مع غروب الشمس، يبدأ رواد شاطئ بحر مدينة غزة التجمع أمام شاشة كبيرة تتجهز لعرض أفلام سينمائية، بعضها تعبر عن قضايا فلسطينية وطنية.
وعلى كراسٍ أُعيد تدويرها ومصنوعة من إطارات المركبات التالفة، ومُرتبة بشكل يتيح للجميع مشاهدة الشاشة؛ يجلس محبو السينما منتظرين لحظة بداية العرض.
ويجذب صوت الفيلم مع انطلاقه رواد الشاطئ من المناطق البعيدة نسبيا، خاصة إذا كان الفيلم المعروض “كرتوني” للأطفال، ليبدأ العشرات منهم التجمع للمشاهدة.
هذه الأفلام عكفت مبادرة “البحر إلنا (لنا)” التعاونية (شبابية مجتمعية) على عرضها في الهواء الطلق، وذلك في إطار توفير “سينما مفتوحة” للفلسطينيين، الذين حرموا من دور عرض السينما في قطاع غزة منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
وبدأت السينما الظهور في القطاع منذ بداية أربعينيات القرن الماضي مواكبة للنشاط الثقافي والفني آنذاك، ليضم القطاع عددا من دور السينما تراوح عددها بين 5 و10، وفق مسؤولين ومخرجين فلسطينيين، وبدأت أعدادها التراجع مع نهاية الثمانينيات.
سينما البحر
وقال مؤسس مبادرة “البحر إلنا” علي مهنا (وهو مخرج فلسطيني) إن فكرة “سينما البحر تقوم في الأساس على عرض أفلام سينمائية على شاطئ البحر بشكل مجاني، وأغلبها لمخرجين فلسطينيين حصل بعضها على جوائز عالمية أو إقليمية”.
وأضاف في حديثه للأناضول “حصلت المبادرة على تمويل من الصندوق الثقافي التابع لوزارة الثقافة في رام الله، لعرض نحو 15 فيلما تسلط الضوء على قضايا وطنية فلسطينية؛ كالنكبة والأسرى وبعض الشخصيات الفلسطينية مثل الشاعر معين بسيسو”.
لكن القائمين على المبادرة يحاولون عرض أفلام كرتونية خاصة بالأطفال (أنمي) إلى جانب 15 فيلما، كي يتناسب العرض مع جميع الأذواق ونشر ثقافة السينما بين الأطفال.
وأوضح مهنا “نحاول بأبسط الإمكانات محاكاة جو سينمائي نتمكن خلاله من عرض الأفلام للناس، وهذه الأفلام تمرر قيما وطنية وإنسانية”.
وذكر أن الهدف من هذه المبادرة لا يرتبط فقط بالطابع الثقافي، بل توفير مساحة للسكان من أجل الاستمتاع والتخفيف من ضغوط الحياة الناجمة عن الحصار الإسرائيلي المشدد والمتواصل منذ 2007.
وأشار إلى أن تعاونية “البحر إلنا” ستواصل عرض الأفلام السينمائية مرتين في الأسبوع، وذلك بعد انتهاء مبادرة “سينما البحر” الممتدة طيلة فصل الصيف.
لغة مشتركة
ووصف المخرج الفلسطيني محمد الصواف مبادرة “سينما البحر” بأنها “فكرة جميلة تتيح الفائدة لجمهور واسع” في الوقت الذي تخلو فيه غزة من دور العرض.
وقال الصواف “سيتم عرض 3 من الأفلام التي أشرفت على إنتاجها؛ واحد منها يوثق تاريخ الحركة الأسيرة في محاولات الهروب من السجن منذ عهد الانتداب البريطاني في فلسطين (1917-1948)”.
وأوضح أن أفكار الأفلام المعروضة على شاطئ البحر “تستهوي الكثير من المشاهدين، حيث تشمل عامل التشويق وتحمل قيما وطنية”.
واستكمل “لغة السينما مشتركة بين الجميع من دون تمييز، من المهم جدا عكس تفاصيل القضايا الفلسطينية والنضال عبر السينما ليصل إلى العالم”.
ودعا إلى أهمية “استغلال السينما والأفلام في نقل حقيقة ما يحصل على الأراضي الفلسطينية، والتأكيد للعالم الخارجي أن أشخاصا على هذه الأرض يبحثون عن الحرية والإبداع ومكانهم ليس القتل أو الأسر”.
واقع السينما
بدوره، قال مدير دائرة الفنون والتراث والمعارض في الهيئة العامة للشباب والثقافة بغزة (حكومية) عاطف عسقول إن نشأة السينما في القطاع ارتبطت بالوضع الثقافي والفني الذي كان ملفتا قبل احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية عام 1948.
وأضاف عسقول “نشاط فلسطين في المجالين الثقافي والفني ربما يعود لوقوعها على تخوم مصر ولبنان اللذين كانا رمزا للثقافة وصناعة الأفلام والسينما على مستوى الوطن العربي، وكان لدينا تأثر خاص بالسينما المصرية”.
وأوضح أن بداية ظهور السينما في غزة تعود وفق التقديرات لأربعينيات القرن الماضي، حينما أنشئت “مؤسسة السامر” التي تحولت بعد ذلك لـ”سينما السامر” عام 1944.
وامتد النشاط السينمائي والفني بعد ذلك على مستوى القطاع حتى بداية الانتفاضة الأولى، حيث تولى القطاع الخاص آنذاك مهمة افتتاح دور عرض السينما، وفق عسقول.
وأردف “بعد ذلك تم افتتاح سينما النصر وعامر في غزة، والحرية في خان يونس، والسلام في مدينة رفح، ليصل عددها على مستوى القطاع إلى 5 دور عرض”.
لكن مخرجين فلسطينيين يقولون إن عدد دور عرض السينما بلغ في قطاع غزة قبل الانتفاضة الأولى نحو 10.
وعن طبيعة الأفلام المعروضة، قال عسقول إن دور عرض السينما في غزة كانت مواكبة للسينما حول العالم، وتعرض الأفلام العربية والهندية والأجنبية.
وأشار إلى أن هذه الدور كانت تنشط في “المناسبات الرسمية كالأعياد، حيث كان هناك إقبال ملفت، خاصة من فئة الشباب”.
تراجع السينما في غزة
ومع بداية الانتفاضة الأولى، وما رافقها من أوضاع ميدانية وأمنية صعبة تراجعت أعداد دور السينما، خاصة أنها كانت ملكا للقطاع الخاص، حيث قال عسقول “رأس المال دائما جبان”.
وأضاف “الأوضاع الأمنية التي واكبت الانتفاضة كانت صعبة، فنظام منع التجول كان يبدأ من ساعات مبكرة من المساء، وما كان يرافق ذلك من إضرابات ومظاهرات واشتباكات وسقوط شهداء وجرحى وملاحقات؛ كل ذلك أثر على السينما في القطاع”.
وذكر أن الحالة الاجتماعية والنفسية العامة في القطاع -التي رافقت أحداث الانتفاضة- لم تسمح آنذاك بارتياد دور السينما، وتابع أن “السبب الرئيسي كان الاحتلال بكل تداعياته من ممارسات أمنية وقمعية في المجتمع، مما أدى إلى عدم استقرار الوضع الفني والثقافي”.
وتعقيبا على عدم إعادة افتتاح هذه الدور رغم استقرار الأوضاع بشكل نسبي في القطاع، قال المسؤول الحكومي “لم تكن هناك أي مبادرة (من القطاع الخاص) لافتتاح دور سينما”.
وأوضح أن القطاع شهد منذ سنوات عددا من المبادرات التي أطلقتها مؤسسات لعرض أفلام سينمائية ووثائقية في أماكن مفتوحة، معربا عن تشجيع هيئته للمبادرات المجتمعية الثقافية التي تنشر ثقافة السينما في غزة، والتي كان آخرها مبادرة “سينما البحر”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.