في سياق التوترات السياسية التي سبقت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ظهرت المدرسة التعبيرية في ألمانيا، وذلك ضمن مذاهب ومدارس أخرى في الفن التشكيلي في أوائل القرن الـ20.
تبنى المذهب التعبيري فلسفة مفادها أن الهدف من وراء العمل الفني هو التعبير عن المشاعر الداخلية والتجارب الذاتية والحقائق المشوهة.
وعلى إثر ذلك رفضت المدرسة معايير وقواعد الرسم الكلاسيكية الصارمة والمعايير النموذجية للجمال، واستهدفت عوضا عن ذلك التعبير عن الحالة العاطفية للإنسان الذي يخوض معارك نفسية ومادية حامية الوطيس في تلك الفترة المعقدة من تاريخ الإنسانية.
كان الهدف ببساطة هو التعبير عن القلق الوجودي وأزمة المعنى بعدما رأى العديد من الفنانين أن عملهم قد يكون وسيلة لتحدي النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي القائم.
لذلك سعوا لفضح الجانب المظلم للحداثة، ومعالجة موضوعات مثل الاغتراب والعزلة وأهوال الحرب، في حين أن منتقدي “الحركة التعبيرية” يتهمونها بأنها ذاتية للغاية وتفتقر إلى المهارات الفنية.
السمات الأساسية
واحدة من السمات الفريدة للمذهب التعبيري هي تركيزه على العالم الداخلي للفنان. إذ كان الرسامون التعبيريون يرسمون ما يشعرون به بدلاً مما رأوه، مستخدمين أشكالًا مبالغا فيها أحيانا بضربات فرشاة جريئة، وألوانا مكثفة للتعبير عن مشاعرهم، حيث كان الهدف تقديم فن يستحضر تجربة عميقة وعاطفية للمشاهد.
ويعد الرسام النرويجي إدوارد مونش أبرز رواد المدرسة التعبيرية، وشوّه في معظم أعماله الشكل لصالح التصوير المكثف للعواطف، وتأثرت أعماله بشدة بتجاربه الشخصية والاضطرابات الداخلية، حيث عاش نصف عمره تقريبا بين المصحات النفسية، كما حاول الانتحار عدة مرات.
تركز لوحات مونش على موضوعات مثل الحب والموت والقلق الوجودي. وتجسد لوحته الأكثر شهرة “الصرخة” التي رسمها في أواخر القرن الـ19 جوهر التعبيرية، بألوانها الحارة، وضربات الفرشاة الدوارة، وشخصية مشوهة تصرخ في عذاب معبرةً عن القلق الوجودي واليأس الذي يكابده الإنسان الحديث.
ويمكن القول إن أسلوب مونش التعبيري نقل تصورًا خامًا وغير مصفى للعواطف الإنسانية. كما رفض التقنيات التقليدية، وركز على التقاط الجوهر الداخلي للنفس البشرية بدلاً من المظاهر الجسدية في سبيل التعبير عن مشاعره بقوة كبرى.
واحد من أبرز رواد المذهب التعبيري أيضًا هو الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، الذي ولد في روسيا عام 1866 وتوفي في 1944. وكان يؤمن بأن الفن يجب أن ينفصل تمامًا عن المراجع المرئية الصارمة والدقيقة، وأن يُثير بدلاً من ذلك المشاعر من خلال الشكل واللون فقط.
وعليه، فإن الموضوع الذي تتناوله اللوحة لا يتحتم أن يكون واقعيًا، بل المهم أن تحرك عاطفة المشاهد. وقد تميزت أعماله بأشكال هندسية وألوان وتركيبات مجردة تهدف إلى إثارة ردود روحية وعاطفية في نفوس المشاهدين. بإيجاز، كان فنه متجذرًا بقوة في اعتقاده بأن الألوان والأشكال لها صفات روحية وعاطفية جوهرية.
التحول نحو الأدب
لم يقتصر الفن التعبيري على الرسم، بل امتد إلى أشكال فنية أخرى مثل النحت والأدب والسينما والمسرح. وقد ارتبطت أعمال كتاب وشعراء كبار مثل رينيه ماريا ريلكه بالحركة التعبيرية، فريلكه ذاته أسر القراء بشعره العميق التأملي لعقود.
فقد قدم في أشعاره استكشافًا عميقا للوجود الإنساني والأبعاد الروحانية بين الإنسان وذاته، وبينه وبين العالم. وقد طوّع في شعره صورًا غنية وحية أتاحت للقراء أن ينغمسوا في تجربة حسية من خلال الكلمات. كانت موضوعاته كذلك تفند بنبرة فلسفية حالات الحب والحنين وتعقيدات الحالة الإنسانية بتوازن دقيق بين الضعف الحقيقي والبصيرة العميقة.
جديرٌ بالذكر أن المذهب التعبيري لم يقتصر على بلد أو منطقة بعينها، بل كان له تأثير واسع في جميع أنحاء أوروبا، ووصل حتى إلى الولايات المتحدة. إلا أن التعبيرية الأوروبية على وجه الخصوص كان لها تأثير كبير على تطور الفن عالميًا من نواح كثيرة.
فقد كانت الأساس لحركات فنية لاحقة مثل التعبيرية التجريدية وفن البوب بسبب تركيزها على التعبير الشخصي والصفات العاطفية وتحدي الوضع الراهن، مما مهد الطريق أمام التجارب الفنية الراديكالية في القرن الـ20 وما بعده.
وعلى الرغم من أن المذهب التعبيري لم يدم طويلًا، فإن تأثيره على عالم الفن لا يمكن المبالغة فيه. فقد ساعد رفضه للمثل الفنية التقليدية واحتضان التجارب الذاتية على تمهيد الطريق للفن الحديث والمعاصر كما نعرفه اليوم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.