خط سكة حديد الحجاز أو السكة الحديدية الحميدية، هو إنجاز هندسي أنشئ في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أوائل القرن التاسع عشر، واستمر العمل فيه 8 سنوات.
يربط بين دمشق والمدينة المنورة وامتاز بكونه المشروع الإستراتيجي الوحيد الذي موّل بتبرعات عثمانية وإسلامية، أسهم في نهضة تجارية واقتصادية وعمرانية في مدن الحجاز.
واختزل على الحجاج مسافة كانت تستغرق 3 أشهر. تعرض للتخريب إبان الثورة العربية بتحريض من بريطانيا، ومنذ ذلك الحين لم تفلح محاولات إعادة تشغيله أو تطويره.
فكرة المشروع
سمي خط سكة حديد الحجاز على اسم المنطقة الواقعة غرب شبه الجزيرة العربية، حيث تقع المدينتان المقدستان مكة والمدينة، وعرف في السجلات العثمانية باسم “خط شمندوفير الحجاز” أو خط حديد الحجاز الحميدي، وفي وثائق دار الأرشيف العثماني باسم “حجاز تيمور يولي”.
بينما سمته مراجع تاريخية “طريق الحرير الحديدي” بسبب تأثيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحيوي على المنطقة خلال فترة تشغيله.
تعود فكرة إنشاء هذا الخط إلى مجموعة من المقترحات قدمها مهندسون من مختلف الجنسيات، ففي عام 1864 قدم “تشارلز زامبل” المهندس الأميركي من أصل ألماني، مقترحا لربط دمشق بالبحر الأحمر، وذلك في عهد السلطان عبد العزيز.
وعام 1872 قدم المهندس الألماني “ويلهام فون برسيل” مقترحا يهدف إلى ربط القسم الآسيوي من الدولة العثمانية، وفي عام 1974 قدم الملازم أحمد رشيد مقترحا لمد خط من الشام إلى مكة ومنها إلى جدة.
وفي عام 1978، قدم الإنجليزي “إلفينستون دارلمبل”، فكرة لإنشاء خط من حيفا أو عكا يخترق وسط الجزيرة العربية ويتصل بالكويت ومنها خط فرعي إلى البصرة. إلا أن التكلفة العالية للمشروع، كانت مانعا أساسيا للشروع في تنفيذ أي من هذه المقترحات.
حلم قديم وخط حديدي جديد
قبل أكثر من قرن سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى ربط الأقاليم العثمانية بشكل أكبر بإسطنبول وتوفير الحماية لها، وحينها كان الحجاج يتوجهون إلى الديار المقدسة عبر قوافل في رحلة مرهقة تستغرق شهرين وتتعرض لاعتداءات وسرقات كثيرة.
بقي المشروع طي الكتمان ثم تجدد الاهتمام به حين قدّم وزيره في الأشغال العامة حسن فهمي باشا عام 1880 لائحة مشروع مفصل لخط حديدي يربط الأناضول بالجزيرة العربية، ينطلق من أزمير مرورا بقونية وحلب وينتهي في بغداد ومن دمشق إلى الأراضي المقدسة، لكن الأحوال المالية كانت عائقا حال دون تنفيذه.
عام 1884 قدم والي الحجاز عثمان نوري تصورا عن أهمية إنشاء خط في أراضي الحجاز في صد أي اعتداءات خارجية على المنطقة ثم جدد مقترحا بخط بين مكة وجدة عام 1892 استعان فيه بمذكرة قدمها الضابط سليمان شفيق ووالده المعين في أمانة سر الحج، تشرح الأهمية الإستراتيجية لإنشاء خطوط حديدية، في حال إغلاق قناة السويس من قبل الإنجليز أو نشوب صراع بين الدولتين.
وشهدت نهاية عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر إحياء الفكرة من جديد على يد رجل الدولة الدمشقي أحمد عزت باشا العابد، حين قدم عام 1892 خطة تفصيلية لمشروع أقل تكلفة مما قُدم، أرفقها بشرح فوائده الأمنية والسياسية والدينية والخدمية والاقتصادية.
كان عزت باشا على اطلاع بالمشاريع المقترحة سابقا، عندما كان يشغل منصب مدير الأوقاف في جدة وبيّن أهمية إنشاء خط حديدي بخاري من الشام أو من مكان آخر مناسب إلى الحجاز، ليكون طريق الحجاج سهلا وآمنا، ويقال إن هذه الفكرة حظيت بتأييد المستشار العسكري للسلطان فأحالها على الفريق محمد شاكر باشا، رئيس الأركان الحربية والذي أنشأ رسما للخط المقترح وتقديراته المالية والفنية.
في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1897 قدم أحمد مختار باشا المعتمد المميز في مصر عريضة للسلطان نبه فيها على خطورة التدخل الإنجليزي في أفريقيا والبحر الأحمر واليمن، والتهديد الذي تتعرض له المناطق المقدسة في الحجاز، واقترح إنشاء خط يربط دمشق بالسويس، وقونية في الأناضول بدمشق.
وكان مجلس الوكلاء حينها قد ناقش هذه العريضة في يناير/كانون الأول 1898 ووافق على أهمية المشروع المقترح، لكنهم أجلوا دراسته إلى وقت لاحق.
وترجح بعض المصادر أن الصحفي الهندي محمد إن شاء الله بلور فكرة إنشاء خط من دمشق إلى المدينة المنورة في إطارها الصحفي وقاد الدعاية لها في مختلف صحف العالم الإسلامي.
وكان تحقيق هذه الفكرة إحدى أمنيات السلطان التي تحدث عنها في مذكراته عام 1898، وبعد عامين تبنى تنفيذ المشروع الذي وصفه بـ”حلمه القديم”، انطلاقا من سعيه لتعزيز التضامن الإسلامي، ودعم قوة الدولة وقدرتها الإستراتيجية.
مصادر التمويل
أعطى السلطان أوامره عام 1900 ببناء خط حديدي يربط بين دمشق والمدينة المنورة ومكة المكرمة، مع مد خطوط برية على طول مساره، واعتزم مع مستشاريه أن يكون مشروعا عثمانيا إسلاميا في تمويله وإدارته من دون رأس مال أجنبي.
عدّ ذلك الأمر طموحا ضخما يطرح تحديا ماليا وهندسيا، إذ شكك كثير من رجال الدولة في قدرة السلطان على تنفيذ هذا المشروع المعجز، كما قال أكثر المهندسين والجغرافيين بتعذر إنجازه.
كانت تكلفة الإنشاء المتوقعة في حدود 4 ملايين ليرة إذا امتد حتى مكة المكرمة، و3.5 ملايين ليرة إذا اقتصر على المدينة المنورة (أي ما بين 15% و20% من الميزانية) بينما كانت الدولة تعاني عجزا كبيرا وتواجه صعوبات مالية مع الديون العمومية.
وسط الظروف المادية الصعبة واعتراضات الدول الغربية وحملات سخرية وتهكم من نجاح المشروع، بدأ تنفيذ إنشاء الخط بعد دراسة كل خيارات تمويله، وكان في مقدمتها قرض من البنك الزراعي العثماني مقسطا على مدى 8 سنوات قيمته تقارب نصف مليون ليرة. واعتمدت الدولة العثمانية 3 مصادر رئيسية للتمويل:
موارد رسمية ثابتة: من ضرائب خاصة ضمنت 250 ألف ليرة سنويا، وإعانات مفروضة من طوابع البريد ومخصصات الحج مقدارها 150 ألف ليرة سنويا، بالإضافة إلى عائدات مبيعات جلود الأضاحي وغيرها، كما أوقفت عليه أراض ومشروعات أهمها ينابيع الحمة المعدنية ومرفأ حيفا.
تبرعات من ملوك وأمراء وهيئات وأفراد: بدأت بتبرع السلطان بحوالي 320 ألف ليرة تركية، وهو ما يعادل ربع إجمالي تكلفة المشروع، ثم الأسرة الحاكمة وكبار رجال الدولة العثمانية والموظفين وعامة الشعب.
وجاءت تبرعات من شاه إيران بما يعادل 50 ألفا وأمير الكويت 500 ليرة وسلطان المغرب 750 فرنكا وأمير بخارى 400 فرنك وسلطان المكلا 20 ألف روبية، كما تبرع خديوي مصر عباس حلمي بكمية من مواد الإنشاء والبناء والخشب، وأمير حيدر آباد بإنشاء محطة المدينة المنورة.
تبرعات الأفراد والهيئات من شتى بقاع العالم الإسلامي: إذ أرسل مسلمو ناتال في جنوب أفريقيا ألف ليرة، ومسلمو سنغافورة 4 آلاف جنيه إسترليني، ومن مسلمي الهند وصل تبرع بقيمة 150 ألف ليرة.
بلغ مجموع التبرعات 760 ألف ليرة عثمانية، أي 17 مليون فرنك، ما يعادل ثلث المبلغ المطلوب لإنجاز الخط، وهو ما عده المؤرخ جيمس نيكلسون إنجازا ملحوظا يشهد لنجاحه 6 مجلدات من محفوظات دار الأرشيف العثماني في إسطنبول، تتضمن أسماء أكثر من 20 ألف متبرع.
بينما استحدثت بموجب مرسوم سلطاني صدر عام 1901 ميداليات باسم الخط (حميدية حجاز تيمويولي مداليه سي) وأوسمة ورتب وألقاب لتكريم المتبرعين والمساهمين بالجهد الجسدي والفكري والمالي في المشروع، حتى إن أحد الرعايا النمساويين دفع حوالي 2100 ليرة ذهبية للحصول على لقب باشا، كما كانت تُمنح للعاملين ساعة جيب نحاسية طُبع عليها صورة محرّك بخاري.
كان أمير الكويت ممن ورد ذكرهم في دفاتر الميداليات الممنوحة للمتبرعين المحفوظة في دار الأرشيف، إلى جانب أسماء من كل دول العالم الإسلامي وعسكريين في كل ولايات الدولة.
أعمال الإنشاء والإدارة
في مايو/أيار 1900 أصدر السلطان “إدارة شاهانية” بإنشاء لجنتين للإشراف على تنفيذ المشروع، الأولى برئاسته ومقرها في إسطنبول وعين عزت باشا رئيسا للخط، والثانية للتنفيذ برئاسة والي سوريا ومقرها دمشق، بينما أسندت الإدارة العامة إلى اللواء كاظم باشا صهر السلطان لتنسيق أعمال الإنشاء، وعهد إلى المهندس مختار بك بمهمة مسح عام في المنطقة لتحديد مسار الخط، وعهد بالإدارة الفنية إلى المهندس الألماني “هنريك أوغست مايسنر” وصادق باشا المؤيد العظم مساعدا له.
كان مايسنر مشرفا على المهندسين ومسؤولا عن أعمال الإنشاء مقابل 200 فرنك مصروف مع زيادة 100 فرنك في الراتب شهريا حتى عام 1909، وعمل تحت إشرافه 43 مهندسا من جنسيات مختلفة: 17 مهندسا عثمانيا و12 ألمانيا و5 فرنسيين ونمساويين وبلجيكي ويوناني. أما أعمال الإنشاء فقام بها جنود الجيش العثماني، وبلغ عددهم حتى عام 1908 نحو 7500 رجل.
ابتداء من محطة الأخضر على بُعد 760 كيلومترا جنوب دمشق، وحتى المدينة المنورة، استغنت لجنة المشروع عن الفنيين الأجانب، إذ كان لا يسمح لغير المسلم أن يتجاوز هذه المنطقة، واستُبدل بهم فنيون من العرب تحت إشراف المهندس العثماني مختار بك. وكان من بينهم شاب يدعى نظيف الخالدي مقدسي الأصل ما يزال اسمه يطلق على جبل النظيف في عمان.
تم تشييد الخط على 3 مراحل رئيسية، شملت الأولى مسح الأرض التي يمر بها الطريق لتقدير الكلفة المالية، والثانية تحديد معالم سير الخط وارتفاعاته، والثالثة في التنفيذ الفني الذي تجسد في 3 خطوات إنشائية:
- الأولى تسوية الأرض التي يمر بها الخط.
- الثانية إعداد الخط الترابي وإنشاء الجسور والأنفاق.
- الثالثة وضع القضبان الحديدية في مساراتها الصحيحة.
اتبع الخط الحجازي المسار والاتجاه الذي سلكته قوافل الحج منذ القدم (طريق الحج الشامي) مع بعض التعديلات البسيطة لأسباب فنية، وأنجز على 5 مراحل بمعدل حوالي 182 كيلومترا كل عام.
بدأ العمل يوم 1 سبتمبر/أيلول 1900 بإنشاء خط برقي بإدارة الفريق الأول صادق باشا المؤيد العظم، واضطلع الوالي آنذاك الوزير حسين ناظم باشا بتيسير وصول الأدوات البرقية إلى المدن والبلدات التي يمر عبرها بمساعدة العشائر الأردنية.
كان إنشاء التلغراف من دمشق إلى المدينة عبر عمان بطول 1303 كيلومترات، ضمن سرعة الاتصالات وربط أجزاء الدولة بزمن قياسي. وبعدها بدأ التنفيذ الفعلي للخط من محطة مزيريب وافتتح القسم الأول دمشق- درعا في سبتمبر/أيلول 1903.
وبعده بشهر وصل إلى عمّان ثم إلى معان عام 1904، وهناك أقيمت إدارة أعمال شرعت في نقل الركاب وشحن البضائع يوم 1 سبتمبر/أيلول 1905 واستخدمت عائداتها في تمويل ما تبقى من السكة جنوبا.
ثم وصل الخط إلى مدائن صالح (العلا حاليا) عام 1906، مع خط فرعي إلى حيفا بفلسطين في مرحلة رابعة، ووصل إلى المدينة المنورة في محطته الأخيرة عام 1908 على بُعد 250 ميلا من مكة المكرمة.
حينها أمر السلطان أن يُمَدَّ اللباد (الصوف) على آخر 30 كيلومترا من الخط، والذي كان يتم غسله بماء الورد كل يوم احتراما وتقديسا لتلك الأراضي المباركة وأنشأ هناك مسجد العنبرية (بلا منبر ولا تؤدى فيه الجمعة).
اختلفت المصادر التاريخية في تقدير طول السكة ما بين 1465 كيلومترا و1322 كيلومترا، وشمل 40 محطة تفصل بينها مسافة 20 كيلومترا، وتُقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار خط الحجاز بنحو 50 مدينة ومركزا، كما تضمن الخط 2666 جسرا حجريا وجسورا للمشاة و250 رصيفا و7 جسور حديدية و9 أنفاق و7 أحواض و37 صهريجا ومستشفى في تبوك ومعان وورشة صغيرة في حيفا ودرعا ومسبك، وورشة أنابيب في حيفا ومخازن عديدة على طول مسار الخط ومركزا لصيانة المقطورات.
انطلاق أول قطار
بعد ما يقارب 8 سنوات من العمل ومواجهة المعوقات الداخلية والخارجية، البشرية والفنية والطبيعية والمالية تم تدشين الخط الحجازي، ووصل أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة قريبا من درب الحاج الشامي التاريخية في 23 أغسطس/آب 1908، وعلى متنه مندوب الدولة العثمانية وصحفيون محليون وأجانب وضيوف.
بينما أرجئ الاحتفال الرسمي إلى 25 شعبان 1326هـ الموافق 1 سبتمبر/أيلول ليصادف ذكرى تولي السلطان العرش، وحضر الحفل آنذاك 30 ألف مدعو وممثلون عن الصحف الأجنبية.
وجاء في مجلة المقتطف المصرية أن المهندس مختار بك حملته الجموع مع جواد باشا على الأكتاف احتفاء بهما خلال مراسم هذا الاحتفال، وذكرت مراجع أخرى أن عزت باشا كان حينها قد عزل من وظيفته وأرسل إلى المنفى بعد الانقلاب الدستوري على السلطان، فلم يذكر أحد اسمه في الاحتفالات.
بعد حفل التدشين انتظمت رحلات 15 قاطرة بين دمشق والمدينة 3 مرات أسبوعيا، تستغرق الواحدة منها 56 ساعة بالحساب الرسمي، و7 سفرات من حيفا إلى دمشق تستغرق كل منها 12 ساعة.
وبدأ تبادل البضائع وانتقال الركاب يوميا بين حيفا ودمشق، وفي موسم الحج خُصصت 3 قطارات للعمل وكان الخديوي عباس حلمي الثاني قد استخدم القطار لأداء فريضة الحج عام 1910.
كانت حركة القطار ومواقفه منظمة حسب أوقات الصلوات الخمس، وتحولت إحدى قاطراته إلى مسجد متنقل وعُين له إمام للصلاة وأصبح “المحمل النبوي الشريف” أو “الصرة السلطانية” التي اعتاد سلاطين بني عثمان إرسالها مرفقة بالهدايا إلى الأراضي المقدسة، تأتي عبر القطار بدل الطريق البحري سابقا.
كان من المقرر أن يستكمل مشروع الخط إلى مكة المكرمة إلا أن الشريف حسين بن علي، الذي تولى إمارة الحجاز في ذلك العام عرقل مساعي إتمامه على الرغم من المزايا التي عرضتها عليه الدولة.
فبقي السفر حينها من المدينة إلى مكة عبر القوافل كما كان في السابق، وبقي الحجاج القادمون بحرا إلى جدة يقطعون الطريق إلى مكة والمدينة على الجمال، وحجاج العراق يأتون إلى الديار المقدسة عبر الصحراء.
خدمات متعددة
كان خط حديد الحجاز بديلا عن طريق البر لقوافل الحجاج، إذ اختصر مدة السفر من 40 يوما إلى 4 أيام فقط مقابل 3.50 جنيهات إسترلينية، ووفر لهم طريقا آمنا من غارات البدو التي كانت تستهلك من خزينة الدولة 150 ألف ليرة ذهبية، إضافة إلى 60 ألف ليرة ذهبية لتأمين هذا الطريق.
كما أحدث تحولا اجتماعيا في المناطق التي كان يقطعها من خلال بناء المحطات، فشجع على استقرار القبائل والتجمعات البدوية وعزز تطوير الزراعة وتنشيط التجارة في ذلك الوقت، وأسهم في تزايد أعداد الرحالة والمستكشفين الذين جعلوا الحجاز ضمن نتاجهم الفكري وأفردوا لها فصولا في مؤلفاتهم.
كان من مظاهر العمران إضاءة المدينة المنورة بالكهرباء لأول مرة وإقامة المباني الكبيرة التي تطل على ميدان المحطة، وتحولت حيفا إلى ميناء إقليمي ومدينة تجارية وتكونت معالم أحياء عمان الأولى غرب السكة، ومن بين السمات المهمة للمشروع الجسور العشرة في عمان، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.
من جهة أخرى، شكّل إنشاء الخط التجسيد العملي والأهم لفكرة الجامعة الإسلامية، وأسهم في إظهار الدولة العثمانية بأنها ما زالت تحافظ على قوتها المالية وقدرتها التقنية والهندسية.
وكانت الدولة قد استفادت عسكريا من الخط لسهولة وصول القوات العثمانية لجنوب الجزيرة العربية وإمكانية تصنيع أدوات عسكرية في “معمل القدم” لصالح هذه القوات، وأصبح وسيلة مهمة للمواصلات مع شبه الجزيرة العربية لا سيما لتعزيز القوات المرابطة في اليمن والحجاز خلال الحرب العالمية الأولى.
كما كان الخط صاحب الفضل في صمود القوات العثمانية في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية وكذا مقاومتها لقوات “الثورة العربية” نحو 3 سنوات.
معارضة ومواقف عدائية
عارضت القبائل البدوية مد الخط الحديدي الحجازي، وأطلقت على قطاراته اسم (عبدان) وشنت غارات عنيفة ضد الجنود والمنشآت، وتم التغلب على ذلك بواسطة المنح والهبات وخلع شيوخ القبائل وتشغيل أفرادها وأفراد العشائر في الأعمال الإنشائية.
كما اتخذت بريطانيا وفرنسا مواقف عدائية تجاه المشروع لأنه يتعارض مع مصالحهما في المنطقة. وسعت لفرض القيود على إنشائه ووضع العقبات أمام عملية التبرع في مستعمراتها ثم وضع خطط لمشاريع مناوئة حتى لا يتم تشغيله لأهميته ومكانته العسكرية.
وكانت بريطانيا وراء تخريب الخط الحجازي، إذ حرض مسؤولوهم البدو على تدمير الجسور ونزع القضبان الحديدية ونسف القطارات. وفي عام 1917 انضم الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورانس، المعروف بلقب “لورانس العرب” إلى “الثوار العرب” وقاد الهجمات على القطار الحجازي بقاذفات أفضت إلى تدميره.
وذكرت مراجع تاريخية أن لورانس أعطى قطعة من الذهب لقطاع الطرق البدو مقابل كل قضيب يفكك ويدمر على السكك الحديدية من معان إلى المدينة المنورة.
بقايا الخط ومحاولات تصليحه
- استخدم القطار من المدينة المنورة إلى دمشق لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى أواخر سنة 1919، وكان الأمير علي بن الحسين قد استقله حينها أثناء زيارته لأخيه فيصل في دمشق.
- في 18 أغسطس/آب 1921 أصدرت الحكومة العثمانية قانونا بإلحاق الخط بنظارة الأوقاف في أنقرة باعتباره وقفا إسلاميا وقسمت ريعه بين عمارة الحرمين الشريفين وخدمات تيسير الحج.
- عام 1924 تم تقسيم الخط في مؤتمر لوزان بين الدول التي يمر بأراضيها (قوات الانتداب الفرنسية في سوريا والبريطانية في الأردن وملك نجد والحجاز) وأيدت عصبة الأمم في العام التالي هذا القرار.
- عام 1935 حددت مداولات الدول المعنية (السعودية، سوريا، وفلسطين) خلال مؤتمر حيفا كلفة صيانة الخط وإعادة تسييره في 100 ألف و92 جنيها إسترلينيا، وظل الحوار قائما حول آليات الدفع وتحديد نسبة كل دولة إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 فتعطلت كل مساعي إعادة تسيير الخط.
- عام 1955 عقد اجتماع آخر في الرياض بين الأطراف الثلاثة، ثم تجددت الفكرة عام 1978، إلا أن هذه المبادرات لم تر النور، وحتى الآن لم يتم التوصل إلى نقطة البدء بالعمل.
- لم يتبق من آثار خط سكة الحديد الحجازي سوى منشآت قديمة وأطلال مباني المحطات وآثار سكة متروكة للاندثار وقاطرات متوقفة، حتى إن عربة السلطان بقاطراتها الثلاث التي يزيد عمرها على 110 أعوام استثمرت كمطعم ومقهى وكافتيريا.
سكة الحجاز بلغة الأرقام
- عام 1909 استخدم 19 ألفا و965 حاجا القطار الحجازي وارتفع عام 1912 إلى 30 ألفا وإلى 300 ألف عام 1914.
- ما بين 1909-1913 نقل القطار مليونا و311 ألفا و907 من المسافرين العسكريين والمدنيين (967 ألفا و845 مدنيا، 344 ألفا و62 عسكريا).
- ارتفع عدد السكان في المدينة المنورة من 20 ألفا عند افتتاح الخط إلى 80 ألفا عند بداية الحرب العالمية الأولى، وانتقل في حيفا من 15 ألفا عام 1905 إلى 23 ألفا عام 1914.
- بين عامي 1903 و1912 بلغ مكسب منطقة حوران من تصدير قمحها أكثر من نصف البضائع المنقولة على خط السكك الحديدية بين دمشق وحيفا.
- بلغت موارد الخط قبل الحرب العالمية الأولى بعد تنزيل كل النفقات مبلغ 32 ألفا و768 ليرة عثمانية ذهبية؛ أي أنه حقق فائضا في ميزانيته على الرغم من أن تشغيله اقتصاديا كان لمدة 6 سنوات فقط قبل الحرب.
- بلغت الإيرادات سنة 1908 مبلغ 174 ألفا و512 ليرة عثمانية و188 ألفا و692 ليرة عثمانية سنة 1909، ثم ارتفعت سنة 1910 إلى 260 ألفا و890 ليرة عثمانية.
- إضافة إلى العمران والازدهار اللذين صنعهما، حقق المشروع أرباحا مالية بلغت عام 1913 ما يقارب 82 ألف جنيه إسترليني.
- نقل 91 مليونا و626 ألفا و316 طنا من المواد الغذائية على الخط سنة 1909، وارتفعت الكميات المنقولة في 1910 إلى 112 مليونا و7 آلاف و112 طنا من المواد الصناعية والغذائية.
قالوا عن خط سكة الحجاز
- علي الطنطاوي: امتدّ انتظاره دهرا والحمل به عمرا، حملَته أمه 8 سنوات من سنة 1901 إلى سنة 1908 وعاش بعدما وُلد 10 سنين من سنة 1908 إلى سنة 1918، ثم أصابته علّة مزمنة، فلا هو حيّ فيُرجى ولا ميت فيُنسى، الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر.
كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب فأصبحت لا غاد عليها ولا رائح منها ولا مودّع أسيان ولا مُستقبِل فرحان. - محمد شعبان صوان: إن السكة أصبحت رمزا للتجزئة العربية وللضرر الفادح الذي ينتج عن تخريبها، إذ تكمن في وجودها المصلحة المشتركة والروابط التي من شأنها أن تفرض إصلاح السكة وتشغيلها.
- الباحث البريطاني جيمس نيكلسون يقول عن السكة: إن إنشاءها كان حكاية للتحمل والإصرار جعلتها الحرارة والظروف القاسية وعداوة القبائل، ملحمة”.. ويقول عن السلطان: إن انهماكه الشخصي ودعمه الثابت عاملان أساسيان وراء إنجاح المشروع، ويفسران لنا كثيرا النجاح النهائي لما بدا في البداية خطة بعيدة الاحتمال جدا وخيالية.
- وصف الأميركي جاسترو، الذي عاصر إنشاء السكة جمع المال من مسلمي العالم بأنه مثال مدهش للمكانة المميزة التي ما زال وسيظل الحج إلى مكة يحتفظ بها عند المسلمين.
- قال عنه الملحق العسكري الفرنسي: إن إحدى النقاط المثيرة في هذا المشروع هو غياب الاختلاس بين الطبقة العليا من اللجنة المشرفة، كل المال المجموع ذهب إلى هدفه المناسب، وقد نظر الأعضاء إلى الإنشاء بصفته واجبا دينيا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.