صراع الواقع والمشاعر والخيال في أنواع الدراما المختلفة | آراء


احتشد المتظاهرون الغاضبون في شوارع مدينة شيكاغو الأميركية عام 2007 احتجاجا على سياسات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قبيل إلقائه كلمة أمام منتدى اقتصادي يقام في فندق شيراتون بالمدينة. وبعد أن أنهى الرئيس كلمته، وبينما كان يهم بمغادرة المكان متوجها نحو باب الفندق -وقبل أن يصل إلى سيارته وسط حراسه- باغتته رصاصة قناص من مبنى مجاور، فأردته قتيلا وساد الهرج والمرج في المكان، ثم ألقت قوات الأمن القبض على شخص سوري واتهمته بالضلوع في الحادث، بناء على أدلة واهية في الفيلم البريطاني “موت رئيس” (Death of a President) للمخرج البريطاني غابريل رانج الذي أُنتج عام 2006.

يعتمد الفيلم من الناحية الشكلية على القالب الوثائقي من حيث الصور المعالجة لتبدو حقيقية، وعلى المقابلات مع الضيوف والمشاهد التي تبدو كأنها أرشيفية حقيقية. ومن الناحية الفعلية، فهو فيلم مستقبلي خيالي غير واقعي، وهو نوع من الأفلام تسمى “الوثائقية الخيالية” (Docufiction)، أي أنه هجين يجمع بين نوعين من الأفلام: الوثائقي والروائي الخيالي، وزمنه ليس في الماضي ولا في الحاضر، بل في المستقبل. والتهجين بين نوعين من الأفلام ليس قاصرا على هذه النوعية، كما سنوضح لاحقا، لكن هذا الفيلم يبدو نوعا صادما، لأنه يسرح بالخيال بعيدا ويستهدف أحيانا شخصيات مهمة في مواقع حساسة، كما استهدف بوش الابن ورسم سيناريو محكما لاغتياله في حين كان لا يزال آنذاك يتولى منصبه رئيسا للولايات المتحدة.

دور الكاميرا لا يقتصر على عملية التوثيق وأن هناك مجالا واسعا من أجل معالجة هذا الواقع فنيا وأن تحدث استعارات متبادلة بين الواقع والخيال في العمل الفني

لم يثر الفيلم وقتها ضجة سياسية تذكر، لكنه أثار حفيظة كثيرين، وقد وجد طريقه لدور العرض السينمائي رغم امتناع كثير من دور العرض في الولايات المتحدة عن عرضه، وقد بثته بعد ذلك القناة الرابعة البريطانية. وهو أحد الأفلام التي تجسد الصراع المتجدد بين الخيال والواقع في ساحات السينما والتليفزيون. فالمخرجون عادة ما يريدون بين الفينة والأخرى كسر الحواجز بين ما هو واقعي وما هو خيالي لاستنفار خيال المشاهد الذي ربما يعتاد مع الوقت القوالب الفنية التقليدية، فيلجؤون إلى أنواع هجينة سنعرض بعضا منها في هذا المقال:

أولا: الدراما الوثائقية

هي أشهر الأنواع، وخاصة في العالم العربي، وتعرف اختصار باللغة الإنجليزية “دوكيودراما (Docudrama)، وتندرج تحتها الدراما التاريخية وتعتمد على إعادة تجسيد حدث حقيقي سواء سياسي أو تاريخي باستخدام ممثلين يؤدون أدوار شخصيات حقيقية. وقد جرت العادة أن يقوم فريق الفيلم بإجراء بحث معمق عن الحدث من أجل تجسيده على شاشة السينما أو التلفزيون من ناحية الأحداث والحوار والملابس، ليس بغرض النقل الأمين للوقائع بقدر ما هو إضفاء لمسة واقعية عليه تُشعر المشاهد بصدق الحبكة والرواية. وهناك خلاف بين الغرض من هذا الشكل الفني وسبب نشأته، لأن هناك من يرون أن تصوير الواقع هو الأصل في الشكل الوثائقي، وأن هذا الشكل الهجين لم يظهر إلا بعد الحرب العالمية الثانية لسد العجز في آلات التصوير التي كانت صعبة النقل وقتها، ومن ثم لجأ المخرجون لتمثيل مشاهد من الواقع بدلا من تسجيله. ووفقا لهذه الرؤية، كل ما عدا ذلك يعد فيلما أو دراما خيالية حتى ولو كان تجسيدا لبعض الوقائع الحقيقية أو التاريخية.

ويرى آخرون أن دور الكاميرا لا يقتصر على عملية التوثيق وأن هناك مجالا واسعا من أجل معالجة هذا الواقع فنيا وأن تحدث استعارات متبادلة بين الواقع والخيال في العمل الفني. وبين هؤلاء وأولئك، هناك عدة إشكاليات أخلاقية وفنية غير محسومة، منها مدى التزام المخرج بعدم تغيير الواقع. ومع توالي المشاكل، اعتمدت عدة قنوات في العالم معايير عدم التضليل لتكون بديلة لفكرة التوثيق، وذلك لما يتطلبه التوثيق من دقة شديدة غير متوفرة في العمل الفني، وأن ما يثير حفيظة كثيرين هو التشويه الناجم عن التضليل والتزييف. وربما يفسر هذا لنا المعارك الموسمية مع المسلسلات والأفلام التاريخية العربية أو التي تتناول قضايا عربية.

ثانيا: الميلودراما

يقع هذا النوع “الميلودراما” (Melodrama) علي النقيض تماما من النوع السابق. وقد أوردته كي تبرز مكامن التناقض ويتضح كل نوع بشكل جلي. فالميلودراما عكس الدراما العادية والدوكيودراما، فليس بها قصة متماسكة وحبكة تتطور معها الشخصيات وفق تسلسل منطقي، بل هي نمط من المسرح ذاعت شهرته في العصر الفيكتوري في أوروبا ويعتمد بشكل رئيسي على التأثير في العواطف والمشاعر وتصاحبه موسيقى بشكل مكثف من أجل زيادة التأثير على المشاهد حتى ذهب البعض إلى أنه نوع هجين بين الدراما والموسيقى. وعادة ما يتم تصنيف كثير من الأفلام الهندية التي تحتوي على أحداث غير منطقية وفق هذا التصنيف. وأيضا يُنظر إلى كثير من أدوار الممثلة الراحلة فاتن حمامة على أنها ميلودراما، خاصة أفلاما مثل “ليلة القبض على فاطمة” و”أفواه وأرانب”.

كما أنها تعتمد كثيرا على الحوار وليس على الحركة وتتابع المشاهد والأحداث، ويدور هذا الحوار غالبا حول أمور وعظية وأخلاقية وعاطفية، كما في كثير من المسلسلات التركية الرومانسية التي ذاع صيتها قبل موجة المسلسلات التاريخية الحالية.

وهناك عديد من الأنماط الدرامية الهجينة الأخرى لكنها ليست منتشرة في العالم العربي، لهذا اقتصرنا على هذه الأنواع الثلاثة ليتبين للمشاهد نوعية الدراما التي يشاهدها ويكون مدركا حجم التأثير الواقع عليه، فلا يخلط بين ما هو خيالي وما هو واقعي وما هو ميلودرامي يستهدف تجييش المشاعر بشكل رئيسي. وإحدى النظريات المهمة في هذا المجال هي نظرية العودة للمشاهد ودراسة ردود فعله، ومن ثم توعيته من أجل أن يدرك الفروق الجوهرية بين الأنواع الدرامية التي يتعرّض لها، فيختار سلفا ما يود مشاهدته وما يود تجنبه، ويمكّنه هذا أيضا من توجيه النقد المطلوب وفق أسس فنية سليمة. وهذا يضيق الفجوة بين المختصين والمبدعين من جهة والجمهور من جهة أخرى، ويقلل من ظواهر الصدام الموسمي بين اتهام المبدع بالتعالي على الجمهور متمترسا بحريته في الإبداع واتهام الجمهور بالجهل بأصول الفن والإبداع.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post الجيش الوطني الليبي ينفي انحيازه لأي طرف في السودان
Next post مشهد مذهل.. سعودي ينقذ جملاً صغيرًا من حفرة ليسلمه لأمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading