طهران – تشبه الترجمة عملية النحت، إذ يكون المعنى بين يدَي المترجم وعليه أن ينحت له جسما رشيقا بكل دقة وذوق، ليتجلى بهيأته الجديدة. وهي أسلوب حياة، حيث يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر “قل لي كيف تنظر إلى الترجمة لأقول لك من أنت”.
الترجمة عن غير العربية
حالها كحال البلدان التي تسعى للتنمية، تهتم إيران بالترجمة. وعن تاريخ عملية الترجمة في إيران، يقول المترجم الإيراني المخضرم عبد الله كوثري للجزيرة نت إن الإيرانيين لم يكونوا غرباء عن الترجمة، إذ يمكننا التحدث عن حركتين للترجمة في الثقافة الإيرانية.
ويشرح كوثري أن الحركة الأولى للترجمة في إيران نشأت في القرون الإسلامية الأولى وتحديدا في القرنين الثالث والرابع للهجرة، وخلال هذه الفترة سعى الإيرانيون المسلمون إلى فهم الفلسفة اليونانية وترجموا النصوص من اليونانية أو السريانية إلى العربية، كما ترجمت إلى اللغة العربية بعض النصوص التي كانت تعبر عن فكر الإيرانيين قبل الإسلام، وفق كوثري.
ويوضح أن بغداد كانت مركز هذه الأنشطة، ومن بين كبار المترجمين في هذا العصر، يمكننا أن نذكر أشخاصا مثل ابن المقفع.
ويضيف كوثري أن نتيجة هذه الجهود كانت ظهور مجموعة من المفكرين والفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي والرازي وآخرين الذين أحدثت كتاباتهم تغييرا كبيرا في مسار الفلسفة والعلوم في الثقافة الإسلامية.
ويتابع كوثري قائلا إن حركة الترجمة الثانية بدأت من عهد سلالة القاجار (1779-1925) بالترجمة من اللغات الأخرى إلى الفارسية، وتستمر حتى اليوم، رغم أنها مرت بمنعطفات كثيرة.
وفيما يخص حال الترجمة اليوم في إيران، يشير كوثري لترجمة الأعمال الفكرية والأدبية والعلمية في إيران مباشرة عن اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية، فضلا عن العربية.
وفي هذا الإطار، تقول المترجمة عن الإنجليزية شيفا مُقانلو إن هناك توجها لدى جيل الشباب في إيران نحو تعلم اللغة الكورية واليابانية، آملة أن تشهد ساحة الترجمة في بلادها بالمستقبل القريب مترجمين عن هاتين اللغتين.
وتضيف مقانلو في حديثها للجزيرة نت أن إيران متقدمة جدا في سرعة ترجمة الأعمال العالمية وذلك لأنها حتى يونيو/حزيران 2023 لم تكن عضوا في اتفاقية “برن” لحماية الأعمال الأدبية والفنية الواقعة في سويسرا وهذا ما يعجل عملية الترجمة لكن بنفس الوقت يفتح المجال للمترجمين غير الجيدين.
في هذا الصدد يُذكر أن كثيرا من الكتب تترجم أكثر من مرة في إيران، على سبيل المثال، ترجمت رواية “سيدات القمر” للكاتبة العمانية جوخة الحارثي 11 مرة خلال عام واحد.
ترجمة الفكر العربي
في نصف القرن الأخير، لم تخلُ المكتبة الفارسية من الفكر العربي. حتى نهاية القرن الماضي، كان يترجَم الفكر العربي في المجلات المتخصصة للفكر وبعض الكتب مثل أعمال المفكر المصري حسن حنفي والأديب اللبناني حنا الفاخوري.
ومنذ بداية القرن الـ21، شهدت حركة ترجمة الفكر العربي للفارسية تحولا كبيرا بجهود المترجم محمد آل مهدي، الذي ولد في مدينة الأهواز جنوب غربي إيران في بيت ديني، لأب كان رجل دين يُدرّس في مدرسة دينية شيعية.
ويقول محمد آل مهدي في حديثه للجزيرة نت إن والده كان حريصا على أن يبتعد أولاده عن اثنين، السياسة والفلسفة، ويضيف مبتسما وأنا اخترت هذين الاثنين تحديدا من بين كل العلوم.
وفي سبعينيات القرن الماضي، ألّف كتابين باللغة الفارسية حول الفلسفة اليونانية.
وبعد ذلك بسنوات قليلة، شد آل مهدي الرحال إلى بلاد الشام ليدرس طب الأسنان في جامعة دمشق. ويقول “التقيت هناك برفاق مغاربة، كان يجمعنا الفكر اليساري، عرفت الفكر المغربي من خلالهم، حيث قرأت “نقد العقل العربي” لمحمد عابد الجابري، بعد أن كنا قد قرأنا معا ما يقوله الجابري حول ابن خلدون وابن سينا”.
وبعد سنوات من القراءة في هذا المجال، بدأ آل مهدي بترجمة الفكر المغربي، حيث ترجم 9 كتب للجابري وكتاب عنه، كما ترجم كتابين للمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز وكتابين أيضا للمفكر المغربي عبد الله العروي وكتابا للمفكر المغربي علي أومليل.
وفي السياق، يعتقد محمد آل مهدي بأن المغرب يضم الجزء الأكبر من الفكر العربي.
وعن قرّاء الكتب التي يترجمها، يقول آل مهدي إن كتابين من الكتب التي ترجمها أصبحا اليوم ضمن مصادر المنهج الدراسي في الجامعات الإيرانية.
ويضيف أن هناك أكاديميين إيرانيين باتوا ينتظرون هذه الكتب ليتعرفوا على الفكر العربي. ويؤكد أن الكتب التي ترجمها حسنت نظرة الإيرانيين إلى العرب بشكل كبير، معربا عن سعادته بهذا الشأن.
ويعتقد آل مهدي بأنه على المترجم أن يخلق لغة جديدة تخدم المعنى، ممّا جعله يبتعد عن ترجمة عناوين الكتب، بل يختار عناوين جديدة نتيجة فهمه للكتاب الذي يترجمه بكل أمانة.
ويُذكر أن بعض الكتب التي ترجمها محمد آل مهدي قسمت المهتمون بين مؤيد ومعارض للعنوان والمضمون.
ومن المفكرين العرب الذي تُرجمت أعمالهم الجزائري محمد أركون، حيث ترجم له آل مهدي كتاب “جواهر الكلام”. وفي العقد الأخير بدأ العديد من المترجمين بالتركيز على الفكر العربي.
ترجمة الأدب العربي
يعرف الشعراء الإيرانيون نزار قباني جيدا، كما يعرفون حافظ الشيرازي وأحمد شاملو. ويعرف أدونيس ومحمود درويش أيضا كل متذوق للأدب في إيران، حيث إن هناك مترجمين مختصين بترجمة الشعر العربي إلى الفارسية ومنهم حمزة كوتي ومحمد حمادي وموسى أسوار وموسى بيدج.
وإلى جانب الشعر، تُرجمت الرواية العربية إلى الفارسية بدءا من ستينيات القرن الماضي بأعمال غسان كنفاني ونجيب محفوظ وآخرين.
ويصف المترجم الأهوازي محمد حزبائي الترجمة بأنها عملية تهدم “جدار برلين” بين الثقافات.
ويشير حزبائي في هذا الإطار إلى أساطير بين النهرين ويقول “إن إله بابل عندما رأى الشعوب يتحدثون مع بعضهم البعض ويمكنهم التواصل مع بعض قرر أن يجعلهم مختلفين لبسط سيطرته عليهم ممّا أدى إلى تعدد اللغات”.
صعوبات
وعن الصعوبات التي يواجهها المترجم يقول إن التقديس لا يسمح بنقل الرأي الآخر، ويستذكر في هذا الإطار “التقديس الذي تكنه السلطات الإيرانية للحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي والتي تسميها “الدفاع المقدس” ويقول حزبائي إنه مُنع من ترجمة روايات جميلة تعكس القضية الإنسانية ومعاناة الإنسان في الحرب بسبب تشدد الجانب الإيراني في هذا الشأن.
وفي السياق، يشير إلى عملية أخذ الإجازة للرواية من قبل وزارة الثقافة التي قد تستغرق عاما كاملا أو أكثر وعملية الحذف التي تواجهها الكتب من قبل رقابة الوزارة، فضلا عن أزمة الورق في البلاد.
ويصف حزبائي علاقة القارئ الفارسي بالرواية العربية بـ”المتينة”، ويرى أن الرواية العربية لها مكانتها في المكتبة الفارسية اليوم.
وفيما يخص سرعة حركة الترجمة، يقول إن السرعة جيدة حيث هناك ترجمات تبدأ مباشرة بعد الكتابة وقبل الإصدار الأول للكتاب نتيجة لتواصل المترجمين في إيران مع الكتّاب في العالم العربي.
وترجم محمد حزبائي روايات للعراقيين سنان أنطون وأنعام كجه جي والسوداني أمير تاج السر والكويتي إسماعيل فهد إسماعيل والعمانية جوخة الحارثي.
كما ترجم بعض المترجمين لآخرين من الكتّاب العرب، ومنهم رضا عامري الذي خصص سنوات لترجمة أعمال الأدباء العرب إلى الفارسية مثل نجيب محفوظ وغسان كنفاني والطيب صالح وإلياس خوري وأحلام مستغانمي.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول رضا عامري الذي ولد في مدينة عبادان جنوب غربي إيران، “حتى بداية تسعينيات القرن الماضي كانت الترجمة عن العربية في إيران تقتصر على ترجمة الكتب الدينية بالإضافة إلى ترجمات أدبية معدودة”.
ويضيف عامري أن القومية الفارسية في القرن الماضي كانت تعيق عملية الترجمة عن العربية، ويؤكد أن العولمة التي شهدها المجتمع الإيراني منذ تسعينيات القرن الماضي ساهمت بشكل كبير بتوسع الترجمة عن العربية في إيران.
ختاما، جدير بالذكر أن الترجمة عن العربية والتركية والكردية في إيران تتم غالبا على أيدي المواطنين الإيرانيين العرب والأتراك والأكراد التي تكون لغة المبدأ لغتهم الأم، فضلا عن آخرين أتقنوا اللغة من خلال المراكز العلمية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.