الدار البيضاء- ممرات ضيقة تفوح منها روائح أفريقية، وتقابل العين في جنباتها ألوانا زاهية من ثياب الشعوب الأفريقية ومنتجاتها، وتداعب آذان المارين منها مفردات من لغات قلب القارة السمراء تمتزج بعبارات فرنسية وأخرى من اللهجة المغربية لتنتج سيمفونية ثقافية فريدة. يكفي أن يقوم الزائر بجولة صغيرة في هذا المكان ليعيش رحلة سفر أفريقي من أقصى شمال غربي القارة.
السوق النموذجي بالمدينة القديمة في الدار البيضاء، أو ما يُصطلح عليه بين مواطني العاصمة الاقتصادية للمغرب بـ”سوق السنغال” مقتبسين الاسم من أصول تجار السوق وزبائنه الأفارقة الذين ينحدر معظمهم من دولة السنغال، هو مجتمع تجاري أُسس عام 2003 بهدف تنظيم الباعة المتجوّلين في المنطقة، قبل أن يشتهر بخصوصيته الأفريقية بين المغاربة، مثلما ذاع صيته بين جميع المهاجرين إلى المملكة أو عبرها من دول جنوب الصحراء.
فضاء للتعايش
على عكس معظم الحالمين بعبور المغرب وتجاوز أمواج البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى الضفة الأوروبية، هربا من الفقر والتهميش والحروب في بلدانهم، اختار محمد (شاب عشريني) الاستقرار في مدينة الدار البيضاء، بعد رحلة بدت مجهولة المصير عند انطلاقها من العاصمة السنغالية دكار.
يقول محمد -في حديثه للجزيرة نت- إن “المغرب هو نهاية الطريق بالنسبة إلي، هنا وجدتُ بلدا متقدما وشعبا كريما”.
يمضي محمد يومه في دكان صغير بمدخل السوق النموذجي، يبيع زيوتا ومستحضرات تجميل ومنتجات طبية مستوردة تحديدا من مالي والسنغال، لتكون بين مئات المنتجات الفريدة بالسوق والمتنوعة بين مأكولات -مثل السمك المقدد والموز- وعصائر تُحضر بطريقة أفريقية، وأزياء تعكس تنوع ثقافات القارة.
بابتسامة عريضة تظهر مدى ارتياحه وهو يحكي عن الكم الكبير من أصدقائه المغاربة الذين عاش معهم قصصا جميلة منذ قدومه قبل 7 سنوات، يضيف محمد: “أعيش بخير هنا، وغير أني بعيد عن عائلتي التي أتواصل معها باستمرار… لا أواجه أي مشكلة”.
ثم يضرب كفا بكف، ويستدرك قائلا: “… باستثناء ثمن الإيجار المرتفع الذي أدفعه مقابل العمل في هذا الدكان”، مشددا على أن الأزمات الاقتصادية لا تفرق هنا بين عامل مغربي وآخر مهاجر.
تتفق ميليسا مع محمد، وتشكو من ارتفاع إيجار المحال في السوق النموذجي. وبينما تتحدث الشابة المنحدرة من ساحل العاج عن الظروف الصعبة، تمسك قطعة “بيني” (نوع من الفطائر) خرجت للتو من فرن جارتها، وتقتسمها معي قائلة: “لكننا، على الرغم من ذلك، نكافح والحمد لله”.
وتضيف: “سواء تعلق الأمر بالمغرب أو بلد آخر غيره، تارة تكون المعيشة جيدة وتارة أخرى صعبة”. وتسترسل الفتاة الإيفوارية: “أجمل ما في المغرب هو أن فيه شعبا منفتحا على الثقافات المختلفة، ويرحب بالآخر دائما”.
خلال جولة في السوق الذي يقع على بعد أمتار قليلة من “باب مراكش” الشهير، يرحب بالزائرين شباب من أصول أفريقية مختلفة، لكن بابتسامة واحدة، كل منهم يحاول تعريفهم بمنتجاته أو حرفته، على أمل الوقوف عند محلاتهم.
في هذا المكان يبدو أنه لا يوجد إنسان يشعر بأن الآخر أجنبي، وفضلا عن حركة التسوق الناشطة من دون توقف طوال النهار، لا تخطئ العين المشاعر الإنسانية الدافئة في زوايا المحال بين التجار المهاجرين أو بينهم وبين زملائهم المغاربة، أو بين التاجر وزبونيه المغربي والأفريقي.
وسط هذه الحركة التي تنبض على أنغام موسيقى أفريقية بصالون حلاقة في أحد ممرات السوق النموذجي، تحكي مريم (طالبة طب مغربية) عن زيارتها الأولى، لافتة إلى أنها جاءت برفقة صديقتها المنحدرة من السنغال، لكي تتعرف “على هذا السوق الذي يعد مختلفا نوعا ما عن السوق المغربي”.
وتقول مريم للجزيرة نت: “كوننا نحن المغاربة منفتحين على جميع الثقافات، جئت اليوم لأكتشف الثقافة السنغالية خصوصا والأفريقية عموما، وهي ثقافات متنوعة ومختلفة بحكم أنهم يأتون من دول عدة، كما أنهم يبيعون منتجات مثيرة للاهتمام لا توجد لدينا”، وتضيف معبرة عن سعادتها برفيقتها: “نحن أصدقاء منذ سنة تقريبا”.
فرصة للمهاجرين
يرى عبد الإله الفراخ، عضو سابق في مجلس مدينة الدار البيضاء، أن هذه السوق ساعدت السلطات المحلية في تنظيم أعداد كبيرة من المهاجرين الذين كانوا منتشرين في شوارع وسط المدينة لعرض حرفهم المتنوعة، “قبل أن تتحول معلما شهيرا استفادت منه الحركة التجارية، والسياحة الداخلية في مدينة الدار البيضاء، لأنه تتوافر فيه منتجات وحرف فريدة من نوعها داخل هذا الفضاء لا توجد في مكان آخر غيره”، لافتا إلى أن هذا أفاد المهاجرين من جهة، كما شكل إضافة للمغرب في تدبير الحكومة لملف الهجرة.
ويقول الفراخ -للجزيرة نت- إن مثل هذه المشاريع تعكس “تجربة مغربية غنية لها وقع على أفريقيا”.
ويرى الخبير في قضايا الهجرة صبري الحو أن الفضاءات العامة مثل “سوق السنغال” أتاحت الفرصة لعدد من المهاجرين كي يجتهدوا وينالوا تعاطف المغاربة، “بل وينافسوهم منافسة شريفة، ويتطبعوا بطبعهم ويتعلموا لغتهم وفن المساومة بالطريقة المغربية، وهو ما يعد مثالا للتعايش بين الجميع، من دون تمييز أو عنصرية”، مؤكدا أنه “لا فرق بين مغربي وأفريقي، الجميع أصبح جسما واحدا”.
ويقول الحو إن تجربة المغرب في إدارة الهجرة فتية، “لكنها غنية واستثنائية على مستوى القارة، جاعلةً منه رائدا أفريقيا في هذا الميدان”، لافتا إلى أنه يكسب تجارب جديدة ويكتشف أجناسا وثقافات متنوعة، ويحتضن الجميع، فضلا عن أنه “يُعلّم الوافد كيف يحترم القيم والتقاليد المغربية ليسهل عليه الاندماج في المجتمع”.
ويدعو الفراخ الحكومة المغربية إلى ضرورة إطلاق عملية جديدة تهدف إلى تسوية أوضاع المهاجرين من الدول الأفريقية، لا سيما أولئك الذين فضلوا الاستقرار والعمل في المغرب على العبور إلى خارج القارة.
يذكر أن الرباط باشرت عام 2014 عملية واسعة لتسوية أوضاع آلاف المهاجرين غير النظاميين في البلاد، استفاد منها نحو 50 ألف مهاجر على مرحلتين متتاليتين، ضمن إستراتيجية وطنية للهجرة واللجوء أسهمت في تحول المغرب من نقطة عبور إلى بلد للإقامة والاستقرار بالنسبة إلى آلاف الأشخاص المنحدرين أساسا من أفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 95%.
لماذا الاستقرار في المغرب؟
يعزو الخبير في قضايا الهجرة صبري الحو استقرار المهاجرين في المغرب، بدل العبور إلى أوروبا، إلى تشديد السلطات المغربية مراقبة الحدود والشواطئ، بسبب انخراط الرباط في التدبير التعاوني لمحاربة الهجرة غير النظامية في إطار اتفاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، “ليجد المهاجرون أنفسهم عالقين في المغرب بين رفضهم الرجوع إلى أوطانهم وشبه استحالة فرصة العبور إلى الضفة الشمالية”، وفق تعبيره.
إلى ذلك، ينهج المغرب -وفق الحو- مقاربة جديدة في تدبير ملف الهجرة، وقد “اختزلها أولا في تسوية الأوضاع الإدارية للمهاجرين، ثم اتخاذ إجراءات اندماجهم الاجتماعي، وهو ما يُعد تطبيعا مع التزاماته في إطار القانونين الدوليين لحقوق الإنسان، والهجرة”، معتبرا أن “المهاجرين وجدوا أنفسهم مجبرين على الإقامة غير مخيرين بحكم الواقع والقانون”.
“أنا مغربية. لا أريد الذهاب إلى أوروبا ولا أميركا ولا أي مكان آخر”، تُعبّر عائشة (سيدة من أصول سنغالية) بلهجة مغربية ونبرة صوت واثقة عن حبها للمغرب واختيارها الاستقرار فيه عن قناعة.
وتقول للجزيرة نت: “أعيش في هذا المكان منذ 17 سنة. أطفالي ولدوا ونشؤوا هنا. ماذا سنفعل في أوروبا؟ هل هي بلاد مسلمة؟”، وتضيف: “الحمد لله، نعيش هنا في أمان وقناعة. لا نفكر في الرحيل إلى أي مكان آخر”، مبدية سعادتها بزبائنها من المغاربة والسياح في سوق السنغال.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.