف بأصول مدريد الإسلامية، التي يعود تاريخها لفترة دراسة نصوص العصور الوسطى في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ويقول جيل “عندما تم نشر المصادر العربية، [في عام 1938]، حول تأسيس مدريد على يد محمد الأول، كانت هناك رواية واسعة الانتشار رسميا، وفي القطاعات الأكاديمية أيضا، ولا تزال رائجة حتى اليوم، أنه لا بأس، أسس محمد الأول مدينة مدريد، لكن كان هناك بالفعل سكان من أصل قوطي، أو من أصل روماني، أو أي شيء آخر”.
وأردف الأكاديمي الإسباني “ثم، مع تقدم الأعمال الأثرية، أصبح من الواضح أنه لا توجد آثار قبل الإسلام في مركز مدريد التاريخي”.
المتحف الجديد
يستند المتحف الجديد إلى أحدث الأدلة المتاحة. وفي قاعة ضخمة مخصصة للآثار الموجودة في الموقع، يمكن للزوار سماع حكاية عن أصول المدينة كواحدة من سلسلة حصون بُنيت لحراسة طليطلة ضد الهجمات من الشمال المسيحي.
وتظهر مقاطع الفيديو المعروضة إعادة تشييد ثلاثية الأبعاد لـ”مجريط” تروي قصة عاصمة إسبانيا مع إبراز أصولها كموقع إسلامي.
ومن المقرر أن يفتتح ملك وملكة إسبانيا معرض المقتنيات الملكية (Galería de las Colecciones Reales) غدا الأحد، على أن تتاح زيارته للجمهور بعد 4 أيام.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.